يوميات روز
يوميات روز


يوميات روز

أخبار الأدب

الإثنين، 25 يناير 2021 - 12:46 م

ريم الكمالي

1
في قلعة زوجي وأمامَ النافذةِ العتيقةِ المُمتدَّة من الأرضِ إلى السَّقف، هَبَّ نَسيمٌ جَبليٌّ مُصفّى سيطر على وجهي وأنا أجلسُ مُتربِّعةً مُستسلِمةً وفي حضني دفترٌ فارغ، وأبدأ في الوهم كعادتي في تلك المساحات الزرقاء الضائعة في المَدى، أرى تموّجاتِ الماءِ كالسرابِ في خطِّ الأفق، والشفقَ الأحمر في انتشار لضمِّ السَّماء بالأرض، ولوهلةٍ لاحَ لي جبل جيس الضَّخم مُحلِّقًا برؤوسه الرمادية القاحلة حتى قبع في جلفار إلى الأبد، مُشتِّتاً ذلك المسحوق الإلهي الأحمر الذي كاد أن يلثمَ خَدَّ مملكة جلفار الحنون وقت الأصيل وهي ترسل السَّمن والجبن إلى جزيرة قيس، ليكفَّ الغرام عن الغرام بعد أن أوشك الشفق على الدنوِّ من جُلفار ومن خليجٍ صافٍ توغَّل في مضيقٍ بفمٍ شحيح، فكان الوداع لحضارة جلفار التي غرقت عشقاً على مدخلٍ جانبي، ومنذ ذلك اليوم لم يَحن على قيس أحدٌ. فيا لجيس الحارس الجبليّ المهيب اللئيم الذي بجلوسه منع اقترافِ ولو شيءٍ من عَمى الشَّغف. لكن لم ييأس الشفق الأحمر وهو السلطان العاشق في الفراغ، فقرَّر بَسط لونه على الرِّمال كعلامةٍ تُشكل الأراضي الحمراء والجزيرة الحمراء، ويظلُّ لون العشق هناك مُتورِّطاً ومَذهولاً إلى الأبد.

2
حين يُغلفني السّكون كعادتي أؤلِّف في رأسي حكايات وقصصاً عن طبيعةٍ وبشر، وأنسى زوجي التسعينيّ المُتَّكئ على الجدار خلفي ككومة، بسيفه الفارع ولحيته الطويلة البيضاء... وأمسك القلم لأكتب ما توهمتُ للتوِّ، لكن الاحتقان يغلبني، يعصرني حتى يتوقَّف القلم في يدي حين أتذكَّر كم مزَّقت دفاتر ممتلئةً بحكايات كلِّ من حولي، حكايات تضمُّ أحداثاً كاذبة وخيالاً من هذرٍ يدعو للذهول، دعتني الرهبة إلى إتلاف يومياتي من أجل النجاة بنفسي خشية اتهامي بالمسِّ لِما احتوته تلك اليوميات من كتابات وتفاصيل ملتويةٍ عن كلِّ ما رأيت، وبمخططاتٍ لحظيةٍ تأتيني بلهفةً وعلى قياس طبيعة من حولي، كما احتوت جداول وصوراً وعلامات ووشوماً وزخارف وهيئات لا يمكن تحمّلها.
كان الضوء حُلواً وهو يمرُّ في مسارات النافذة، ينسلُّ مع رياح متموِّجةٍ ومُنعشةٍ بعطر أفلاج نخيل قرية ضاية برأس الخيمة، رياح تُدغدغ ضوء بشرتي، تجعلني أسرح بدفاتري حتى يراودني شعورٌ غامضٌ ومؤرّق: ماذا لو لم أكتب كلَّ تلك الحكايات المتلفة؟ ماذا لو لم أخطّ بقلمي نثرياتٍ وهميةٍ أطبطب على قلبي ولو بالتنقيط على سطور الورق؟ ماذا لو لم أرسم ظلالاً لطلاسم مُجنحة؟ ماذا لو لم أستخدم خيالي ولغتي لأحوّلهما من واقعي المرّ إلى أدب؟ ماذا لو لم أُكمل كلَّ تلك المشاهد المبتورة والحكايات الناقصة أو لأغيرهما كما أحب؟ ماذا لو... وأنا في ارتحالٍ إجباريٍّ دائمٍ كأنثى، ماذا لو؟ بلا شكّ لجنَّ جنوني.

3
تَحرّكَ زوجي الهامد قليلاً، لأتنهَّد مُستسلمةً، فقد طال العمر به، فهل دخل عصر البقاء ونسيه الفناء؟ أم غفل عنه القبر بعد اقتناصي والزواج بي؟ لقد ابتعد عنه الاحتضار منذ فوزه بإرث الحصن من العشيرة وإن تَكوّم الخراب في شطرٍ منه. هو الزمن لا غيره يترنّح ثملاً عند زوجي، بقي بقربه ليسانده، وإن صحا الزمن هذا من سكرته سيأخذه بلا شك في شهقةٍ واحدةٍ إلى عالمٍ آخر، لكنه ظلَّ مُنتشياً، وطاب له العيش في زوجي حتى أصبح هو والزمن سيّان، يخوضان الحروب سوياً بين لعبة الانهزام ومزحة الانتصار، إلى أن أتى الحصن والحصن أتى بي، بينما الزمن النشوان بقي كما هو قرب زوجي في القلعة، كالوهم العزيز الأنيس يقبع مًخموراً بجانبه.

4
لم أكتب شيئًا أمام النافذة، حتى اقترب سرب العصافير نحوي، وإذا بي أغيب عن سقسقاتهم، وأتذكَّر بحسرةٍ تلك الأيام القليلة التي وضعتْ حدّاً لمستقبلي، ومنذ تلك الليلة التي رأيتُ فيها حلماً بأنني سحابةُ ليليةٌ حَيْرَى تتنزّه سُدى برفقة الريح النكباء ذات الصوت الباكي، لتأخذني معها في العتم، نزحف معاً بين ريح الصّبا وريح الشمال اللتين لم تتقبلانا، حزنت حينها وبكيت مع النكباء ومضينا، إلا أنَّ الرّياح كلها لم تتركنا وشأننا، ثمّة مُهرولون وراءنا وقبضوا علينا، وأخذوا يلملمون النكباء ويُصغرونها لتهمد وينادوا عليها بالنكيباء تحقيراً، وضمّتني معها أيدي الرياح لتلعب بي، ولكنني أعرف نفسي تماماً حتى في أحلامي ومنامي، أعرف بأنني لم أُخلق لأخاف أو أكفّ عن الجري، كنت مُشتعلةً في السماء نشاطاً وقوّةً، مُتحرِّرةً من كلِّ الرياح رغماً عنهم. هبطت الأرض، وبقيت محافظةً على التاء المُلتصقة بالأنثى، ألم يقل قدماء العرب: التاء دلالة الفهم والعلم، وهي تاء القسم، وأنه... تا الله إنهم لا يُقسمون إلا بشرف الأنثى، وسوف أبقى التاء المنطوقة مِن وفي طرف اللسان والثنايا العليا رغماً عن الواقع المُرِّ، لأنني تاءٌ رقيقةٌ تُلفظُ مهموسةُ من الخجل.

5
وجدتْ دمعتي منفذًا للذكرى في موطن أمي الشارقة، وقبل أن أغفوا على مخدّتي قرب النافذة المانحة لكلِّ هذا النسيم العليل، أعود بذاكرتي إلى مدرستي في 1969م عام وفاة والدتي الأربعينية الشابة بعد أسبوعين فقط من اختباراتي الناجحة، ليتبدّل مصيري في ذلك الصيف، وعِوضاً عن السّفر مع زميلاتي للبعثات الدراسية المقرَّرة لعواصم عربية تحتوي جامعاتها  على تخصصاتٍ مُقترحة، غادرتُ بعد أيام العزاء “خان” الشارقة برفقة عمي إلى “حيّ الشندغة” أعرق حيّ وأقدم مجتمعٍ في دبي، إلى بيت العائلة الكبير الصامد والمزدحم بالزخرفة وفنون السلف، ماضيةً إلى مقامي الأبوي، فلا خيار بجلوس فتاة في منزل أخوالها بعد وفاة والدتها، وبيت والدها وإن كان متوفيًا ظلَّ مفتوحًا لها على مصراعيه، هي الابنة العزيزة على قلوبهم.

6
أخذني عمي معه، ولم يكن مهماً أين أعيش، ولوعتي المختنقة نشبت في حلقي بعد حرماني بعثة الدراسة، خرجت بشعري القصير الأسود بمقص فرنسيّ أنيق، وقميصي الحريري الأصفر، وتنوّرةٍ قصيرةٍ ممتدَّةٍ بسوادها من الخصر إلى الساقين، وحذاءٍ مرتفع، ورأسي مرفوعٌ بمزاجٍ مستورٍ ووقارٍ ظاهر، مغادرةً أرض البطن إلى أرض الظَّهر، من أرض الأخوال إلى أرض الأعمام مع عمّي الشابّ الوسيم الصامت المتأصِّل في تجارته الموروثة والمُتجذِّرة أبًا عن جد عن سلالة عن مجد، بحفظه الأدوار والأفعال لكلِّ من رحل من التجّار “الدبويّين” من آبائه إلى البحر والإبحار. وضع حقائبي في الخلف، وجلس بجانبي، وما إن تحرّكت السيارة حتى أدرت رأسي نحو النافذة الزجاجية الخلفية، حيث خزرت بعيني السور الحديديّ القزم الراعي لحقائبي الحُرّة المحفوظة من الإفلات في تلك الساحة الصغيرة المحدودة لسيارة “الوانيت” المكشوفة على غيومٍ عابرةٍ كحكاياتٍ بلا معنى. ارتجفت الأمتعة فلمحتُ أصغر حقائبي والتي وضعتُ فيها كتبي ودفاتري ويومياتي الوهمية، تهتز معها الحقائب الشبيهة بحيوانات الرعي حين تأخذ طريقها المرتعش نحو القصاص.
7
طوال سنوات دراستي في المدرسة لم يدهش المعلمات والتلميذات أحدٌ كما أدهشتهم بتفوّقي اللغويّ تعبيراً وتأليفاً ومناقشة، ولا غرور، إلا أنني أذهلتُ كلَّ ضيفٍ وزائرٍ لمدرستي بإلقائي عليه خطاباً ترحيبياً رصيناً خاصاً به صغته بمهارتي، ولا غرور، لأنني لم أفكِّر حتى في لحظات الكسل بتكرار الخطاب، فلكلِّ زائرٍ وهجٌ وحديث. لا غرور، فقد حيّرتُ أخوالي في منزلهم وأنا ما زلت في سنتي الثانوية الأولى، أُصحِّح لجدّي قصائده وخطاباته، فهل أفقد برحيل أمي الحقَّ في دراسة الأدب العربي؟ وكما كان مقررًا لي في ديوان الحاكم، حيث أكّد لي الموظف هناك حجز مقعدي في جامعة دمشق. ها أنا الآن أترك «الخان» المصطاف على مسيرة الساحل على بُعد ميلين جنائب غرب الشارقة، وبصحبة عمي، وفي وقت غير مقترح، ومن دون عرض للحوار كمكرمةٍ لي، أو لِما أملك من حسٍّ أدبيٍّ، مصطحبًا إياي مع حقائبي التي جهزت في حينها. مودِّعةً ذكريات منزل والدتي وأخوالي بعد نسجهم قرار عودتي الموجع. وكم كان حزني شديداً، وأنا أتوهّم قبل خروجي عند الباب، فثمّة روحٌ دنت مني، روحٌ ذات قدرةٍ غير مرئيةٍ، كأنها ظِلٌّ أوشك أن يلامسني، وقفتُ حينها وحرّكت رأسي ببطءٍ باتجاه ما تجاوزني فارتعدت ولم تكن سوى روحي الكاتبة، أعرفها جيدًا، روحي التي لا تندسّ، فخرجت من عتبة الباب برفقتها ملتئمة.

8
بهدوءٍ حسم عمي تلك المسافة دون لائمةٍ على تفوّقي الأدبي، ولمّح بعتبٍ بعد رصده الانفتاح بهيئة الحريم ومنهنَّ أنا ابنة أخيه روزه، مُعرِّضاً بملابسي العصرية القصيرة بنظرات الريبة المتعمَّدة، وبدهشة اللا يصح، بوصفي أنثى عربية دبويّةٌ معلومة الأصل والفصل مخبوءة الجسد... أو لأنني مجهولة الثغر فلا يصح أن يراني أتحدَّث بلغة القوميين العرب وهيئتهم الغازية؟ كان الخوف ألا أتزوّج إن أكملت تعليمي في الخارج، فأنا صاحبة سلالةٍ وثروة، وقد عيّا عليه أن يدعني أرحل مع النهضة العربية الغالبة بحداثتها، والتي باتت جملةً مُخجلةً لدى رجال العائلة وأصحاب العادات التليدة. لم يرغب عمي بتوبيخي، فالإناث في عائلات التجّار عظيمات الشأن، وذات الشأن مآبها لأبيها وتقاليد بيته، ما جعل عمّي يصحبني معه، وتخضّني السيارة طوال الطريق الترابي بين الشارقة ودبي وليس لي سوى الصمت. راودتني الدمعة كأمنية، أقسمت ألا أسقطها، مقاومةً لوعتي من رفض عمّي إكمال دراستي، وكأنه بموت الأب وموت الأم يتغيّر المصير، إن كان في ملابس تقليديةٍ أو عصرية، وسواء في زمن النهضة العربية الولود على ساحلٍ متصالحٍ يُطلُّ على خليجٍ مُتمرِّد، أو في نهضةٍ مدسوسةٍ وهماً بيننا، أو لعلها نهضة متوثِّبة... وكم أخشى أنها نهضةٌ مُرتجلةٌ بحمقٍ دون اكتراثٍ. سُحقًا للنهوض الذي هو أصل المعارك في كلِّ عصر.

9
منذ طفولتي أتحدَّث سراً مع ظلّي، أُسائلهُ بحرقةٍ عن أفرادٍ لا أحد يعرفهم سوانا، ويوماً من أيامي تقدّمني إحساسي أثناء الحديث معه، لتأتي دمعتي اللامعة على عجل، فصمت ظلّي ولم يتحرّك، خجلت حينها منه، لكنني كنت كلما شعرت بهيمنة الدمعة زادت سيطرتي قُدرةً وقوة، إلا هذه الأيام البائسة التي استعبرت فيها الكثير من الدموع، بعد أن تسلّل نشيج التوديع عليّ بأنواعه، من توديع مَدْرَسَتي والمناهج، وتوديع معلِّماتي، والأنين على احتضار والدتي، واللحاق بنحيب فراقها، وأخيراً لوعتي، عدم سفري صُحبة زميلاتي... زادت دموعي فغادرني ظلّي، ولم تعد تلك الخصوصيات بيننا، ولأنَّ الظلُّ حمايةٌ وحضنٌ، كان لا بدَّ من إحضاره.
ما الآتي بعد كلِّ هذا الأسف؟ لقد بذلتُ للأدب الكثير قراءةً وكتابةً ومشاكسة، لإيماني بأنني فتاةٌ غير قابلةٍ للاختفاء وإن اختفى ظلّي، فأنا من وطنٍ سالَ من رأسي حباً، ومع ذلك نظرتُ إلى الأشياء حولي كغريبةٍ أتت من بعيدٍ لتكتشف آفاق المكان بغية تأليف المستحيل، حينها أقسمتُ لظلّي الغائب ألا أبكيه مطلقاً، أن أُبدل دمع قلبي إلى حبر أخطّه في يومياتي السريّة، وأتحوّل في ظاهري إلى خرساء، لأمنحني صفة الرزانة، ويبقى اسمي روزه على مُسمّاه ومعناه من رزانةٍ ولياقة، بينما الأنا تعانق عالمي الخاص، فتعالى أيها الظل ليتجلّى قلمي الذي لا يبالي سوى بسلطتي الخفيّة، وليحدث ما يحدث في بياض الورق، فمصير ما أكتب الطمس والإعدام رمياً في خور ماءٍ لم يعد ضحلاً....

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة