يوسف شاهين
يوسف شاهين


فى ذكرى ميلاده الـ ٩٥

شاهين.. ودرس الأداء الكبير لقناوى فى دنيا «باب الحديد»

الأخبار

الأحد، 24 يناير 2021 - 06:42 م

كتب: خالد محمود

فى حياة الفنان شخصيات بمثابة محطات من ذهب قد توقظ مكنون الموهبة بداخله، عليه حينها أن يدرك بعمق احساسه ان تلك الشخصيات ربما تدخله التاريخ، وقد لا تأتى فرصة أخرى لمثيلاتها، وبالتالى التمسك بها وعدم التعالى عليها أو تجاهلها خشية من صدمة جمهوره الذى تعود عليه فى مناطق محددة أو طمعا فى اجر اكبر.

المخرج الكبير يوسف شاهين الذى نحتفل اليوم بذكرى ميلاده الخامسة والتسعين منح الاجيال درسا عظيما حينما قرر ان يجسد شخصية قناوى بنفسه فى فيلم "باب الحديد"، الذى قدمه عام 1958، بعدما خشى أكثر من ممثل أن يجسدها، وتراجع العديد امامها،ومنهم الفنان شكرى سرحان وقت أن كان فتى الشاشة فى تلك الفترة، ولكنه اختلف مع المنتج على 50 جنيهًا طلبها زيادة على أجره، وكذلك الفنان محمود مرسي.

وقف شاهين خلف الكاميرا ليقدم لنا اداء عبقريا لشخصية من صميم الحياة..فكرة وروح وهدف، تحمل ملامح من خير وملامح من شر.. 

فيلم باب الحديد تجربة خاصة فى حياة شاهين

هند رستم ويوسف شاهين شكلا ثنائياً رائع الإداء

جازف شاهين ونجح، بل ودخل تاريخ الممثلين الكبارمن اوسع الابواب بشهادة نقاد العالم، لم يتوقف عند محطة الجمهور وصدمتهم الاولى، والتى انعكست على شباك التذاكر، ومع مرور الايام صفق هذا الجمهور واصبح يشاهد الفيلم بشغف كبير، فالجمهور الذى لم يقبل على العمل فى دور العرض لأنه شاهد نوعية جديدة من السينما غير المألوفة،بعد سنوات أدرك نفس الجمهور بأنه أمام عمل فنى يحمل العلامة الكاملة وبطل قلب موازين البطولة فى السينما المصرية، احدث بقصته شرخ فى جدار الإنسانية المزيفة ليعيد بناءها من جديد، بل واعتبر الفيلم انتصارا للسينما حسب شهادة الناقد الكبير جيمى راسل وامتدح تجسيد يوسف شاهين شخصية "قناوي" بعبقرية، تتمثل فى مهارته فى المزج بين أنها شخصية يقودها الهوس الجنسى والغيرة بل وارتكاب الجرائم، وتمتعه بجانب إنسانى كى يتعاطف الجمهور معه، وحتى لا يفقدوا شعورهم بالإنسانية نحوه حيث يعيش صراعا كبيرا بين معاناته ورغباته.

الفيلم الذى نعيد قراءته اليوم تحية لشاهين،متكامل لاقصى درجة، الاخراج العالمى والكتابة القوية لعبدالحى اديب، ومن ثم الأداء التمثيلى المدهش لشاهين الممثل فى شخصية قناوى الذى أتاحله عمله كبائع للجرائد بمحطة القطار التحرك وسط أوجاع وأفراح مريدى تلك المحطة التى شبّهها شاهين ب " الدنيا " تجمع المُحب والمُفارق، الحزين والسعيد، القادم والراحل.

لم يطمح قناوى إلا فى تتويج حبه، يجعل هنومة " هند رستم " تشاركه حلمه" بيت على البحر وقطعة أرض يزرعها وأبقار تعاونهم فى الزراعة"، كان حلم هنومة يسير فى اتجاه مغاير، وهو الزواج من أبو سريع " فريد شوقى " وترك الرصيف بلا رجعة والعيش مع من أحبها والإنجاب منه، فيما نجد حلمًا آخر يقوده أبوسريع فى صورة الزعيم الذى يسعى لتكوين نقابة لحماية الشيالين وإيفاء حقوق من أُصيب نتيجة عمله، هكذا استطاع شاهين أن يجمع أحلام العامل والحبيب والحبيبة والعاشق العاجز ليكتسب الفيلم قوته من البناء الدرامى المتماسك والجريء للغاية، والذى يعتمد على عدة شخصيات تحمل تركيبات نفسية ثرية للغاية تنبع من خلفيتها الاجتماعية والثقافية والسياسية.

فى رحلة استرجاعنا تفاصيل هذا العمل وما تركه داخلنا، نتذكر كيف بدأ بصوت عم مدبولى "حسن البارودى"، يتحدث عن محطة القطار وعن الناس الذين يتواجدون بها، حتى يحكى لنا عن قناوى، ويجب أن نلاحظ كيف ظهر قناوى لاول مرة على الشاشة مكسوروضعيف محنى الظهروحيدا وكأنه يقدم لنا كشف رائع لأبعاد الشخصية، لم يكتف شاهين بهذا القدر من الفصح عن شخصية قناوى فأظهر أنه مصاب بالحرمان الجنسى لدرجة تقترب من الجنون وتعريته إلى هذا الحد.

فى مشهد حوار بين بائعات المشروبات الغازية نسمع عن عشق قناوى الشديد لهنومة بينما لا تبادله نفس الشعور ونعرف ذلك عندما تقول جملتها الواقعية " انا ابص لقناوى " فى نظرة استهزاء،ويتبعها فى مشهد اخر جملة يقولها طلبة الشيال فى حوار مع عم مدبولى وابو سريع " غيرش بقى لما يلاقى واحدة خرج بيت ولا عرجة زيه " أثناء إلقاء هذه الجمله ظهر وجه قناوى امام الشاشة من خلف زجاج يجعله يبدو مثل الابله، هذا المشهد وضح مشكلة قناوى فهو يظهر من خلف زجاج وكأن هناك شيئا يفصله عن المجتمع.

لكنه لا يأبه لذلك، وعندما يسمع ان هنومة كاد ان يدهسها القطار يذهب إليها مسرعا لكى يراها ويطمئن عليها ولكن عندما تجده فى حجرتها تطرده وتصرخ فى وجهه ويجرى خلفه الأطفال يقذفونه بالحجر حتى أصيب فى رأسه وهذا رمز اخر.

يعود قناوى إلى المكان الذى يسكن فيه ونجده يرسم هنومة على صوره الفاتنة التى يزين بها مكان اقامته، يبدو ان قناوى يتخيل ان هنومة معه فى هذه الحجرة ملكه، يجلس على الارض يحرك السروال حتى يحجب أشعة الشمس عنه أخيرا يشعر قناوى بأنه إنسان.

تنتقل بنا كاميرا شاهين إلى تلك الفتاة التى طلبت من قناوى فى بداية الفيلم قرش تليفون تخاطب حبيبها التى تنتظره على رصيف المحطة فى لهفة وتشوق ولكن نجد الشيالين يتهجمون عليها لفظيا بمعاكسات ومضايقات فهذا المجتمع غير الإنسانى لا يحترم الحب والعشاق مثلما يستهزأ بحب قناوى لهنومه. يراقب قناوى قصة الحب تلك لانه يجدها مشابهة لقصة حبه لهنومة. ننتقل لواحد من أهم مشاهد الفيلم " حوار قناوى وهنومة " فى هذا المشهد يفصح قناوى عن عشقه لها ورغبته فى الزواج منها ويعرض عليها أحلامه والسكن معها فى شقة على البحر وإنجاب الأطفال، ولكن يجب ان نتوقف عند موضوع إنجاب الأطفال قليلا فعندما يقول قناوى لهنومة "ومنقساش على عيالنا ابدا " لترد عليه " هو فى حد بيقسى على عياله " لنجد نظرات حزن والم من قناوى لنتساءل هل واجه قناوى طفولة قاسية تسببت فى حاله هذا ؟! لن نجد إجابة لهذا السؤال طوال أحداث الفيلم ليظل هذا الأمر غامضا.

وفى تطور اخر يسمع قناوى عن حادثة رشيد من عم مدبولى فيقرر قتل هنومة انتقاما من رفضها له وزواجها من ابو سريع، ونقف هنا عند واحد من اعظم مشاهد الفيلم على الاطلاق بل ولخص فكرته، ترقص هنومة داخل القطار فى سعادة وهى توزع المشروبات الغازية على الكل لترى قناوى حزينا وحيدا خارج القطار فتعرض عليه مشروبا وتبتسم له فيرقص من الفرح خارج القطار وهى ترقص بالداخل، شاهين يقول فى هذا المشهد أن قناوى سيظل منعزلا عن المجتمع لن ينغمس فيه أبدا سيظل بالنسبة لكل شخص غريب عنهم حتى ان تصالحت معه هنومة بهذه الصورة.

وفى مشهد آخر تذهب حلاوتهم لتأخذ " الجردل " من قناوى ولكنه ينقض عليها مسرعا بطعنات السكين ويضعها فى الصندوق لأنه كاد يعتقد انها هنومة، فللنظر إلى طريقه طعن قناوى ورفع مستوى التشويق والاثارة التى أظهرته اللحظة، ويتبعه مشهد شاعرى رائع نرى قناوى يشهد الصندوق الذى وضع فيه جثة حلاوتهم " هنومه كما يعتقد " داخل القطار ونجد نظراته كلها حزن على وداع حبيبته،وفى نفس الكادرتلتقط الكاميرا ايضا تلك الفتاه حزينه وعيونها مليئه بالدموع تودع حبيبها الذى سيرحل فى قطار.

وتختلط الرمزية بالواقعية فى مشهد اخر رائع عندما يعود قناوى إلى المكان الذى يسكن فيه يحمل القطة وكأنها هنومة ويحتضنها بكل حب وحنان يبدأ فى حكاية أحلامه معها ولكن القطة تخربش قناوى وتترك جرحا فى مكان قلبه مثلما فعلت هنومة معه،لذلك قرر قتلها. يعلم ابو سريع بمقتل حلاوتهم ويعلم قناوى بأن هنومة على قيد الحياة، يحاول ابو سريع الإمساك بقناوى ولكنه يهرب ويذهب مع هنومة ليحضر لها الجردل، يأتى ابو سريع ومعه الشرطة وتجتمع الكثير من الناس لتحاول انقاذ هنومة من قناوى ولكنهم يجدونه يضع السكين حول رقبتها، يبدأ عم مدبولى فى الكلام مع قناوى وطرح أحلامه البسيطة قائلا " هعملك فرح كبير اوي.. قوم البس جلابيه الفرح يا قناوى فرحك يا قناوى ده انا هعملهولك اجمل فرح.... يلا دخل ايديك جوا الاكمام "، وعلى موسيقى فى منتهى الشاعرية نرى قناوى مبتسما سعيدا اخيرا سيحقق حلمه ويتزوج من هنومه ولكن لن تدوم سعادته طويلا حتى يعلم انها كذبه ويبدأ فى الصراخ بشكل مؤلم ومؤثر لينتهى الفيلم بقناوى مكبل الأيدى بعد أن فقد حبيبته ونجد الفتاة الاخرى وحيدة حزينة بعد ان ذهب حبيبها ورحل.

..ويبقى باب الحديد احد اعظم سينما شاهين.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة