زكريا عبدالجواد
زكريا عبدالجواد


رٌكن الحواديت

سوق الاثنين.. و«عم زناتى»

زكريا عبدالجواد

الجمعة، 29 يناير 2021 - 10:39 م

كلما اشتد البردُ زاد الحنين لرحلتى وأنا صغير لسوق يوم الاثنين، الذى يبتعد عن قريتنا ثلاثة كيلو مترات تقريبًا.

كان ربان الرحلة "عم زناتى"، الرجل الفكاهى المحبوب، والذى بأسلوبه الشيق يستطيع توقيف قبيلة من الناس، لسماع إحدى نوادره التى لا تنتهى. 

كنت أطرق باب بيته حسب موعده بعد صلاة الفجر بساعة، فيخترق صوت ترحابه فتحات الباب المتهالك، وبابتسامته المعهودة.. يعلو صوته بطلب الشاى لضيفه الصغير، ويصب لى من إبريق قديم حدوتة دافئة فى كوب ينتفض من البرد.

كنت دائما أسمعه يتوعد زوجته بأنه سيطلقها إن أصرت على إتمام زيجة ابنته الوحيدة "زينب" من ابن عمها، وحجته أن ابن أخيه كتب قصصًا فى حبها، بينما عينا زينب تسطعان بالحزن، ويبدد بحر تنهيداتها صقيعاً يلتهم المكان. 

كان جمال تلك الفتاة يسطع فى الحقول كالشمس، بيضاء بحُمرة، تشع وجنتاها بريقًا يخجل القمر، وبعينيها سحرٌ أخاذ، وبرمشها تكنس الأحزان. 

كان "عم زناتي" ينفض الغبار عن ظهر بردعة الحمار، الذى يقف مستسلماً لصرخاته، ويغمض عينيه المكتحلتين بقسوة الشتاء، ثم يفتحمهما بنعاسٍ، ويمرجح أذنيه وكأنه يبدى فروض السمع والطاعة.

كنا نقطع المسافة فى طريق ترابى، وعند منتصفه أشاهد تصاعد بخار ماء، غزلته خيوط شمس باهتة على وجه الترعة الهادئ.

 كان الحمار يقف عند كل دائرة من بسطاء يستدفئون بالرضا من قسوة العيش، ليغتنم نصيبه من الراحة والنار، فينتفض جسده انتشاءً بلحظة دفء عظيم.

وعند مدخل السوق يبدأ الناس فى ممازحة "عم زناتى" فيلقى عليهم النكات، وكلما رأى امرأة جميلة قال: صباح القشطة.. ويهمس لى: "جدك زمان كان فارس". 

نعود من السوق قبل الثامنة صباحًا، بمقطف مكتنز بالحكايات، وقراطيس الطعمية الساخنة، التى ينتظرها الصغار من "عم زناتي" كناضورجية على نواصى الشوارع كل سوق، ويهرول الحمار فرحًا بعد خلع بردعته، ويجرى ليتمدد على كومة من التراب الدافئ،  يغسل فيه عناء المشاوير، ثم تتكرر الحكاية عند كل سوق جديد.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة