رجائى عطية
رجائى عطية


مدارات

هل التفت الإنسان إلى ذاته؟

رجائي عطية

الجمعة، 29 يناير 2021 - 11:38 م

منذ أن وجدنا على هذه الأرض ـ يبدو أنه لم يكف بعضنا عن بعض نقدًا أو لومًا أو عتابًا أو عقابًا بشأن وجه أو آخر من وجوه ذلك الاستغراق.. لكنه نقد موجه دائمًا إلى الغير.. لا يشمل قط نقد الناقد لذاته أو لمن هم فى حكم ذاته.. ولذا بقى هذا النقد الذى لا ينقطع ـــ قليل الجدوى عديم الأثر !.

لم نحاول حتى الآن صرف أو تركيز هذا النقد إلى ذواتنا.. لأننا نخشى أن نتعرى أمام أنفسنا أو فى عيون الناس فتسقط قيمتنا ومهابتنا فى نظر مجتمعنا.. وقد نخشاه ونتجنبه خوفًا على ما لا يزال معنا مما اغتنمناه أو نأمل فى اغتنامه مما يستوجب ذلك النقد المر !!.. أو لأننا لم نعد نؤمن بالنقد ونرى أن حياة العاقل ليست إلا مهارة وشطارة بعيدة عن القيم التى نعتبر الاحتياج إليها سذاجة وغفلة !.. وهذا يأس نهائى من إنسانية الإنسان ومستقبل البشرية.. لم تعد الجماعات والأفراد يحسون بضياعه إحساسًا كاملاً !.. إذ يغلب الغيظ والتشاؤم والقلق وإساءة الظن والحقد وضيق الصدر مع عدم القدرة على الالتزام بالاتفاقات أو المبالاة بالتعهدات !

وقد جرى البشر مع عامة الأحياء على بدء كل شىء من البدايات إلى النهايات، ولم يتصوروا قط أن يكون البدء من النهايات انحداراً منها إلى البدايات ثم الانقلاب إلى العكس. لم يتصور البشر هذا التبادل المطرد مما حسبوه بداية إلى نهاية أخيرة رغم أن النهاية قد يعقبها عودة إلى بداية.. يحدث هذا دواليك فى الكون العظيم حيث يسقط فيه دائماً معنى الزمان والمكان الذى نتشبث به نحن الآدميين الفانين الذين لم نفهم بعد ما هى الأبدية والألوهية كما لم نفهم حقيقة دنيانا !. 

والجهل لا يفارق الأحياء فى هزل أو جد.. ولولا الجهل ما عاش الأحياء على الأرض حتى الآن.. ولا غرو فإن كل حى كبر أو ضؤل يبدأ حياته من جهل شامل مطبق يتحسس طريقه ليتعرف على استعداداته فيها تدريجيًا.. يستمر حيًا إلى النهاية المكتوبة له.. واستعداداتنا أكثر مما لدى غيرنا من باقى ما نعرفه من الأحياء الأخرى.. فنحن برغم طفولتنا العارية البكماء ـ أوسع حيلة وأقوى إدراكًا وذكاءً وأشد تعقيدًا فى الاختيارات والإرادات والملاذ والشهوات، وأبعد نظرًا فيما نحب ونكره ونريد ونرفض ونبنى ونهدم ونصدق ونكذب، وأفسح مجالاً ونطاقًا فى التصور والتطلع والأحلام والآمال وفى عكسها.. معنا ماضٍ وحاضر ومستقبل، ومعنا أيضًا مدًى لأعمار واحتمالات لحظوظ لا حد لحسنها أو سوئها ربما بقيت امتداداتها وآثارها بعد زوال صاحبها !.

فأياً كان رصيد الآدمى من علم أو طبقة أو سن أو قوة بدنية أو عقلية أو ميل جارف أو متزن، فإن رصيده من هذا أو ذاك فيه جانب ضخم من الأوهام والمعتقدات والمنحيات والمقربات والطاردات والتعلق الذى لا يهدأ والأرواح والشياطين والقراءات والأدعية والكتابات والزيارات والنذور والأماكن والبقاع المباركة فى محيطه وفى تصوره أو المؤثرة المجدية عنده لأغراضه.

وحين يفيق أى منا إذا أفاق إلى كمية هذا الوسط الجاهل وإلى آثاره فى الصغير والكبير وغير المتعلم والمتعلم ـ تهوله صلابة ومرونة الحياة التى زود بها الأحياء بلا تفريق، كما يهوله بقاء البشر حتى الآن بأنواعهم وألوانهم يتبدلون ويتغيرون دون تمنع أو اعتراض. الكل يختلف ويأتلف باستمرار ـ حضرًا وريفًا غنى وفقرًا قوةً وضعفًا ذكورةً وأنوثة تحضرًا  وتأخرًا ! .

ولعل عدم إلتفات الإنسان إلى ذاته، وميله لعدم انتقاد نفسه، أحد الأسباب المؤثرة على ما نلاحظه من جوارٍ غريب هنا وهناك، ووجه الغرابه ليس فقط فى تنافر المتجاورات، وإنما فى عدم الإلتفات إليها، والتنبه إلى عللها ! .

لا يركب الراكب سيارة أو قطارًا فى بَر مصر، إلاّ ويلفته خليط عجيب، حاضر أحيانا فى تجاور وربما فى التصاق، بين فرط الترف وفرط الفاقة.. بين جمال وأناقة الجزيرة والمَنْزَل فى الدقى القديم ما يكاد يكون مرمى حجر، وبين عشش الترجمان (سابقاً) وقلب القاهرة ما يحسب بالأمتار، فإن قيض لك أن تنظر من نافذة القطار القادم من صعيد مصر، على مشارف الجيزة، رأيت على الجانبين علامات  العشوائية، فإذا رفعت نظرك قليلاً رأيت على الجانب الآخر من النيل العمارات الشاهقة والمبانى والقصور الأنيقة، يكفيك أن تمر بمنيل شيحة لتجد القصور المنيفة إلى جوار العشش والمبانى الطينية، وفى تجاور مدهش تجد العشوائيات تكاد تلاصق فى كل مكان معالم الترف والتنعم !.

لو التفت كلٌّ منا إلى ذاته، لراعى الآخرين، ولما حدث هذا التجاوز المؤسف الذى يؤرق كل ضمير حى يراعى ذوات الآخرين! .

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة