يوسف إدريس
يوسف إدريس


الذين يأكلون أمهم!

الأخبار

الأربعاء، 27 يناير 2021 - 09:51 م

إعداد: عاطف النمر 

بقلم: د. يوسف إدريس

 نُواجه خطرا علينا كشعب وأمة، خطرا فى الحاضر وكل من سيأتى بعدنا من أجيال ؛ الخطر الماحق يتعلق بأمُّنا الزراعية مصر، فهذه الأرض الزراعية معرَّضة لكارثة ماحقة تُصيب الشعب والدولة، بل الوجود المصرى بأكمله.

هناك طابور خامس من المجرمين يحرق أثمن ما نَمتلكه، طميَ النيل العظيم الذى لن يأتينا شيء منه بعد الآن، يُحرَق هذا الطمى ليُصنَع منه طوب أحمر، وتُقطَع أجزاء أخرى من الأرض الزراعية المنتجة لتُقام عليها بيوت، وهذا يَحدث على أوسع نطاق، مَن يمتلكون النقود يفعلون هذا، وحتى الفلاحون الذين يذهبون إلى البلاد العربية ويعودون بقليل من النقود حُلمهم الوحيد إقامة بيت من الحجرعلى قطعة جديدة من أرض كَفرهم الزراعى، وبزيادة عدد العاملين فى البلاد العربية وعدد المُستفيدين من الانفتاح، أصبح الطلب على الأرض الزراعية كمَكان لإقامة منزل أو مصنع هائلًا، وبالتالى أصبح الطلب على الطوب الحجرى مجنونًا، وهكذا نشأت حركة إجرامية بمعنى الكلمة لشراء "الطمى" بتجريف الأرض، واقتطاع القشرة الطميية المسئولة عن خصوبة الارض، وتحويلها إلى قمائن، وتوريدها لمصانع الطوب المنتشر كالوباء.

ولنُدرك مدى فداحة العملية، فإن سعر فدان الأرض الطمية إذا اشتريتَه لتَمتلكه، فإنك لا تدفع فيه أكثر من 6 أو 7 آلاف جنيه، أمَّا إذا اشتراه صاحب مصنع طوب ليُجرِّف المتر الأعلى منه فقط فإنه يشترى ذلك المتر العلوى بعشرين وأحيانًا بـ 25 ألف جنيه، ويَترك لك فدان الأرض لتمتلكه ما شئت، فإنه إمَّا أن يتحوَّل إلى بركة، وإمَّا أن لا يعود يصلح للزراعة مُطلَقًا، وعملية التجريف تجرى رغم القانون الهايف الذى يَحكم بالغرامة فقط على جنحة التجريف، العملية تجرى ليلًا فى معظمها، وبواسطة عصابات لدَيها عمال كثيرون.

الكارثة الثانية أنه سيقتطع بحجم المنزل الذى سيبنى آلاف الفدادين أيضًا، سِرًّا وبالرشوة، وبالاغتصاب تتحوَّل هى الأخرى إلى أرضٍ غير قابلة للزراعة، ومنذ بضع سنوات، تلقَّيت من البنك الدولى تقريرًا خطيرًا يُنبِّه لهذا الخطر، ويؤكِّد أن الكم المتآكل من الأرض الزراعية أكثر بكثير من الكم المُستصلَح، بحيث إن أرضنا الزراعية، مُمكن أن تتقلَّص إلى النصف، وليس تُجَّار الطمى ومجرموه وسفاحو الأرض هم وحدهم المدانون، إن حكوماتنا المتعاقبة بانعدام بصيرة أجهزتها أسهمَت فى هذا لحدٍّ كبير، ولقد قرأت مقالًا عظيمًا للدكتور حسين مؤنس فى مجلة النور، ينعى فيه على المصريين أنهم يلتهمون أرضهم الزراعية التهامًا، وكيف تحوَّلت الدائرة الزراعية التى كانت تورد الخضر والفاكهة حول القاهرة إلى مساكن تبدأ بالعشش وتَنتهى بالقصور.

 وقامت مدن المهندسين والصحفيين والضباط وأساتذة الجامعات، وامتدَّ العدوان إلى ميت عقبة والأرض الكائنة خلف سكة حديد الصعيد، والتُهمت فى هذه العملية ثلاثمائة ألف فدان فى محافظة الجيزة فقط، فما بالك بالأرض التى التُهمت من القليوبية، وأنا لا أفرح أبدًا وأنا أرى الأرض الكائنة بجانبى الطريق الزراعى تحتلُّها المنشآت وتعلو مبانيها وكأنها تضعُ إصبعها فى عين كلِّ متألم من التهام أرضنا، أمِّنا، حياتنا.

إنَّ الخطر أكبر بكثير جِدًّا مما نتصور، أكبر من كل التوسُّلات والإجراءات التى قمنا ونقوم بها إلى الآن، وإذا كان العدوان على حقل بترول فى البلاد البترولية يُعتبَر جريمة قد تَصِل عقوبتها فى حالة التخريب إلى الإعدام باعتبار البترول ثروتهم القومية هناك، فإنى أَعتبر أن العدوان على الأرض الزراعية فى مصر أخطر من العدوان على حقل بترول، فهو آجلًا أو عاجلًا سيَنضَب، أمَّا العدوان على الطمى الذى عشنا عليه سبعة آلاف عام وندَّخره لنحيا عليه سبعة أو مائة أخرى، فإنه جريمة بكل معنى الكلمة، وأطالب بمصادرة أكوام الطمى المكوَّمة بجوار مصانع الطوب، ودفع تعويضات مناسبة عنها، فهى مهما كانت ستكون أرخص من استصلاح فدان صحراء أو شراء مسمدات صناعية، بل أطالب بإغلاق جميع مصانع الطوب "الطميي"، ورصد ملايين الجنيهات لإقامة مصانع عاجلة للطوب الطفلى والرملى والأسمنتي، ويا سارقى الطمى، ومجرِّفى الأرض، وحارقى أرضنا لتكسبوا مالًا حرامًا هو طعامنا وطعام أبنائنا، أفيقوا، فإن جريمتكم لو تبينتموها لاقشعرَّت أبدانكم هولًا، ولأننى أعرف أن النصيحة لن تجدي، فإنى أطلب من الدولة والشعب أن نقضى على فئران الأرض وقارضيها تمامًا.

فهل أنا أؤذن فى مالطة؟!

من‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬فقر‭ ‬الفكر‭ ‬وفكر‭ ‬الفقر‭ ‬‮»‬

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة