ياسر رزق
ياسر رزق


ورقة وقلم

ذكريات من ثورة 25 يناير وأيامها

ياسر رزق

السبت، 23 يناير 2021 - 08:13 م

كانت‭ ‬ثورة‭ ‬شعبية‭ ‬حقيقية‭ ‬بلا‭ ‬رأس،‭ ‬استثمرها‭ ‬أصحاب‭ ‬مؤامرة‭ ‬«الفوضى‭ ‬الخلاقة»،‭ ‬وقفزت‭ ‬عليها‭ ‬جماعة‭ ‬الإخوان‭ ‬وتسلطت‭ ‬على‭ ‬الحكم،‭ ‬ولولاها‭ ‬ما‭ ‬عرفنا‭ ‬صانع‭ ‬مجد‭ ‬مصر‭ ‬الجديد‭.‬

الإخوان استولوا على ثورة ٢٥ يناير ووثبوا على جثث الشرفاء الذين انتفضوا من أجل الحرية

كأن هذه الأحداث تقع اليوم، لا من عشر سنوات مضت..!

أكتب بغير ترتيب.

أرقب مشاهدها تترى فى ذاكرتى، وتخترق رأسى، لتطل علىّ أمام عينىّ، أرنو إليها بحنين واشتياق، أطالعها أحياناً بابتسامة سعادة، وأحياناً بمذاق مرارة بددتها الأيام.

الآن أجد أنى لم أنتبه أن العمر يعدو بى بعنف، بلا كلل وبلا هوادة، بسرعة فائقة، معها أتخيل أن الأماكن، المعالم، الأشجار، أعمدة الإنارة، الظلام، الشروق، كلها هى التى تندفع تقابلنى، لا أنها ثابتة وأنى الذى فى حالة حركة دائبة وأنى أتجاوزها لأقابل ما بعدها.

أشعر أن العمر يحملنى على ظهره وينطلق على طريق خالٍ من عربات، كأنه يريد أن يتخلص من حمولته، يسلمنى عند خط النهاية، ويستريح..!

فى مثل هذه الأيام، قبل عشر سنوات، كنت أعيش حلمى الشخصى الذى راودنى منذ اخترت طريقى وأمسكت بالقلم، كنت أجابه تحدياً ما أروعه، بعد أن بلغت أعلى طموح يتوق إليه كل صحفى، وهو أن يصبح رئيسا للتحرير، حققت إذن حلمى وبلغت طموحى، وحان الوقت لأثبت أنى على قدر مسئولية الحلم والطموح، كرئيس لتحرير جريدة "الأخبار" خلفاً لقامات عالية لشخصيات هى أهم رموز الصحافة العربية.

يوم ١٨ يناير عام ٢٠١١، عينت رئيساً للتحرير. أبلغنى صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى بالقرار فى العاشرة و٢٠ دقيقة صباحاً.

قبل منتصف الليلة السابقة، كان قد اتصل بى يسألنى عن رأيى فى الجريدة، وكيف يمكن أن تتطور، غير أنه لم يفصح أو يلمح بأنى سأكون موضع اختيار لأرفع مناصبها الصحفية. وأخذت أقمع مشاعرى وتساؤلاتى ولم أدع تطلعاتى تستبق وقائع اليوم التالى.

***

أسبوع إذن قبل الانفجار، كان موعدى مع رئاسة تحرير "الأخبار".

كانت البلاد فى حالة التهاب، تشتم فى جنباتها رائحة "شياط"، على حد وصف نقيب نقباء الصحفيين المرحوم كامل زهيرى.

رائحة "شياط"، تنبعث من حريق، قبل أن تتبدى نيرانه، وتلهب وجوه الجميع، بعد أن عجزت الأنوف عن أن تشتم دخان الاحتراق..!

كنت كغيري، أشعر باختناق، لكنى لم أتوقع حجم الحريق، ولا أتصور أن البركان المصرى الخامد سوف ينفجر، ويطلق حممه، لتكاد تحرق البلاد حرقاً لا يخمد إلا بعد أن يتركها رماداً.

كنت أرفض التوريث، وكان يبدو كقدر محتوم، يراه الجميع، حتى وإن حاول البعض الآن إنكاره بأثر رجعى، اعتماداً على ذاكرة "السمك" الشعبوية.

كنت أراه طعنة فى الكبرياء المصرى، من رجل كان بطلاً ممن استرجعوا الكبرياء فى معركة الكرامة.

كنت أشعر بحزن، كمواطن وكصحفى يتمنى أن يرى بلاده فى مستوى مختلف يليق بها ديمقراطياً، وأنا أتابع التزوير الفاحش فى الانتخابات النيابية، الذى جرى بفجور لم يسبق له مثيل فى شهر ديسمبر ٢٠١٠.

لكنى لم أكره أبدا الرئيس الراحل حسنى مبارك. أبداً..!

حتى عندما ضقت، كنت استذكر.. أنه استعاد آخر حبة رمل مصرية فى طابا، وأنه لم يسمح بإقامة قاعدة عسكرية أجنبية على أرض مصر، وأنه كان يبغض إسرائيل، وكثيراً ما سمعته فى لقاءات خاصة، يبوح بمشاعره، برغم أنهم حاولوا بعدما خرج من منصبه، أن يخنقوا أى مشاعر عرفان تجاهه، بالادعاء أنه كان "كنزا" لإسرائىل..!

دمعت عيناى كغيرى وأنا أسمع مبارك يوم الأول من فبراير ٢٠١١، وهو يقول: إنه عاش فى هذا الوطن، وحارب من أجله، وعلى أرضه سيموت.

لكن فى اليوم التالى.. تغير كل شىء، حينما وقعت معركة الجمل، ومات من مات، جففت دموعى، وانطلق الغضب من صدرى إلى قلمى.

***

منذ اللحظة الأولى، كانت جريدة "الأخبار" تنقل الحقائق، التى أغضبت أهل الحكم والثوار على حد سواء. لكنها نالت احترام الجميع.

كنا أول من أطلق على ما يجرى وصف "الثورة"، ومع ذلك نبهنا إلى ما يحدث على الأرض من تحريك لعرائس، يمسك بخيوطها أناس فى الخارج..!

لست أؤرخ الآن لثورة 25 يناير ولا أروى مشاهد ما جرى التى رأيتها رأى العين.

لكنى فى ذكراها العاشرة، سوف أقفز من محطة لأخرى اعتبرها ذات مغزى فى مسار الثورة.

***

فى يوم الأول من فبراير، صدر بيان عن القيادة العامة للقوات المسلحة، يعلن تفهم الجيش لمطالب الشعب، ويصفها بـ"المشروعة"، ويؤكد أن الجيش لن يطلق رصاصة واحدة على المتظاهرين.

لم يذع البيان إلا مرة واحدة، لكنى طالعته بما يستحق من اهتمام.. وقرأت ما وراء عباراته، وكلماته، وحروفه..!

كان المعنى أن الجيش يعترف بمشروعية الثورة، وأنه يطمئن الجماهير على أمنها وسلامتها، بل يدعوها إلى التظاهر السلمى فى أمان.

تدافعت الأحداث محمومة.

***

فى يوم الثامن من فبراير، دعيت مع رؤساء مجالس إدارة ورؤساء تحرير الصحف، إلى لقاء مع عمر سليمان الذى صار نائباً لرئيس الجمهورية.

دار خلال اللقاء حوار بالغ الصراحة، وكتبته حرفياً، ونشرته فى "الأخبار" من أجل الناس والحقيقة والتاريخ.

يومها رفض عمر سليمان رحيل مبارك من السلطة، لكنه تحدث باسم المؤسسة العسكرية، بينما غيره كان هم أصحاب لسانها.

حذر من الفوضى قائلاً: انها ستقتاد البلاد إلى المجهول، ونبه إلى خطورة العصيان المدنى على المجتمع.

دعا عمر سليمان شباب الثورة والقوى السياسية إلى الحوار، وكان الحوار دائراً بالفعل مع تلك القوى بما فيها جماعة الإخوان لكنه كان أشبه بحوار "الطرشان"..!

ثم أطلق نائب الرئيس عبارة ستظل تحمل اسمه فى ملفات التاريخ، إذ قال: "إما الحوار أو الانقلاب"..!

وأذكر أن أحد الحاضرين سأله: من سيقوم بالانقلاب؟!

فرد عمر سليمان بسخرية: أنا الذى سأقوم بالانقلاب!

وكان الحاضرون قد أدركوا قصد نائب الرئيس..!

***

فى اليوم التالى.. اختص الفريق صلاح حلبى لـ"الأخبار" بتصريحات مدوية، حينما قال إنه لا حل للأزمة الحالية فى البلاد إلا بتدخل القوات المسلحة، ودعا الجيش إلى تسلم السلطة لإنقاذ البلاد.

وعقب صدور الجريدة، تلقيت اتصالاً من المرحوم صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى يسأل عن مغزى نشر هذه التصريحات التى كان يظنها تستهدفه هو شخصياً، إذ كان الفريق صلاح حلبى وصفوت الشريف −رحمهما الله− تجمعهما علاقة مصاهرة!

لكنى قلت له: ما قاله الفريق حلبى وقد كان رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة، هو صيحة شخصية وطنية تبتغى صالح البلاد.

ظهر نفس اليوم.. تلقيت اتصالا من قائد عسكرى كبير وصديق، يثنى على جرأة الجريدة فى نشر تصريح يدعو للاطاحة برئيس مازال فى سدة الحكم. وسألنى عن رأيى الشخصى، فقلت: "إن الدستور ينص على أن مهمة الجيش هى حماية أمن وسلامة البلاد، وفى ظنى أنكم تأخرتم".

رد قائلاً: انتظر.. سوف تسمع خيراً.

***

بعدها بأربع وعشرين ساعة، صدر بيان عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم العاشر من فبراير تحت عنوان "البيان الأول".

تابعت الناس البيان عبر شاشات التليفزيون، وكان معظمهم يسمع للمرة الأولى باسم المجلس الأعلى، وكانت القلة تعرف بوجوده، وأنه لا يجتمع إلا مرتين سنوياً، فى ذكرى حرب أكتوبر، وفى ذكرى تحرير سيناء، كعرف بروتوكولى.

كانت لى ٣ ملاحظات عن شكل ومضمون البيان، أولها أن اجتماع المجلس الأعلى انعقد فى غيبة رئيسه وهو رئيس الجمهورية ومعنى ذلك أن المجلس لم يعد يعترف بشرعية كونه قائداً أعلى للقوات المسلحة، وثانيها أن البيان صدر على أنه البيان الأول، أى أن هناك مواقف تالية متصاعدة ستصدر فى بيانات متتابعة، وثالثها أن البيان ألمح إلى اتخاذ إجراءات وتدابير للحفاظ على الوطن ومكتسباته وطموحات شعب مصر العظيم.

علمت وقتها أن المجلس الأعلى لم يجتمع صباح يوم إصدار البيان أى العاشر من فبراير، وإنما كان مجتمعا طوال الليلة السابقة وحتى الفجر، فى انتظار أن يأتى بيان من الرئيس مبارك يعلن فيه استقالته.

كان موقف أعضاء المجلس الأعلى الذى يضم كبار القادة موحداً.

بل إن المرحوم الفريق رضا حافظ قائد القوات الجوية −التى تنظر إلى مبارك على أنه رمزها− حينما سئل عن رأيه، أجاب بحسم إن حكم مبارك انتهى، ولو كان فيه ذرة أمل سيضيعها نجله.

كان موقف الفريق مهاب مميش قائد القوات البحرية مماثلا فى حسمه.

أما موقف الفريق عبدالعزيز سيف الدين قائد الدفاع الجوى فقال للقادة: حتى لو بقينا هنا حتى يوم القيامة، فلن يرسل مبارك رداً، ولن يعلن استقالته.

ثم أمسك بقلمه وعكف على كتابة البيان الأول.

***

بعد إذاعة البيان.. اتصلت باللواء إسماعيل عتمان مدير الشئون المعنوية "فى ذلك الوقت" أحاول استخلاص أى معلومات عن البيان. سألنى عن رأيى، فقلت له ملاحظاتى الثلاثة، واتفق معى فيها بشكل عام.

فى ذلك اليوم.. كتبت مانشيت جريدة "الأخبار" بعنوان "الجيش ينحاز للشعب"، بينما كان عدد من زملائى يحاولون اثنائى واختيار عنوان آخر من نص البيان، خشية أن انتقام مبارك لو بقى فى منصبه سيطال قادة الجيش ورأسى معهم..!

ليل يوم العاشر من فبراير، ألقى مبارك بيانه الأخير، وكان كارثيا، فاقدا لصلاحيته الزمنية، مثلما كانت قراراته طوال أيام الثورة، تأتى متأخرة بعدما تجاوزتها الأحداث.

فور إذاعة البيان.. اتصل بى اللواء إسماعيل عتمان وسألنى عن رأيى فى بيان مبارك، ولعله حادث غيرى لاستخلاص رأى الإعلام.

ورددت عليه قائلاً: اسأل قوات الجيش فى ميدان التحرير!

بعدها ألقى اللواء عمر سليمان بياناً لمحاولة إزالة تأثير بيان مبارك.

وتلقيت اتصالاً آخر من اللواء إسماعيل عتمان يسألنى عن رأيى.

قلت له: كأنى كنت استمع إلى مبارك.

ثم أضفت: ماذا تنتظرون؟!.. إن الجماهير ستزحف إلى مقر الرئاسة ومنزل الرئيس، وأخشى من كارثة دماء!

لكنه رد بهدوء قائلاً: اطمئن.. لقد قضى الأمر، وستسمع خيراً فى الصباح.

جملة اعتراضية: نص ما دار بينى وبين اللواء إسماعيل عتمان حرفياً، كتبته فى هذا المكان يوم ٣ يوليو ٢٠١٢، فى مقال بعنوان "تحية للشجعان" أحيى فيه أعضاء المجلس الأعلى بعد ٣ أيام من تسليمهم السلطة، وأكتب عن وقائع ما جرى، بينما كان دخان الأحداث لم يتبدد بعد..!

***

طال انتظارى لـ"الخير" الذى حدثنى عنه اللواء عتمان، منذ صباح يوم الحادى عشر من فبراير ٢٠١١، إلى ما بعد العصر.

وأدركت أن الرئيس الراحل كان يماطل فى إصدار بيان تنحيه أو الإذعان لتنحيته عن السلطة، ولنترك التسمية للتقويم والتاريخ..!

قبيل حلول المغرب.. اتصل بى اللواء إسماعيل عتمان يبلغنى بأن أترقب إعلان البيان المنتظر، وقال لى إن من سيتلوه ليس مبارك وإنما نائبه عمر سليمان.

وقال لى: ستكون هناك مرحلة انتقالية قبيل إجراء الانتخابات ونقل السلطة، فى حدود شهرين.

ورددت قائلاً: لا أظن أن الأمر سينتهى فى هذه الفترة الزمنية المحدودة. ربما سيستغرق وقتاً أكثر بكثير.. حتى يتم تعديل الدستور وإجراء انتخابات برلمانية وانتخابات رئاسية.

***

مضت عشر سنوات كاملة على تلك الأيام.

ليس كل ما جرى، معلوما.

لكن ككل الأحداث الكبرى، تتباين نظرة الناس إليها، حسبما تقع مصالحهم، وحسبما يتجه تفكيرهم، وحسبما يصل إليهم من معلومات.

والسؤال الذى لا ينفك الناس عن ترديده: هل كانت ٢٥ يناير، ثورة أم مؤامرة؟!

وأقول بمنتهى الصدق مع النفس، وبرغم أن صورتى كانت مرفوعة فى ميدان التحرير ضمن أعداء الثورة، إنها كانت ثورة شعبية حقيقية.

نعم.. كانت المؤامرة موجودة، وكان المخطط الأمريكى معدا، منذ أعلنت كوندوليزا رايس عن خطة "الفوضى الخلاقة" لتغيير خريطة الشرق الأوسط، ومنذ ألقى الرئيس الأمريكى أوباما خطابه عام ٢٠٠٩ فى جامعة القاهرة الذى ألمح فيه إلى النوايا الأمريكية تجاه نظم الحكم فى الشرق الأوسط، ومنذ فتحت السفارة الأمريكية فى القاهرة، ودوائر السلطة فى واشنطن أبوابها لقيادات جماعة الإخوان تستمع إلى خياناتهم، وتبشرهم بوعد السلطة، ومنذ صار ميدان التحرير ميداناً لكل أجهزة المخابرات المعادية وغير المعادية، مثلما كان ميداناً للثوار، ومنذ تدرب عدد من نشطاء التواصل الاجتماعى فى صربيا على أساليب التظاهر والضغط على الشرطة وقلب النظم.

لكن المتآمرين، ليسوا هم من زوجوا الثروة بالسلطة، وليسوا هم من وضعوا مخطط التوريث ومضوا فى تنفيذه لا يأبهون بشعب أو جيش، وليسوا هم من جوعوا الناس ولا أشاعوا الجمود فى البلاد ولا هم الذين زوروا الانتخابات ولا هم من خنقوا الأمل فى نفوس الشباب الفقراء منهم والأغنياء..!

ولم يكن مئات الآلاف الذين خرجوا إلى الشوارع والميادين فى أرجاء مصر أعضاء فى مؤامرة..!

كانت ٢٥ يناير، ثورة شعبية، تنبأت بها قوى كبرى وسعت لاستثمارها، وقفزت عليها جماعة الإخوان ووثبت على جثث الشرفاء الذين انتفضوا من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

ثم جاءت ثورة ٣٠ يونيو التى خرج فيها عشرات الملايين من المصريين، وأنقذت البلاد من حكم الإخوان الإرهابى المعادى للوطنية المصرية، وصححت المسار، وأعادت البناء، وشيدت معجزة على أرض مصر.

***

لولا ثورة ٢٥ يناير، لكان مبارك قد رحل، بينما بقى نظامه فعلا وفكرا ونهجا. ولعلى أقول: لكانت سلطة الحكم قد أوسعت للإخوان مكانا بجوارها تحتفظ فيه بالحكم، ويستحوذون هم على السلطة إلى أمد غير منظور.

لولا ٢٥ يناير، ما كان اللواء أركان حرب عبدالفتاح السيسى، قد أصبح الرئيس السيسى، وما كنا عرفنا صانع مجد مصر الجديد.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة