للفنان ثروت البحر
للفنان ثروت البحر


اقترب.. لا تبتعد

الذات والعائلة والسياسة فى أدب «النونفيكشن» فى مصر:

أخبار الأدب

الإثنين، 25 يناير 2021 - 01:09 م

نائل الطوخى

مجموعة كبيرة من الكتب صدرت فى العشر سنوات الماضية، بعد الثورة، ولفتت انتباه القراء والنقاد على حد سواء، لم تكن روايات ولا شعرًا ولا قصصًا، وقد انطلقت هذه الكتب من الحقيقة، كما هى، محاولة سبر أعماقها، ثم صياغتها بشكل أدبى ذكى ورشيق بعد ذلك، فيما عُرف فى الوسط الثقافى المصرى بكتابات الـ«نونفيكشن».
يعرّف موقع «ويكيبيديا» «النونفِكشن» بكونه «أى وثيقة أو محتوى إعلامى يهدف لتقديم الحقيقة والدقة بخصوص المعلومات والأحداث والأشخاص».
بهذا التعريف، والذى يركّز على قيمة «الحقيقة»، يمكننا فهم تكثّف هذا الجنس الأدبى الجديد فى المكتبة العربية ما بعد ثورة يناير، فبسبب الثورة وما كشفته من تعقيدات فى المجتمع، بدأ الجميع يتابعون الواقع كأنهم يتابعون فيلمًا سينمائيًا، بدأت طبقات من المجتمع تنكشف لنا، ومعها تزداد رغبتنا فى توثيقها، حتى بدأ الناس يستهينون بالخيال، على حساب الواقع الآخذ فى الانكشاف.
فى هذا السياق، يمكننا فهم طغيان ظاهرة «السينما الوثائقية»، وحيازتها أرضًا جديدة فى مقابل «السينما الروائية».
لا يعنى هذا أن هذا الجنس الأدبى كان منعدم الجذور فى ثقافتنا العربية، فطالما تجاور «الجاحظ» و«ألف ليلة وليلة» فى الأدب العربى، كما أننا لا نحتاج للعودة للعصور الوسطى، فمن قبل هجمة النونفيكشن هذه، وحتى من قبل الربيع العربى بسنوات طويلة، كان عزت القمحاوى قد نشر كتابه «الأيك فى المباهج والأحزان» (2002)، وثارت وقتها أسئلة عن كيفية تصنيفه، هو الذى لا يحوى قصة ولا شعرًا وإنما فقط تأملات وملاحظات حول الحواس وعملها.
إذا كان الولع بالخيال، والبعيد منه تحديدًا، هو ما كان سابقًا سيد الموقف فى الأدب المصرى، فإن اندلاع الثورة قد أجبر الكتاب على التمعن فى أنفسهم، فى تفاصيلهم العائلية الشخصية والعائلية. بدأ يروج شكل من أشكال الكتابة، يدور حول ضمير «الأنا»، وليس «الهو»، أو «الهي»، كما أنه بالتأكيد ليس ضمير «النحن»، وقد بدأ الأمر ربما من فكرة «الشهادة»، تلك القطعة المخلصة من الحقيقة، ولكن بعد صياغتها جيدًا وتقديم أسئلة وأفكار مثيرة بخصوصها.
لهذا كله، فقد احتلت العائلةجزءًا كبيرًا من هذه مكتبة النون فيكشن المصرية الصادرة بعد الثورة.
يقدّم عمرو عزت فى كتابه الأول «الغرفة 304» (2019) مانيفستو لكيفية الاختباء عن الآباء، كجزء من جيل جديد واجه السلطة بكل قوة فى أيام الثورة، ولكنه لم يتمكن من مواجهة عائلته بنفس القوة، ويتراوح كلامه فى الكتاب بين هربه من أبيه وانبهاره به فى نفس الوقت.
وفى «كيف تلتئم.. عن الأمومة وأشباحها» (2017)، وبهدف أنسنة الأمومة وتفكيك القداسة الكثيفة المرتبطة بها، تحكى إيمان مرسال تجربتها الشخصية مع أمها الراحلة ومع ابنيها.
أما نادية كامل فقد دوّنت، فى كتاب «المولودة» (2018)، قصة حياة أمها، مارى رزونتال، التى أخذت، بعد إسلامها، اسم نائلة كامل، لنكتشف أن هذه القصة شديدة التضافر مع تاريخ مصر كله، وأننا نقرأ ملحمة ضخمة تلخّص لنا ما جرى فى المئة سنة الأخيرة.
وحتى وإذا ما بعدنا عن العائلة قليلًا، فسنجد محيط الكاتب هو الحاضر فى النص. فى «غذاء القبطي» (2017)، يحلّل شارل عقل العادات الغذائية لأقباط مصر. يظهر فى الكتاب أفراد عائلة الكاتب وأطعمتهم المفضلة ونكاتهم حول الأكل، منتهيًا بالكنيسة وجموع الأقباط ومعضلاتهم الفقهية تجاه الأطعمة.
فى مقابل كل هذا، يختار هيثم الوردانى التعلق بما أسماهسابقًا بـ»الأنشطة غير المنتجة»، فنجده يقدم لنا تحليلًا عميقًا للنوم – وليس للأحلام حتى – فى «كتاب النوم» (2016)، ويمضى فى هذا إلى أقصى حد من التجريد والتقاط أدق الذبذبات فى علاقة النائم بمحيطه.
وبخلاف العائلة، وباستثناء «كيف تختفي» لهيثم الوردانى (2013)، المكتوب بضمير الأنت، فيما يناسب قالبه ككتاب إرشادات للاختفاء عن الأبصار، فإن الأنا دائمًا حاضرة فى هذه الكتب، وخاصة الأنا المتورطة فى علاقتها بالعالم، وتحضر أكثر ما تحضر فى كتابى عمرو عزت، «الغرفة 304» و«كيف تتذكّر أحلامك» (2019)، حيث يختار الأخير التوثيق، أحلامه نفسها، والتى تُحكى فى مشاهد موصوفة سينمائيًا كأنها ومضات متقطعة، ويظهر فيها سلافوى جيجيك وابن عطاء الله السكندرى والقذافى ومحمد حسنين هيكل وجان بول سارتر، المُعَرّف فى الكتاب بـ«حبيب القلب».
أما فى «الأمومة»و»فى أثر عنايات الزيات» (2019) لإيمان مرسال، فنرى ذات الكاتبة، طول الوقت، وهى تعمل على موضوعها وتبحث فيه وتصيغ فكرته، كأننا نرى الفيلم وكيفية إعداده فى نفس الوقت. تسلّمنا الذات إلى موضوعها لنتمعّن فيه، قبل أن تعاود الارتداد لنفسها لنتمعّن فيها هذه المرة.
تضم القائمة كتابين بإمكانهما أن يُصنّفا كـ«أدب رحلات»؛ «فى الإقامة والترحال» لياسر عبد اللطيف (2013) و«غرفة للمسافرين» لعزت القمحاوى (2019)، وعلى قدر ما يتشابهان فى كون كليهما يضمان حكايات مختلفة عن السفر، عن البلدان البعيدة كما نراها كسائحين، إلا أن صوت الذات يظهر بقوة فى كتاب عبد اللطيف، نعرف أن الراوى هو ياسر ونكاد نسمع نبرة صوته فى الجمل التى ينطقها، عما هو فى كتاب القمحاوى، والذى نقرأ فيه أفكارًا ذكية عن البلدان والشعوب دون أن نعرف بدقة من الذى يتكلم، سوى أنه كاتب يُدعى لهذه البلدان.
صحيح أن هذه الكتابات لم تنطلق من الثورة، أو مما هو سياسى واجتماعى، لكنها ناقشته بجدية وندية، خاصة عندما تكون هذه الأنا متورطة بالأصل فيما هو سياسى واجتماعى، نجد هذا فى «المولودة» لنادية كامل، مع مراعاة أن الأم هى التى تحكى عنها وليست الكاتبة، كما نجده فى «جبل الرمل» لرندا شعث (2020)، التى تحكى لنا قصصها من بيروت وغزة والجزائر والقاهرة، شكلًا آخر، مكتملًا ومتشظيًا فى الوقت نفسه، للتغريبة الفلسطينية.
كان أغلب كتاب النونفيكشن مكرّسين وحاضرين بقوة فى المشهد من قبل إصدارهم لهذه الأعمال؛ هناك الشاعرة إيمان مرسال والمخرجة نادية كامل والروائى أحمد ناجى والمصوّرة رندا شعث، هناك القاص هيثم الوردانى والشاعر والقاص ياسر عبد اللطيف.
وحدهما شارل عقل وعمرو عزت، ، من بين هذه القائمة غير المكتملة، من بدآ مسيرة النشر لديهما بكتب نونفيكشن.
لا يمكن القول إن الناس قد ضجروا الآن من الرواية، فلا تزال هذه تتزعّم سوق النشر، ولكن على الأقل، فإن هذا الجنس الأدبى الجديد يتقدّم الآن ليأخذ مكانه بجوارها تحت سماء المشهد الأدبى المصرى، وقد نبعت جاذبيته الشديدة من انطلاقه من سؤال شديد البساطة والإغواء فى آن واحد: ماذا لو تكلمت عن نفسي؟

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة