عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الأسبوع

«القومية الصحية» وإخفاق أخلاقى

الأخبار

السبت، 23 يناير 2021 - 06:32 م

بقلم/ عبدالله‭ ‬البقالى

لم نكن فى حاجة إلى انتظار الزمن ليكشف عن هذه الحقائق المذهلة المرتبطة بالعدالة الإنسانية فى العالم، الذى يواجه لحظة امتحان حقيقية وغير مسبوقة لقياس منسوب وعمومية هذه العدالة، ونبهنا فى مناسبة سابقة إلى أن هذه اللحظة العصيبة التى يجتازها المجتمع البشرى برمته، بسبب تداعيات وباء كورونا فرضت إعادة النظر بعمق فى العديد من المفاهيم، التى اعتبرناها إلى حدود ما قبل الأزمة المستجدة بأيام قليلة من المسلمات، التى أضحت تفرض نفسها فى نظام عالمى جديد.

الأزمة الطارئة أعادت العديد من المفاهيم، التى نظر إليها النظام العالمى الجديد من زاوية الرجعية والتخلف إلى واجهة الاهتمام والنقاش العمومى والتداول المعرفي، ذلك أن مظاهر الإغلاق والعزل والحجر، التى تسلحت بها جميع دول العالم للتخفيف من تداعيات الوباء ومحاصرتها أعادت إلى الواجهة مفهوم )الدولة الوطنية القُطرية(، فحتى التكتلات الإقليمية والجهوية الدولية القوية، كما هو الشأن بالنسبة للاتحاد الأوروبى الذى نجح فى مواجهة أكبر وأخطر التحديات سارعت دوله المتحالفة إلى إغلاق حدودها الجغرافية، وألغت حرية التجول بينها وأوقفت حركة الطيران، ووجدت كل دولة من دوله نفسها تواجه مصيرها المحتوم وحيدة، ولنا ما شاهدناه وعشناه ولاحظناه من ردود فعل قوية للعديد من شعوب هذه الأقطار خير مثال على المراجعة الفكرية التى فرضتها جائحة كورونا لمفهوم الدولة القُطرية.

التداعيات الفكرية والقيمية للوباء وضعت قيم ومثل التضامن بين الشعوب فى مختلف أقطار المعمور فى مواجهة محك صعب وخطير، حيث طفح إلى سطح الاهتمام العالمى مفهوم (القومية الصحية)، التى تعنى أن المصلحة القطرية قبل المصلحة العالمية، (أنا أولا)، وبما أن القدرات القطرية تختلف من دولة إلى أخرى، وتتباين من منطقة إلى أخرى، فالأكيد أن مفهوم (القومية الصحية) أعطى الأفضلية والأسبقية فى التوفر على إمكانيات مواجهة الوباء للشعوب التى تتوفر دولها على الوسائل الكفيلة بذلك، فى حين تركت شعوب الدول المستضعفة لمواجهة المصير المجهول الذى ينتظرها.

وحينما يحذر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية السيد "تيدروس أدهانوم فيبريسوس" قبل أيام قليلة من "أن تخزين لقاحات فيروس كورونا من طرف الدول الغنية ليس أمرًا غير أخلاقى فحسب، بل إنه سيؤدى أيضا إلى إطالة أمد الوباء، وأن العالم على شفير فشل أخلاقى كارثي، وثمن هذا الإخفاق سندفعه بأرواح وأرزاق فى الدول الأكثر فقرا".

إن المسئول الأول فى منظمة الصحة العالمية بحديثه عن الأزمة الأخلاقية العالمية، فإنما يقوم بتحصيل الحاصل منذ اليوم الأول من خروج هذا الفيروس إلى الوجود، حيث سارعت جميع دول العالم إلى تفعيل مقولة (أنا وبعدى الطوفان) وها هى اليوم منظمة الصحة العالمية تتفرج على سيادة العديد من تصرفات ومظاهر وأشكال تصريف وتجسيد هذه القناعة. فالدول الغنية سارعت إلى اقتناء كميات كبيرة جدا من اللقاحات المكتشفة، ومارست بذلك احتكارا فظيعا وضع حياة شعوب العالم فى مواجهة خطر حقيقي، خصوصا أمام ضعف وندرة التصنيع التى تميز بداية إخراج أى منتوج إلى الوجود، والأدهى من ذلك أنها تتفرج على تعمد الشركات المصنعة للقاحات الجديدة للحصول على موافقة الهيآت الناظمة فى دولها لتسهيل وتسريع تسويق اللقاح بخلفيات قُطرية وطنية، وفى أحايين أخرى بخلفيات تجارية محضة، عوض تقديم بياناتها إلى منظمة الصحة العالمية من أجل دراستها وإعطاء الموافقة لبداية تسويقها، وهذه الجهات المصنعة لهــذه اللقاحات تحتمى فـــى هـــذا السلوك بمبـــدأ )سيادية القرار الصحي(، الذى لا يعنى فى نهاية المطاف غير مفهوم )القومية الصحية( الذى ولد من رحم الجائحة المستجدة.

الإحصائيات المتعلقة بتوزيع اللقاح كما هو الشأن بالنسبة لحجز كميات هائلة لفائدة الدول الغنية تكشف حتى الآن عن حقائق صادمة جدا، ذلك أنه وحسب منظمة الصحة العالمية، فإنه إلى حدود منتصف الشهر الجارى فإن شعوب الدول الغنية استفادت حتى هذا التاريخ من 39 مليون جرعة لقاح فى 49 دولة من الدول الأعلى دخلا فى العالم، فيما لم تستفد الدول الأقل دخلا إلا بأقل من مائة جرعة فقط، والقادم قد يكون أسوأ فى الأمد المنظور لأن الغالبية الساحقة من اللقاحات تم حجزها قبل إنتاجها من طرف الدول الغنية، بما يعنى أن مفهوم )القومية الصحية( سيزداد ترسخا مما سيضع المجتمع الدولى أمام منعرج جديد غير مسبوق، لن يعود بإمكانه الاعتماد على قيم التضامن والتآزر والتعاون لمواجهة الأزمات المستجدة والكوارث الطارئة، وسيطرح علامات استفهام كبيرة ومحيرة حول مصداقية الجهود الدولية المبذولة، والتى تصرف عليها المبالغ المالية الخيالية محل مساءلة، فهذا العالم الذى لم يستطع إعمال جهوده وتسخير إمكانياته الكبيرة بصفة مشتركة للتصدى لجائحة صحية خطيرة، من الصعب أن تصدق شعوب العالم بعد ذلك بأن هذا العالم قادر فعلا على مواجهة تغيرات المناخ والتصدى لتداعياتها الخطيرة على الحياة العامة.

ومن المفارقات المثيرة للملاحظة والمستوجبة للدراسة والتحليل، أن العلماء الذين كانوا وراء اختراع اللقاح فى بعض الأقطار الغنية هم مواطنون من الدول الأقل دخلا، التى تتعرض حاليا لأبشع مظاهر التمييز فى الاستفادة من التلقيحات، لا نقول إنه كان واجبا على الدول المستضيفة لجهودهم العلمية الاعتراف بأفضال الدول الأقل دخلا عليها، ولكن نلعن الظروف والأجواء والعوامل السياسية والأكاديمية التى كانت وراء نفور هذه النخبة العالمة من بلدانها واحتضانها من طرف دول تقدر العلم وتجل العلماء.

نقيب الصحفيين المغاربة

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة