د.محمد أبو الفضل بدران
د.محمد أبو الفضل بدران


يوميات الأخبار

عندما أكلتُ مع الملائكة

د.محمد أبوالفضل بدران

الأربعاء، 27 يناير 2021 - 08:27 م

وهمس لى أخى: الملائكة لا تأكل، ثم أردف نحن الملائكة، وبدأنا فى أكل ما نشاء

تحضير الأرواح

كان فيلم «الأرواح» يسير ببطء ولكنه مدهش يكاد الناس يفرون وهم جلوس على مقاعدهم بإحدى دور السينما بميونيخ رغم أن الجميع يعلم أنه خيال علمي، كانت أحداث الفيلم عن عالم ألمانى استطاع أن يُحضّر الموتى ويعيدهم فى شاشة أمامك، حينما تود رؤية أحد أحبابك الراحين فما هى إلا برهة حتى يستحضره الجهاز على الشاشة لحما ودما وتجرى حوارا معه وتسأله فيجيبك ويسألك عن أحوالك وتكاد تلمس الشاشة لتصافحه، ليس تنويما مغناطيسيا وربما كانه لكن ما تراه أمامك يبعثك على استحضار الراحلين، وتود لو عادوا حقيقة وغيّرت سلوكك تجاههم للأفضل المستحيل.

لكن هذا الفيلم الذى كنت أشاهده أعاد لى فصلا من فصول صباى حيث كانت إحدى أخواتى مريضة عندما كنت صغيرا لكنى أتذكر جيدا كيف جاءت بيتنا سيدة عجوز فى السبعينيات من عمرها ومعها سيدة أخرى وطلبت جدتى من السيدة الكبرى أن تجعل الشيخ عبدالله يدعو الله أن تُشفى أختى وما هى إلا لحظة حتى ألقت السيدة الثانية على العجوز ملاءة بيضاء غطتها تماما بينما كانت تجلس القرفصاء وبدأ صوتها يعلو ولكن بنبرة رجولية، اختفى صوت المرأة الأنثوى الحقيقى ليحل محله صوت رجل تماما يتحدث مع جدتى معاتبا لأنها لم تهتم به بعد موته، ولم تزر مقاما ولم تعد ترسل له القمح والحلبة والفول والحمام المُحمّر وبعد اعتذارات جدتى وسوْق الحجج والتبريرات لتقصيرها قَبل أعذارها ودعا الله أن يشفى أختي، كُنت مذهولا فكيف تحوّلت المرأة إلى صوت رجل، هل هى رجل؟ هكذا سألتُ أمى التى ردّت علىّ أنها أنثى ولكن تُحضّر الأرواح، إن ابنها عبدالله مات شابا وكان صالحا وأنه يأتى عندما تستدعيه.

بدا الأمر غريبا لكنه ممتع ومدهش لي، وبعد جلسة تحضير الأرواح لجدتى اشترك نسوة من جيراننا وأقاربنا فى سؤال الشيخ عن أحوالهن والمرأة تجيب بصوت رجولي واعدة إياهن بالدعاء لهن بحل مشكلاتهن، ثم رفعت الملاءة عنها، كانت تتصبب عرقا وعاد صوتها الأنثوى طبيعيا وبدت كأنها عائدة من رحلة طويلة متعبة سقتها النسوة مشروب الحلبة الساخنة، وبدأت تعود رويدا رويدا إلى حالتها الطبيعية، وأنا مذهول من هذا التحوّل المفاجئ، هل كانت تقلد أصوات الرجال؟ هل كانت ملبوسة بجِنى يتكلم بدلا عنها، ربما، لم أكن آنذاك قادرا على الإجابة وما أزال لكنْ فى اليوم التالى ذبحت جدتى بضعة أزواج من الحمام وَحَشَتْهم بالفريك (القمح المدشوش) والكِبد وحمّستهم فى السمن البلدى وطلبت من أخى الذى يكبرنى بعامين أن يذهب لتوصيلهم إلى الشيخ عبدالله (حيث تسكن هذه السيدة) وأصررت أن أذهب مع أخى الذى ما إن ابتعدنا عن بيتنا قليلا حتى عرض علىّ أخى أن نأكل الحمام سويا لأن الموتى لا يأكلون، بدت كلماته مقنعة لى وانزوينا فى حقل ذرة عال وأكلنا ما حملناه وتركنا الباقى فى الحقل للقطط والكلاب وعدنا إلى البيت، وأبلغهم أخى أن كل المشايخ تسلّم عليهم وتقول لهم: "كل شهر هاتوا الحمام بالفريك بشرط أن يكون مُحمَّسا بالسمن البلدى".

 صَرْف الملائكة

لا أدرى مِمَّن ورثتْ جدتى رحمها الله هذا المصطلح، كان الجو بعد العصر قُبيل المغرب والليلة عُرس أختى التى تكبرنى بعشرة أعوام، دخلَتْ جدتى حجرة أختى العروس ووضعَت فى وسطها طبلية كبيرة ثم خرجت وأحضرت أطيب أنواع الطعام الشهى من اللحم الضانى المحمر والحمام والبط، وضعَت كل الأطعمة على الطبلية كنت وأخى الأوسط نراقب الموقف من بعيد ظننا أن ضيوفا سيحضرون ليأكلوا لكننا شاهدناها وهى تغطى المائدة بملاءة كبيرة ثم تقرأ آيات من القرآن الكريم وأدعية موزونة تقولها وقد أغمضت عينيها وكأنها تقرأ من كتاب مفتوح، ثم أطفأت أنوار الحجرة "الكلوب" وهى تنادى على الملائكة أن يحضروا لتحلَّ البركة ثم خرجت وأغلقت الأبواب وراءها منصرفة بعيدا عن الحجرة، كنتُ وأخى طفلين صغيرين لكن قررنا الدخول لنرى الملائكة التى نسمع عنها ولم نشاهدها إنها فرصة، تسللنا للحجرة وأغلقنا الباب من ورائنا بحثنا عن الملائكة، كانت الملاءة ما تزال تغطى الطبلية ورائحة الطعام الشهى تحرضنا على الأكل مع الملائكة، رفعنا الملاءة، كان الأكل ما يزال كما تركته، لم ينقص شيء، وهمس لى أخي: الملائكة لا تأكل، ثم أردف نحن الملائكة، وبدأنا فى أكل ما نشاء وقد تغطينا بالملاءة وبينما نأكل سمعنا الباب يُفتح وعندما رفعت جدتى الملاءة وكان الجو مظلما صرخ أخي: اللهْ حَيْ، اللهْ حيْ، فصرخت جدتي: يا أهل الله مددْ، يا أهل الله مددْ وخرجت بسرعة وقد خرجنا وراءها خائفين.

عندما كبرنا عرفنا أنها عادة قروية تقام لإكرام الملائكة كما فعل سيدنا إبراهيم مع ضيوفه من الملائكة تبركا بهم،ربما تتلاشى قريبا هذه العادات وما نزال نضحك كثيرا عندما نتذكر هذى المواقف..

«النقوط» جمعية مُيسّرة

من عادة أهل الصعيد فى المناسبات الفرحة تقديم النقوط وهو عبارة عن إهداء العروس مبلغا من المال- على قدر حالة المُهدِى الاقتصادية ثم تجمع هذه المبالغ للمساعدة فى نفقات تجهيز أثاث البيت أو شراء الذهب، وهذا لا يقتصر على مناسبات الزواج فقط بل نجدها فى مناسبات الختان والولادة والمرض أيضا، ولكنها تكثر فى الأفراح بطقوسها المدهشة حيث يجلس العروسان على دكة وبجوارهما كاتبان بينما يصطف أهلهما فى صف ويدخل كل منهم ليعطيهما "النقوط" ويكتب الكاتب الاسم والمبلغ، وما عليك سوى تسديده إهداءً عندما تحين مناسبة سعيدة عند المُهدِى، وأرى أن هذه العادة طيبة للمساعدة فى نفقات الزواج فيتكاتف الأهل والأصدقاء فى جمعية غير معلنة وغير محددة بمواعيد التسديد، هذا يختلف عن نقوط الهدية الذى يُعطى للطباخ الذى كان يجلس ومعه صحن صينى أبيض كبير مُغطى "ببشكير" أى قطعة قماش وبعد أن تنتهى من العَشاء فى الفرح وتغسل يديك تمرّ عليه وهو يصيح " خَلَفَ الله عليكمْ يا محبين" أى أن الله سيخلف المال الذى تعطونه وهو أشبه بالبكشيش فى المطاعم الكبرى وفى سرعة خاطفة تدخل يدك تحت الفوطة وتضع ما تشاء من أموال هدية له ولمساعديه، ولا يُكتب هذا النقوط وإذا لم تعطه لا يقول لك جملته المكرورة "خلف الله عليكم يا محبين" هكذا كانت القرية قديما يتكاتف الجميع ويتهادون ويساهمون معا دون إحراج أو مطالبة والجميع يعرف دوره دون توجيه ودون إراقة دم الوجوه.

 أماندا تلقى الشعر للعالم

أماندا جورمان الفتاة السمراء ذات الاثنين والعشرين عاما تقول للعالم: إن الشعر يستنهض الأمم ويبعث الروح فى الدول، تعتلى عرش الخطابة فى حفل تنصيب الرئيس بايدن وتلقى قصيدة فى أمة منقسمة لكنها تبعث روح التفاؤل والوحدة فى أمتها لتعيد دور الشعر فى العالم من جديد بعد طغيان المادية وربما كان منح جائزة نوبل هذا العام للشاعرة لويز جلوك وخروج أماندا فى حفل يتابعه العالم مؤشرا على صدارة الشعر وافتقار الروح المعاصرة لسماعه، لقد ألقى الشاعر الأمريكى روبرت فروست قصيدة فى حفل تنصيب الرئيس جون كينيدى وكم كنت أرى حضور الشعر فى احتفالات العالم العربى لكنه كاد أن يختفي، لماذا لم نعد نرى الشعر حاضرا فى احتفالاتنا الرسمية والشعبية؟ ولا أقصد هؤلاء الشعراء المنافقين بل أقصد هؤلاء الشعراء الملهمين الذين يلقون قصائدهم من قلوبهم لإنقاذ العالم من التعصب والتشدد والإرهاب ولا ينافقون بل يقولون الحقيقة كما قالتها أماندا فى قصيدتها التى ترجمها على اللوبى، ومنها:

- لقد تعلمنا أنً السكون ليس دائماً هو السلام

بطريقة ما نجونا وشهدنا أمةً ليست مكسورة

وإنّما هى فقط لم تكتمل

نحن خلفاء بلدٍ وزمن

حيث فتاة سوداء نحيلة تنحدر من العبيد

وتربيها أم وحيدة

يمكنها أن تحلم بأن تصبح رئيسة

ولإنشاء بلد ملتزم تجاه جميع الثقافات والألوان والشخصيات

وتجاه أحوال الإنسان

فلنضع خلافاتنا جانباً ولنلقِ بأسلحتنا

حتى نتمكن من مد أيادينا لبعضنا البعض

-فليعلم العالم أننا

حتى ونحن نتألم، فقد كنا نأمل

حتى ونحن متعبون، فقد حاولنا

وأننا سنكون إلى الأبد معاً، منتصرين

ليس لأننا لن نعرف الهزيمة مرة أخرى

ولكن لأننا لن نغرس التفرقة مرة أخرى أبداً

وبينما يمكن تعويق الديمقراطية من حين لآخر

فلا يمكن أبداً أن تُهزم هزيمةً دائمة

فى النهايات تتجلى البدايات

* قال الشاعر رعد أمان:

أحتاجُ أنْ أنسى لكى أتذكَّرا

وأرى فأغضى الطَّرْفَ حتى لا أرى

أحتاجُ أنْ أدرى وأخشى بعدها

* من قولِهم :- قد ماتَ لمّا أنْ درى

أحتاجُ فى هذا الزمانِ لصاحبٍ

إنْ أظلمَتْ دُنيايَ هَلَّ وأقمَرا

لكننى لمّا وجدتُ المُبتغى

ينأى ويستعصى يئستُ من الورى

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة