رأفت الهجان الحقيقي وزوجته
رأفت الهجان الحقيقي وزوجته


في ذكرى وفاته.. الرجل الخارق الذي أبكى مصر وإسرائيل

خيري عاطف

السبت، 30 يناير 2021 - 06:39 م

قصته تكشف براعة جهاز المخابرات فى ميدان حرب العقول وقوة الصفعة المصرية على وجه الموساد


ذهب الى بلد الإحتلال كبطل صهيونى.. وعاد منها واحداً من اصحاب الملايين ورجال الاعمال البارزين


ديفيد فضح الجاسوس الخطير كوهين.. وسرب اسرار خط بارليف وساهم فى الإنتصار العظيم


كانت طفلة صغيرة، على مشارف السابعة من العمر، عندما استيقظت مذعورة من نومها، فى ليلة باردة كاحلة، تسمع زئير المدرعات ومجنزرات الدبابات يأتى من بعيد كهزيم رعد لا ينقطع، يقترب الصوت من خلف التل كالوحش الكاسر، توتر والدها، وشحوب وجه والدتها، وبكاء شقيقتها جعلتها ترتجف من الاعماق، حتى جاء ذلك الصوت الحاسم عبر مكبر الصوت، والذى ترجمه والدها على الفور.


يريدون ان نترك الشوارع خالية للغزاة الجدد، ويتسألون هل سنقاوم ام نعلن الاستسلام، انهم يريدون اذلالنا.


ترى والدتها وهى ترقض الى غرفة النوم، ثم تأتى بقطعة من القماش الابيض وتفتح الشرفة وتلوح لجنود الإحتلال كالجيران الذين قرروا الاستسلام، وتشاهد الصغيرة اخر جندى المانى مشيعاً بالدموع والحزن والانتظار والقلق المخيف للغزاة الجدد.


عربد الامريكان فى بلدتهم، ورأت اهلها الالمان يموتون برصاص المحتل أمام عينها، والمرتزقة القادمين من القارة البيضاء يتحولون الى لصوص لسرقة ارزاقهم.


كبرت الصغيرة، وهى تتقين انها لن ترى فى حياتها مفاجأة اكثر عاشته فى تلك الليلة الكئيبة، لكن مع حدث فى اعتراف زوجها وهو يلفظ انفاسه الاخيرة، جعلت ما رأته سابقاً مجرد حدث بسيط وعابر مقارنة برجل عاشرته لسبعة اعوام متواصلة، لتكتشف فجأة انها كانت لا تعلم عنه اى شيئ، انه البارع الاسرائيلى اليهودى "ديفيد شارل سمحون"، والذى تحول فى لحظة فارقة الى الخارق المصرى المسلم "رأفت الهجان".


من تلك المشهد، ومن هذه اللحظة، نكشف النقطات الفاصلة فى فصل بطولى للدولة المصرية، وحياة الرجل الخارق، تزامناً مع ذكرى ميلاده.


فما ان وصلت سيارته الى بوابة مبنى الجهاز، حتى افسح لها الرجال الطريق الى الداخل، بعد ان تحقق الحراس من شخصية الضيف، ثم اصطحب ضابطين من الجهاز الشاب الوسيم الى مكتب الفريق محمد سعيد الماحى، مدير المخابرات العامة، وخلال عدة دقائق ليست بطويلة دار بينهما حوار مرن، انتهى بأن قام الضيف بفتح حقيبته، واستخراج مظروف مغلق، ووضعه على مكتب مدير الجهاز.

 


كان الظرف يحتوى على رسالة من سطر واحد، لكنها كانت مؤثرة على مقر صقور الوطن، وكان نص الرسالة المكتوبة على الآلة الكاتبة: "فى السابع عشر من نوفمبر عام 1978 توفى الهر ديفيد شارل سمحون"، وكان التوقيع بالآلة الكاتبة ايضاً، "فراو سمحون".


صراع عنيف


بعد تلك اللحظة، تغير كل شيىء، من مقر المخابرات المصرية، وحتى قلب المانيا، وعلى مسافة تتجاوز ثلاثة الاف كيلو، كان صقور المخابرات العامة يتحكمون فى كل شيىء، بدقة تفوق تروس ساعة سويسرية، خرجت للتو من بين ايدى مصنعيها، وليبدأ تحديد الموعد بين ضابطين من الجهاز، وبين زوجة ديفيد شارل، بعد بضعة ساعات من وصول الرسالة، زيارة خاطفة لكنها احدث دوى خطير بعد سنوات داخل المجتمع الاسرائيلى، كانت تمهيداً لترتيب زيارة زوجة ديفيد الى الأراضى المصرية، هى الأخرى كانت تريد معرفة الحقيقة المجردة، العارية دون رتوش من التزيف.


زوجة ديفيد منذ زارها رجال الاستخبارات، علمت انها اصبحت ضمن ترس فى الساعة السويسرية، تحركاتها كانت محسوبة ومحسومة، منذ خرجت من منزلها، وحتى استقلت سيارة اعتادت ان تذهب بها الى مستشفى العلاج الطبيعى نظراً لمرضها، لكن فى منتصف الطريق يتم استبدال السيارة، كما تستبدل الواجه ايضاً بدلاً من المستشفى لتكون الى مطار القاهرة الدولى، وقبل ان تصل الى الطائرة، كانت تحمل جوازاً بإسم مصرى، وفى الدرجة الاولى لم تجد الا شخصاُ واحداً معها، كان منهمك فى قراءة بعض الكتب، وتدوين ملاحظاته فى مذكرة، علمت بعد ذلك انه ضابط فى المخابرات العامة المصرية، وفور الوصول كانت سيارة تنطلق بها فى ظلام الليل الى احدى فيلات حى مصر الجديدة.


احداث دراماتيكية


فى اليوم التالى كانت "هيلين ريتشر"، او زوجة رأفت الهجان تلتقى مدير الجهاز، الذى صاحبها مع رجل هو الاقرب لزوجها، على الرغم انه لم يلتقيه الا مرة واحده، لقاء المخلص لصديقه بعد وفاته.

 


نعم دار بينهما لقاء واحد عابر، بين حى وميت لحظة دفنه، على الرغم من صداقتهما الشديدة والتى امتدت لسنوات طوال، كان هو الضابط المسئول عن ملف الراحل رأفت الهجان، علمت بعدها انه حضر جنازة زوجها ليقرأ له القرآن دون ان تراه.


وبعد ان استأذن الضابط زوجة الهجان فى اشعال سيجارة، وبعد ان سار دخانها كسحابة، بدأ وكأنه يريد ان يلتقط طرف الخيط، من اين يبدأ؟


هل يبدأ من اللحظة التى رأى فيها ملف زوجها، عندما جاء مرحلاً من ليبيا على انه ضابط اسرائيلى هارب من مصر، والتحقيقات التى حيرت النيابة العامة ورجال المباحث فور استلامه لدرجة انهم عقدوا شبة مؤتمر للتحقق من هوية هذا الرجل الغامض، الارواق تثبت انه يهودى، وبعضها يؤكد انه مسيحى، واخرى تشير انه بريطانى، واخرى لا تدع مجالاً للشك بإنه امريكياً، وثالث لا سبيل عنها تؤكد انه مصرى لحماً ودماً"، ام يبدأ من نشأته الاولى، عندما عانى قسوة الام بعد وفاة والده، مما دعاه للهرب، ليتحول الى مجرم بعد ذلك، ويسافر عدة دول عربية واروبية يحترف لهجتها ولكنتها، ثم سار يتلقى منها الاسئلة ويرد مؤكداً انه هناك معلومات لن يتم الإفصاح عنها حتى ولو بعد حين.

 

بطولة متفردة


علمت زوجة الهجان بعد سبعة سنوات من العشرة انها تزوجت بطلاً مصرياً، استطاع النجاه ببلاده الى بر الأمان، ساهم فى حرب الاستنزاف حتى تنفيذ معركة العبور، كاشفاً عن اخطر جاسوس اسرائيلى على وجه الارض المدعو "كوهين" والذى كاد ان يصل لمنصب وزير الدفاع السورى فى وقت تحارب فيه سوريا مع مصر اسرائيل، وايضاً هو الذى كشف عن الضربة التى ستوجهها اسرائيل الى مصر فى 1967، الا ان القيادة السياسة اهملت تلك المعلومات حينها، مروراً بإبلاغ مصر باعتزام إسرائيل إجراء تجارب نووية، واختبار بعض الأسلحة التكنولوجية الحديثة، حتى تحقيقه العديد من الانتصارات بما فيها تسريب اسرار وغموض خط بارليف المنيع الذى سحقه الجيش المصرى فى معركة السادس من اكتوبر.

 


تلقت زوجة رأفت الهجان تلك المعلومات شديدة التعقيد، وهى تتذكر كيف لها ان تقع فى عشق اسرائيلى، وهى الدولة التى تدعمها امريكا التى استباحت ارضها، كيف لها ان تحب يهودى، وهى تعرف انهم بخلاء المشاعر والعواطف والمادة، لدرجة انها اندهشت من تصرفاته قائله له، معروف ان الانجليز معروفين بالبرود، مثل اليهود المعروفين بالبخل الشديد، لكنك لست بخيل مثلهم، بالعكس استطعت جمع الكثير من المال دون الاضرار بشركائك.


شعرت زوجة رأفت الهجان بالإنتصار وهى تتذكر حياة زوجها الذى كان مقرباً لدوائر صنع القرار فى اسرائيل، لدرجة جعلته يعتاد دخول الموساد، لصادقته القوية والوطيدة بموشي ديان، عير، ايزمان، شواب، وبن غوريون، كيف نجح فى عقد الصفقات التجارية من بلد الى اخرى، لتكون ستاراً لنجاح اكبر من اجل خدمته وطنه مصر.


بالتاكيد كادت ان تضحك "هيلين ريتشر"، وهى تتذكر كيف حاولت الدولة الصهيونية علاج الصفعه التى تلقتها من الجانب المصرى، عندما زعموا ان "ديفيد" اسرائيلى وكان يعملى جاسوساً لدى الموساد، دون ان يعلموا ان اسمه الحقيقى "رأفت الهجان" قبل ان تفضحهم الصحافة العبرية وتكشف محاولات تزيفيهم للحقيقة التى المت بهم وكادت ان تسحق عقولهم، وانه فى الاصل بطل مصرى قادته الظروف لأن يكون احد عناصر جهاز المخابرات، وان الهجان كان مرتبطاً بوطنه مثلما يرتبط الجنين بحبله السرى.


باتت زوجة الهجان تتيقن انه كانت تعيش مع واحداً من اخطر الرجال على وجه الارض، يتمتع بذكاء خارق خاصة عندما تذكرت رؤيتها له وهو يقرأ القرآن وعندما سألته عن السبب اجاب انه فى طور دراسة عن المقارنة بين الاديان، وكيف كان يعتنى بحديقة منزلهما المزروعة بنباتات كلها من الشرق الاوسط، وكأنه يريد ان يشم عبيرها، ويملىء صدره من رائحة وطن لم يغادر ابداً قلبه، خاصة قبل ان يتمكن المرض اللعين من جسده، حتى ان امهر اطباء العالم عجزوا عن السيطرة عليه.


تلقت زوجة الهجان المعلومات بإستفاضة احياناً وتحفظ فى بعض الأحيان الأخرى نظراً لسرية عمل زوجها، حتى كانت تلك اللحظة التى قام فيها جهاز المخابرات العامة بالترتيب لنقل رفاته الى ارض الوطن، ودفنه فى بلدته طبقاً لوصيته، ولتكون جنازة مليئة بالمفارقات العظيمة كاشفة عن بطولة لرجل من طراز خاص.



«ليس من حقنا ان نحزن لأننا فقدناه، ولكن من حقه ان يفرح لأننا عرفناه» ... كان هذا اخر ما قالته "هلين الهجان" قبل ان تصعد الى الطائرة فى طريقها الى تشيكوسلوفاكيا.
 


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة