ليس ثمة كاتبٌ يمكنه إعداد كل عبارة وكل تفصيلة فى الرواية بشكل مسبق.
ليس ثمة كاتبٌ يمكنه إعداد كل عبارة وكل تفصيلة فى الرواية بشكل مسبق.


سو تونغ: كلما كان الظلام قائمًا والمخاطر محدقة كان أفضل للكتابة

أخبار الأدب

الإثنين، 25 يناير 2021 - 12:33 م

 فى أواخر الثمانينات، بزغ نجم سو تونغ فى أفق الوسط الأدبى تحت رداء كتاب الطليعة، وأطلق عليه مع مايوان، ويوهوا، وقه فى وهونغ فنغ «نمور الأدب الطليعى الخمسة». حيث تعلموا الكتابة الحداثية الغربية، وتمردوا على السرد الأدبى التقليدي، وهم معروفون بوعيهم الذاتى القوى والابتكار الفني. ومنذ ذلك الحين، غدا «الكاتب الطليعي» وسمًا مصاحبًا لكتابات سوتونغ.  واليوم،  ومع بلوغ سو تونغ عقده السادس، لا يزال يحمل طموحات ورغبات قوية حيال الأدب، لكن لم تعد الطليعة هى الميدان.  وفى الآونة الأخيرة، أعادت شركة موه تيه نشر العديد من أعماله مثل «الأرز»، «زوجات ومحظيات»،«حياتى كإمبراطور» وغيرها من الأعمال.
هنا ترجمة حوار معه أجرته «أخبار بكين».
نقلا عن مجلة أخبار بكين

• لقد أنتجت حتى الآن تسع روايات وعددًا كبيرًا من القصص القصيرة، وكنت قد عبرت عن اهتمامك بالقصص على نحو أكبر، هل يمكن أن تحدثنا عن الفرق بين الاثنين كما تراه؟
• الرواية قصر مشيد عماده الكلمات، فالقصة القصيرة بيت أو جناح مشيد، الاختلاف يكمن فى الحجم، بينما المواد المستخدمة هى نفسها فى الأساس، فلا شيء أكثر من الطوب والأسمنت والخشب والحجارة. يمكن توقع حجم العمل حال بناء بيت، فعلى سبيل المثال، عندما أكتب قصة قصيرة، كنت قد خططت فى الأصل لإنهائها فى غضون خمسة أيام، ومع ذلك، لو لم يكن الأمر سلسا، فقد يستغرق الانتهاء من كتابتها ثلاثين يومًا بحد أقصى، ونادرًا ما يحدث خلاف ذلك. بينما يصعب تطبيق هذا المعيار حال الحديث عن الرواية، لأن ثمة كثيرا من الأشياء يجب التخطيط لها، فلو ظهرت مشكلة فى واحدٍ من الأعمدة أو العوارض، لما أمكن بناء القصر بأكمله. لذا، يمكننا فى كثيرٍ من الأحيان سماع مثل هذه الأمثلة، فقد يبدأ شخص ما كتابة رواية مدفوعًا بطموح عالٍ، ولا يتمكن من إكمالها لاحقًا، دون أن يدرك أين يكمن الخطأ. يمكن أن تكون القصة المرجو كتابتها مدروسة لأبعد حد، حتى أن الكاتب قد يفكر فيما هو أكثر من احتياج القصة، لكن ليس ثمة كاتبٌ يمكنه إعداد كل عبارة وكل تفصيلة فى الرواية بشكل مسبق. ناهيك عن الروائع التى تنسج مليون كلمة، حتى القصص التى تبلغ كلماتها خمسمائة ألف أو ستمائة ألف كلمة، فيمكن عند الوصول لمنتصف الكتابة، أن تنسى أسماء الشخصيات فى البداية، وعند الترجمة، ترى أن ثمة خلطا قد يحدث فى الأسماء.
•سواء أكانت جائزة نوبل أم حكم النقاد على الكاتب، فكلاهما يقدران الرواية بشكل أكبر، ويستخفان بقيمة وأهمية القصة القصيرة، يبدو أن الرواية وحدها هى الأقدر على تمثيل أعلى مستوى للكاتب، لمَ يسير الأمر هكذا؟
• هذه بالفعل وجهة نظر شائعة، حتى من قِبل الكتاب أنفسهم. أليس مونرو، فى ظنى، هى الوحيدة التى فازت بجائزة نوبل عن القصص القصيرة. ولما سألها الآخرون لماذا لا تكتب الروايات، هل لأنها لا تحبها أو لأنها تستخف بها، قالت بصراحة شديدة أنها طالما رغبت فى كتابة الرواية طوال حياتها، لكنها لم تستطع كتابتها، أو لنقل لم تستطع كتابتها على نحو مرضٍ. وهذا يدل على أن كتابة الرواية حلم فى مخيلة معظم الكتاب. لا يمكننا العودة وسؤال كتاب القصة أمثال تشيخوف وبورخس عما يعتقدونه بهذا الصدد، لأنهم قد ماتوا منذ سنوات عديدة دون أن يتطرقوا لهذه القضية. ومع ذلك، أظن أن الكُتاب ليسوا محصنين ضد الابتذال، علاوة على شعورهم بأن الروايات أقوى، فهى مرحلة تحقيق الكاتب لطموحه. لم أقل ما قلت لإنكار قيمة القصة، فرغم شغفى الشديد بالقصة القصيرة، إلا أنى آمل فى كتابة رواية مدهشة. التقليل من شأن القصة ناتج عن مجموعة من العوامل، منها عامل السوق والأوساط النقدية، وهذه الظاهرة موجودة فى العالم كله منذ مئات السنين، فالجميع هكذا بشكل موحد يحابون شيئا على حساب آخر، أو ربما يكون ذلك معقولًا من منظورهم. ورغم عدم اجتراء أحدٌ للقول بأن تولوستوى أعظم من تشيخوف بعدة أضعاف، لكن بالحديث عن ذلك، فسيحتل تولوستوى دائما المرتبة الأولى، وهذا اختلاف بسيط.
• فى الواقع، ثمة قوة تميز القصة مكمنها اقتضابها المقرون بالبلاغة، فأحداثها المكثفة قد تحبس أنفاس المرء لتصل ذورة الإبداع والتأثير فى دفعة واحدة. كنت مفتونًا بالقصص عندما كنت فى الإعدادية، وتوقفت عن كتابة الروايات لفترة من الوقت لتكتب القصص، هل يمكنك التحدث عن فهمك للقصة؟
• ثمة أنواع عدة من القصة القصيرة، وقد لا تقاس بمعيار واحد. هناك الكثير من القصص لتشيخوف انتقدت الممارسات الحالية، مثل «الحرباء»، و»الرجل فى القضية»، واستهدفت بشكل مباشر أشخاصًا ينتمون لطبقة اجتماعية معينة، ولهذه الأعمال سمة انتقادية لاذعة، بينما اتسم المزيد من الأعمال بالدقة والتعقيد، حيث غاصت فى أعماق النفس البشرية وكشفت النقاب عن علاقة الإنسان بالإنسان. تتسم قصص تشيخوف بالبساطة الشديدة، ومثال ذلك قصة «فانكا» المعروفة للجميع، «فانكا» طفل صغير بريء على سجيته، تحمل الكثير من المتاعب ليكتب خطابا لجده، فكر فى إخباره بما يلاقيه من مآسٍ، لكنه لم يكن يعرف فى الأساس عنوان جده، فلم يكن بإمكانه سوى كتابة عبارة «إلى قرية جدي» وهذه رسالة مقدر لها ألا تُستلم. أتت خاتمتها حزينة هكذا، من يملك ألا تهتز أعماقه عند قراءة مثل هذه القصة، وذلك ما ذكرته من «التأثير دفعة واحدة»، وهو تأثير لا يقتل المرء بل يزلزل وجدانه. وبطبيعة الحال، تفوز بعض القصص اعتمادًا على الحس الشكلي، والحس الشكلى طريقة الكاتب فى النظر للعالم، ومثال ذلك بعض قصص بورخس القصيرة، فيمكن ألا تحتوى على علاقات بين الشخصيات، كما قد لا يضم نسيجها التفاصيل، بل يشرع فى الكتابة انطلاقًا من شعاع ضوء يلوح له، وهذا العمل الذى يؤديه بورخس قد يقف فى عظمته على قدم المساواة مع ما يؤديه العالِمُ، فقد منح البشر العديد والعديد من الطرق والزوايا التى يرون العالَم من خلالها.
• «الأرز» هى باكورة أعمالك الروائية، كتبتها وأنت فى العشرينيات، لكنك قلت إن احتفاء القراء الشديد بها قد تجاوز احتفاءك بها شخصيًا، وأنك ترى أن بها عيوبا خطيرة، لم علقت عليها على هذا النحو؟
• أولا وقبل كل شيء، «الأرز» عمل غير واقعي، كما أنه من الصعب للغاية أن تتكرر أو تتباين مع فصيل مجتمعى أو جزء معين من حياتنا الواقعية، وبطبيعة الحال، هى ليست أيضا عملا خياليا محضا. فعندما كنت بصدد كتابة هذه الرواية، ثمة روح متمردة كانت تقطنني، فقلت ما لا يروق للأذن سماعه، وكان ذلك لجذب الانتباه. كنت شابا صغيرا مفعما بالحيوية آنذاك، وشعرت أنه ينبغى على تحطيم شيء ما، أى ما يسمى بالتابوهات التى تقرها البشرية ويخضع لها الأدب، ومن منظور آخر يمكن القول إننى قد قيمت عالم الشر البشرى بمنظور حسابي. يكتب الجميع عن جمال الطبيعة البشرية، بينما أردت الكتابة من خلال التجول فى غياهب الذات المظلمة للطبيعة البشرية، فكنت أتنقل ما بين البطل وو لونغ والبطلة تشى يون وأبنائهما، وهكذا مع الجميع. ليس لدى أدنى تخوف بشأن وصف الشعور بالظلام، حيث اعتقد أنه كلما كان الظلام قائمًا كان أفضل، وكلما كانت المخاطر محدقة كان أفضل، فوضع كهذا يدفع صوب المبالغة. وبعبارة أخرى، لم أواجه أمثال هؤلاء الأشخاص السيئين فى الحياة الواقعية، ولم أصادف مثل هذه العلاقات الشخصية السيئة من قبل، فقد حِكت هذه الشخصيات فى حينها منتهجا المبالغة.
• قلت سابقا أن أعمالا مثل «الأرز» و»الفرار فى عام 1934» تهدف لفهم عقدة الرغبة فى الانتحار وصرخة التمرد التى تواكب مرحلة المراهقة، هل سيتم تغيير موقف الكتابة هذا بنهاية فترة المراهقة؟
• نعم، لأن الكتابة تمر كذلك بمرحلة مراهقة. فعندما كتبت «زوجات ومحظيات» فى وقت لاحق، رأيت أنى قد دخلت مرحلة النضوج، رغم كونى فى العشرينيات آنذاك، إلا أن عقليتى كانت مختلفة بالفعل. وطأة الصراخ تنفتح وتطفو على السطح بعض الأشياء المبالغ فيها، يمكن أن ينقصها النضج، حتى أنها قد تفتقر للمنطق. والآن وبالعودة للنظر بهذه الأعمال، تنتابنى حالة معقدة، فتارة أتساءل عن تدنى الكلمات المستخدمة آنذاك، وتارة أتنهد شوقا وحسرة، ففيض حماستى آنذاك لم يعد له وجود الآن.
• غالبًا ما تضم رواياتك صورًا قاسية للموت والعنف والمرض، فهل لذلك علاقة بإصابتك بمرض التهاب الكلى وتسمم الدم حين كنت طفلا، هل كون ذلك داخلك شعورًا مبكرًا بالخوف من الموت؟
•  أتعتقد أن ذلك بمثابة هجوم مضاد حيال المجتمع؟ «يضحك» لم أفكر حقا فى هذه المسألة، لكن ما قلته صحيحًا إلى حد ما، فثمة كتاب من جيلى قد شعروا أن الأشياء التى أكتبها قاسية للحد الذى لا يسمح بغض الطرف. فى واقع الأمر، زامنت فترة مراهقتى «الثورة الثقافية»، حيث كان المجتمع بأكمله غارقا فى العنف، وقد استحال العنف أسلوب حياة.  فلا يعتقد أحد أن ثمة ما يستحق إثارة جلبة جراء ضرب طفل لطفل دون سبب. فلو استقبحتك عينا شخص ما، أو كان فى مزاج سيئ، فسيوسعك ضربًا، فالعنف لا يُدان. ولأنى أتأثر بكل ما يحيط بى منذ طفولتي، فلم أشعر بأى ثقل عند الكتابة، بل كنت أستعرض فحسب ذاكرتى الحقيقية. على عكس المجتمع المتحضر اليوم، حيث الشعور بأن كتابة العنف أمر غير حضاري.
• هل ما يسمى بـ «الأدب الطليعي» يصنف الكاتب بأنه ناضج؟
• ليس صحيحًا بالضرورة، فقد انضوى تحت لواء الأدب الطليعى فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى بعض من الكتاب ممن هم فى منتصف العمر، فجوهر الأمر يكمن فى النظر للموقف الإبداعي، وبكلمات اليوم إنه «البناء الشخصي» للإبداع. هل يأمل أن يكون مختلفا عن الجميع أم لا، يريد أن ينأى بنفسه عن الكتاب الرائجين آنذاك ممن هم فى منتصف العمر، والكتاب اليمينيين، وكتاب الجيل الثالث، فيكتب ما يعجزون هم عن كتابته، حيث الأشياء التى يستحيل عليهم كتابتها، فمواضيع اهتمام كتاب الطليعة تختلف عنها بالنسبة لهم.
• هل كان لديك فكرة تحدى الجيل الأكبر سنًا من الكتاب؟
 • فى الواقع لديّ، لكن فى تلك الحقبة كان الناس جميعا أكثر تأدبا، فلم يصدر عنهم أى إعلان عن تحدى شخص ما أو مذهب معين، غير أن مثل هذه الأفكار كانت بالتأكيد فى طيات قلوبهم.
• لقد أصبح كتاب الطليعة الذين برزوا فى أواخر الثمانينيات هم الركيزة الأساسية للوسط الأدبى الصينى المعاصر. كنت قد قلت تعبيرًا بليغًا  إن «الطليعة الحقيقية على حالها دائما» لكن أنت ويوهوا وقه فى وآخرون من كتاب الطليعة آنذاك قد عادوا جميعا  دون سابق اتفاق إلى التقاليد، وتحولوا إلى الكتابة الواقعية، ما السبب وراء هذا التحول الجماعى؟
• فى الواقع، عندما قلت إن «الطليعة الحقيقية على حالها دائما» كنت قد استثنيت نفسى بالفعل، لأننى لست «على حالى دائما»، فقد طالت يد التغيير كتاباتى على نحو كبير. وحتى يومنا هذا، ما زلت محافظا على حبى الفطرى لفنانى ومبدعى الأدب الطليعي، وأنظر إليهم بتقدير بالغ، غير أنى أشعر أن طريقى لا يزال طويلا، وأخشى أن الطليعة لم تعد بالفعل هى ذلك التاج الذى أود ارتداءه، كان أكثر ما فكرت فيه هو ما أفضل الأنواع التى يمكننى كتابتها. موقفى اتجاه الطليعة مائع، فمن ناحية أمتدح جميع الكتابات الفريدة المناهضة للعلمانية، ومن ناحية أخرى أشعر كذلك أن هذه الكتابات ليست على قدر كبير من الأهمية،  فالشيء الوحيد المهم يكمن فى عمق الكتابة وجودتها.  الأمر موضع تفكير لدي، فأنا لم أجرب تقنيات الكتابة التقليدية من قبل، وأود ذلك، وتعد رواية «زوجات ومحظيات» خطوة فى مسيرة تحقيق هذه الفكرة. ويرجع التحول فى الموقف هذا إلى أنى قد اكتشفت أن  الطريق الذى بصدد التقدم فيه ليس طويلا، بينما التراجع خطوة على العكس من ذلك هو طريق الاتجاهات جميعها. «خطوة للوراء تتسع معها الآفاق»، هذه الجملة منطقية على نحو خاص. فالتراجع خطوة للوراء لا يعنى أننى قد هرمت فجأة، وفقدت ما أتمتع به من روح قتالية، بل يعنى النظر لحيز الإبداع الشخصي، واكتشاف أن الحيز الناتج عن التراجع رحيب جدا، وإدراك أنه لا يزال بجعبتى قصص وشخصيات يمكننى كتابتها.
• فى ذلك الوقت، سلب كُتاب الطليعة الجيل الأكبر من الكُتاب سلطة الكلام، فصاروا التيار السائد، هل ترى أن الكتاب الشباب فى وقت لاحق قد يتخذون موقفك الشجاع باعتباركم كتاب طليعة سابقين، ويُقبلون على تحدى الجيل الأكبر سنا؟
•صحيح، يبدو وكأن لا وجود لاسم مثير للإعجاب بشكل خاص، ولا أعرف سببا لهذا التغيير، لكن من المؤكد أنه تغيير بالفعل. كما يمكن القول إن ذلك راجع لاختلاف الزمن، قد يكون تراجعًا وقد يكون تقدمًا، لا أستطيع الجزم بذلك، لأنهم كانوا ناضجين جدا من البداية. أعنى بالنضج كتابة النصوص، والآن ما إن يظهر كاتب فى العشرين حتى يحتل مكانه برصانة. لقد كنا نشعر بالتوتر لرؤية صحفى آنذاك، ونتلعثم فى الكلام عند مواجهة الجماهير، فلا نكون على طبيعتنا، فى الواقع، لم يكن لدينا تلك القدرة على التحكم بالذات، لكنهم بشكل خاص يتعاملون مع الأمر بأريحية وبساطة.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة