كتب
كتب


القصة لقطة.. القاص كاميرا

«ثمة حارسٌ يفزعهُ الوقت»

أخبار الأدب

الإثنين، 01 فبراير 2021 - 02:18 م

عِذاب الركابى

فى « ثمة حارسٌ يفزعهُ الوقت»* القصّة صورة الواقع..!
والكاتب – القاص لديه « جهاز استقبال» على حدّ تعبير هنرى ميللر، يعرفُ كيف يُجسّدُ، ويُؤرّخُ لتفاصيل هذا الواقع، بكلّ مفارقاتهِ وتناقضاتهِ، فى فرحِ شخوصهِ وأحزانهم معاً. وهناك اتفاق تلقائى  وتفاهم مسبقٌ بين السارد – القاص، والمسرود – القصّة..!
القصّة فى حركةٍ جمالية تلقائية تكتبُ نفسَها، مهتدية بإيعاز إيحائى شعرى باذخ فى بلاغتهِ، خلاصة بوح السارد، وفسفور حروفها تشظى الذات، وهى تتماهى وذوات الآخرين، الـ«أنا» هى «أنتَ» و«هى» حسب لعبة الضمائر المركبة، وكما يرى ميشال بوتور «يمكنُ لضمير الراوى (أنا) أن ينتقلَ فى كلّ لحظةٍ من شخصٍ إلى آخرَ»، حين يضحى الهمُّ إنسانياً واحداً مشتركاً.
 الكاتب إيهاب الوردانى فى قصصهِ فى لحظةِ مرحٍ، وخفقان قلبٍ، وهو يجسّدُ مجموعة من الشخصيات، وقد بدت قريبة منهُ، بلْ يعرفها، فى « قصة – لقطة» تتضمن موقفاً فى الحياة، وهى محاولة أيضاً لتحريك المفاصل المعطلة فى المكان الذى تعيشُ فيه شخصياته.
  والقصة – اللقطة خلاصة سحر حكى الذات الباحثة عن ذاتها فى  زحمة ذوات الآخرين، وهم عابرون معاً جسر هموم ومفارقات الواقع المعيش، والوقت مطرٌ وبردٌ وعواصف، متخذاً من المونولوج الداخلى والفلاش باك، وفقَ ما يسمّيه توماس كليرك بـ«الطابع الاسترجاعى للسرد»، وهو أحد مفاتن السير ذاتى والغيرى معاً:
«لا يعرفُ من أين جاء اسمهُ، ولا أحد أسماهُ بهِ، ملامحهُ تشبهُ الكثير، كأنهُ أنا، أو كأنهُ أنتَ، أو كأننا هو» – ص9.
  سحرُ حكى الذات المتماهية - واقعاً ومجازاً- والذوات الأخرى، والقاسمُ المشترك، هذا الهمّ الإنسانيّ الثقيل فى سلطتهِ، رُغمَ إيقاعهِ الحميمى الهاديء الشفّاف، وهو ما توحى بهِ جملُ ومفردات القصّة، وقد تجسّد بشاعرية عالية فى قصص (لماذا أنا، تهيؤ، فيما بعد) التى افتتح فيها القاص سرده بإصرار وليسَ مصادفة أبداً.
فى قصّة «حنين» حديث شائق للذات المتشظية، وهى تؤكّدُ ذاتها عبر لحظاتِ حبٍّ إفروديتي، وهو الحبّ الوحيد، وحسب إيزابيل اللندي: «مامن شيء يستطيع أن يوقفَ العاطفة المتأجّجة لشخصين عاشقين».. حالة حُبٍّ محض خيال، أشبه بمنطاد سفرٍ إلى الجمال والحياة، وهو يأخذُ شكلاً آخرَ على إيقاع خطوات أنثى، لا تكتفى بتأنيث المكان – حسب رؤى ابن عربي، بلْ بناء وتشكيل الروح وترتيبها، والوقتُ مخمليّ رومانسيّ محض:
«لم أدرِ ساعتها، هلْ خرجَ صوتى أمْ تردّدَ داخلى؟
لكن المؤكّدَ لى أنها استدارت، وبانت عيناها لؤلؤتين، كأنما كهربت المسافة بينى وبينها، ركبتنى الرعشة، وتلجلجت، وتجمعَ عرقى فى مثانتى فيما يشبهُ الدفع والتقلص معاً، ماذا اعترانى.. انكفأت نفسى على نفسها، وتوارت مخلفةً عصّة لاتغيب عن العين» – ص19.
«إنَّ الفنَّ هو دائماً نبأ عن الواقع، لايُمكنُ التعبير عنهُ بغير منطقهِ»- شارس مورجان!
القاص إيهاب الوردانى وقصصهُ تقولُ ذلك، والقاص والقصة لحظة انسجام، وهما يتبادلان المشورة والرأى فى كيفية تجسيد هذا الواقع، وينتهيان فى لحظة إيحاء تعبيرى جمالى إلى أنَّ القصة لاتبدو كلاماً ساحراً فحسب، بل صورة ناطقة بكلّ مفارقات الواقع، و«غضبة سومة»  جزء منه، لون ترابه، ولحظات صحوهِ وغيمه معاً، وببراعة القاص تنتقلُ القصّة، عبر تقنية سردٍ موحٍ  بالكثير من «المكتوب» و«المنطوق» إلى «البصرى».
القصّة لقطة، والقاص كاميرا!
والواقع اليومى المعيش تحت عدسة الكاتب يتكلمُ، ويتجسّد صورة جارحة ومستفِزة فى الآن، وأبطاله وشخوصه  المتهالكون سعياً لقبضة ريحان من حقل الحياة جزءٌ منهُ، يصعبُ عليهم الانفلات أو التنصّل من مفارقاتهِ ومتناقضاتهِ، و«سومة» صورة هذا الواقع بكلّ ما فيها من ألمٍ وشكوى وعذاباتٍ، وهى كلامهُ من غير كلام، وصورتهُ فيما بعد الخيال، وهويتهُ الباحثة عن هويتِها:
«فالوجه المدور كرغيف بلدي، والشعر الملفوف على الإيشارب الكحلى كشال، والجسم المدكوك المخروط  كشجرة توت ينطبعون على الفور فى مخيلتك.. عالى مقربة من (المصفى) المكان القديم، فرشت (سومة) طستها، وأفرغت فيه من جوال حملته مع أختها أرزاً.. وسمّت باسم الفتاح الرزاق الكريم» – ص31.
ولأنَّ «تصوير الواقعى يتحقّق إلاّ من خلال النفاذ فى قلب الشىء» - كما يقولُ توماس هاردي، فأنَّ قصة «مشاوير الأسياد» قصّة الواقع – الخيال، والخيال – الواقع، فصلٌ مثيرٌ فى إيقاعهِ المسرحى السينمائى الجاذب للقراءة – الدهشة، وهو بمفردات الميثلوجيا الشعبية، صورة الحياة الاجتماعية فى المكان، الريف والقرية والبندر، بكل ما فيها من مفارقات، خليط من مشاعر إنسانية مضطربة صادمة، يتسيّد فيها «إغواء» الأنثى للآخر – الذكر، وحكاية «الذكورة والأنوثة»  متجذرة فى لحم الواقع  ومن الصعب تشفيرها، وحسب الفيلسوف ابن عربى  فى «فصول الحكم» فأنَّ الرجل» مدرجٌ بين ذات (إلهة) ظهر عنها، وبين (امرأة) ظهرت عنهُ، فهو بين مؤنثين، تأنيث ذات، وتأنيث حقيقى».. والبطل فى القصّة يسند أفعاله إلى موروث يصعب التنصل أو الإفلات منه، ومصدره النصّ القرآنى المقدس، فالجد «آدم» قد تعرضَ لإغواء «حواء»، فكانت عقوبتهما الأرض، والبنت «سكر» والذكر «إبراهيم» هما من نسل آدم وحواء!
هذا الإيقاع السردى الموحي، لايبتعدُ كثيراً عن إيقاعات فضاء وطيف وعوالم الكاتب الكبير – خيرى شلبى فى شكلها الشفيف، والقاص يركز عدسة كاميرته على تفاصيل واقع الريف والقرية والبندر، فى لغة - حوار سينمائية باهرة جاذبة، إضافة مهمة –بلا شك – لسردٍ عابرٍ للنفوس والأزمان معاً.. وطيف خيرى شلبى لاينتقص من القص والقاص، بل إضافة لسرد هادف وجديد، بعيدٍ عن تقنية «التناص» تماماً، لحظة اشتراك فى عرض تفاصيل واقع القرية والريف، وكلٌّ لهُ مفرداتهُ وطريقته وأخيلته:
«الله وحده يعلمُ، لكن آلاف الألسنة تبارت، وكشفت عن أسنانها الصدئة، وخمنت وأجمعت على أنهما ولابدّ اتفقا على ساعةٍ معلومةٍ فى اليوم المعلوم..
•بنتك (سكر)
وعاودَ النظرَ إلىّ
•أغواها إبراهيم  – ص43.
«إنَّ الرسمَ يختصنا جميعاً، أما الكاتب فينبغى ألاّ يكون أيّ شيءٍ غريباً عنهُ، وخصوصاً الرسم « –ميشال بوتور – بحوث فى الرواية الجديدة / ص150!
القصّة القصيرة فنّ، بكلّ مافيه من كثافة واقتصاد فى لغة، وخيال مركز هى تشكيلٌ!
لحظة لقاء «الرسم» و«الكتابة»، فكلّ منهما أخذ من الآخر، وتعلّم منهُ، والإثنان ينتميان بصلة رحمٍ قريبةٍ من «الموسيقا»أيضاً. يقولُ ميشال بوتور أيضاً: «إنَّ الرسامين يعلموننى كيف أرى، وكيف أقرأ، وكيف أؤلف، وبالتالى كيف أكتبُ، وكيف أضعُ إشاراتٍ على صفحةٍ» –بحوث فى الرواية / ص150.
قصّة «وجه» قصّة تشكيلية بامتياز!
القصّة – البورتريه، و«الذات» البطلة – الراوية وهى تحكى ذاتها، لاتكتفى برسم الملامح، بل تحدّدُ مساراتها، وتراقب خطواتها وانفعالاتها فى ظلال شديدة الجذب:
«العينان غائرتان كأنهما لؤلؤتان فى بحرٍ، ترى بريقهما كلما صفى الماءُ حولهما.. الفمُ رغم ذمته يُنبئك عن أتساعهِ.. عظام الوجه فى جملتها بارزة حتى أنّ الوجنتين لاتخطئهما عين.. وثمة ابتسامة فى شحوبها الممضى تكادُ تبين» – ص59.
 قصّة « دوامات العودة» بوحُ البوح!
تشظى الذات وهى تنحتُ مفردات بلاغة الحنان.. والضياع معاً، سحرُ الحنان الذى يضاهى سحر السرد فى دفء الأمّ، مقرون بفقه الوصية والوعظ والنصح.. وألم الضياع لحظة التعلق بالمكان أو ما يُسمّيه كونديرا «حبّ المكان».. و«نحنُ لا نسكن إلاّ الأماكن التى نغادرها» – حسب بورخيس، وهى فى الحقيقة تسكننا أيضاً.. والمكان بفقهِ السرد أصل ولادة الأشياء وحبّ الحياة، والتماهى والتصالح مع الآخرين، حتى وإن بدا ساكنوه داخلين فى الغياب أو اللامبالاة والغموض:
«هكذا الدنيا، والانتماء لدار أياً كانت احتماء بأهلها، لوْ أنَّ أمّى معى الآنَ، ربما كنتُ أعفيت نفسى مسئوليات كثيرة جسام، أولُها البحث عن الطعام، وآخرها خوض المجهول ممّا لابدّ منهُ» – ص74.
يقولُ هاروكى موراكامى «كلّ شيءٍ عبارة عن سيرة»!
فى قصّة «بنت الكذاب» سيرة غيرية، فى أبجدية جارحة فاضحة، صورة قاتمة لواقع بشعٍ رثِ، يمتهن الإنسان، ويسلبهُ ورود َعزتهِ وكرامتهِ، إذ لايبدو «الكذب» فى عُرف الراوية – البطلة إلاّ منطاد نجاة فى واقعٍ ظالمٍ، بل لحظة انتصار بطعم الهزيمة على واقع ظالم، يحدّ أنيابه فى مواجهة الضعيف والمتهالك الروح والجسد، ويعانى صعوبة الحياة، ووحشة المكان، وقسوة الزمن معاً.
  وبراعة القاص – إيهاب الوردانى فى تقمّص روح الشخصية عبر بوحٍ مضنٍ من دون زخارف أو إضافات أو لهو استعارات وألعاب مجاز، وحسب بول فاكا: «يبدو تقمّص عواطف الشخصيات هو كفاية مهمة بالنسبة إلى الكاتب، وذلك حتى يتسنى لهُ الدخول فى أعماقها»:
«بعض الليالى التعيسة التى قضيناها بدون عشاء، ولعنات أبى المستمرة على وجهى النحس، تزيد من ضربات قلبى حتى ليخيّل إليّ أنهُ فجأةً سيقف..!» – ص77.
السرد من دون أن تمرّ تقنياته من بوّابة الشعر لايُعوّلُ عليه!
وفى «ثمة حارس يفزعهُ الوقت» لاتملك إلا أن تنتبه كقاريء إلى أسلوب إيهاب الوردانى بدهشةٍ ومتعةٍ  إلى لغتهِ الشعرية الفاتنة، ثمرة ثقافة هادئة، وهو يكتب ويُشكل ويرسم، كما ينشغل ويفكر الشاعرُ فى اختيار قوافيه، حتى تبين إيقاعات فكرته المثيرة.
فى قصّة «الطيبون» سيلُ دهشةٍ وجذب، مصدرهُ شاعرية اللغة، وكأنهُ يصنع لك منطاداً ترفيهياً، مخمليّ النسمات، تحركهُ أخيلة مبتكرة، والرحلة حلمٌ متلوّ بيقظة.
القصة صورة، والقاص كاميرا!
وهما يرسلان معاً ذبذبات الإيحاء التعبيرى «وعينهما على الجملة الأخيرة» – شرط إدجار ألان بو لجودة القصة القصيرة وجمالها، وهذا مايميز سرد صديقنا – الوردانى بمجموعهِ:
«التفت إليه، يحكم ياقة بلوفره الأزرق الغامق لونه حول رقبته، كنت أرغب الآن فى صفعهِ أو ركله أو أمدّ يدى وأخرج عينيه وأدحرجهما أمامنا.. غير أنّى بإصرار واستهانة دفعتهُ للخارج وأنا أشير للطريق» – ص107.
لا يبدو السطو السلميّ على تقنيات القصيدة الذى يشارك فيه جلّ كتّاب السرد جرماً، بل ضرورة عصية، وكأنّ الإبداع من دون طقوس شعرية لايُعوّلُ عليه كما يبدو لقاريء السرد الحداثي، قصصا قصيرة ورواية على وجه الخصوص.
إيهاب الوردانى فى «ثمة حارس يفزعهُ الوقت» قاص يجذبهُ الشعر، ولابئس من نثر – الشعر أو شعر – النثر! وهو يكتبُ وأصابعهُ وقريحتهُ موقوتان على كهرباء ذبذبات القصيدة من دون أن تضحى القصة القصيرة «جنيناً شعرياً»، وهذا مرهون ببراعة وخبرة السارد، وهو يموسق  موضوعاته – صور واقعه، ويحرك أبطاله وشخوصه، وينتقل بهم من الاجتماعى والحياتى إلى الإنسانى، شرائح مجتمع، وهى تصنع الحياة، وتقاوم البلادة والتصحر الروحى والموت بأظافرها وأسنانها وفتافيت جسدها النحيل.
  قصص ( المهادن – الوريث – للخنازير – ويطلع النهار) هى نوعٌ من السرد – النثر الشعرى الذى يمكن أن يُدرجَ ضمن جنس «القصّة – القصيدة» التى برع فى صوغ عوالمها وتقنيتها وطقسها اللغوى عديد كتّاب السرد فى الفضاء الإبداعى العربي.
القاص إيهاب الوردانى فى مجموعته الأخيرة « ثمة حارس يفزعهُ الوقت» والتى لا تحملُ أيٌّ من قصصهِ هذا العنوان المثير للقراءة، قد انتهج عدة مستويات لغوية وفنية، يرجع هذا التنوع تحت ميكروسكوب النقد إلى سحر حكى الذات الشائق عن ذاتها المتشظية، لحظة تماهيها وتصالحها وذوات الآخرين، عبر لغة وصفية شعرية وظيفية معاً، صورة الواقع المعيش، وسيناريو المكان، وأحلام الشخصيات المبددة، بكلّ ما فى أسلوبهِ وتقنيته من أمثال وذكريات وتجسيد لعادات وتقاليد حياة الريف والقرية خاصةَ.
  «ثمة حارس يفزعهُ الوقت» بوحُ كاتبٍ لا يُمكن أن ينفصلَ عن واقعهِ، وأنهُ شاءَ أمْ أبى جزءٌ منهُ فى حياتهِ، وأحاسيسهِ، وعواطفهِ.. وذلك مصدر الدهشة والجذب وجوهر الجمال فى قصصهِ!

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة