فالنتين راسبوتين
فالنتين راسبوتين


فالنتين راسبوتين.. روائى القرية الروسية

أخبار الأدب

الإثنين، 01 فبراير 2021 - 02:31 م

 

د. دينا عبده

فالنتين جريجوريفيتش راسبوتين (1937-2015)  أحد الأدباء الذين التصقت كتابتهم بالقرية حتى أٌطلق عليه مغرد القرية الروسية. ولد راسبوتين فى سيبيريا النائية فى قرية بالقرب من أنجارا وانتقلت الأسرة للعيش فى قرية أتالانكا، ومن هنا ومنذ طفولته أثّرت طبيعة سيبيريا الساحرة فى نفس كاتب المستقبل وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من أعماله المتميزة. بعد عودة الأب جريجورى راسبوتين من جبهة الحرب عمل رئيسًا بالبريد وكان المفترض أن تتحسن أحوال الأسرة المعيشية، ولكن الأب فقد حقيبته التى كان يحمل فيها مبلغًا كبيرًا كعهدة للبريد فتعرض للسجن، لتتكفل الزوجة بثلاثة أبناء لتبدأ سنوات عجاف من الفقر والجوع.  التحق الطفل فالنتين بمدرسة ابتدائية تبعد عن قريته بحوالى 50 كيلو مترًا وتفوق دراسيًا حتى حصل على البكالوريا والتحق بكلية الآداب والتاريخ بجامعة إيركوتسك. خلال سنوات دراسته اضطر إلى العمل إلى جانب الدراسة لمساعدة الأسرة على أعباء المعيشة، وكانت طفولته وصباه فترة عصيبة شاقة صورها فى أحد أعماله الأدبية المبكرة (دروس الفرنسية). تولد لدى راسبوتين نهم شديد للقراءة فكان يقرأ كل ما تصل إليه يده من جرائد ومجلات و كتب وأى شيء موجود فى مكتبات أو منازل أهل قريته. وفى أثناء دراسته بالجامعة انجذب إلى أعمال هيمنجواى و ريمارك وبروست. عمل صحفيا فى جريدة (الشباب السوفيتى) وهنا بدأ مشواره الإبداعي. انتقل فى عام 1962م إلى كراسنايارسك وتم تكليفه بتغطية الأخبار عن المشروعات والإنجازات الضخمة الجديدة التى تقوم بها الدولة وهى بناء محطات الطاقة الكهرومائية فى كراسنايارسك وسايانا- شوشينسكايا وخط سكة حديد أباكان-تايشيت ذو الأهمية الاستراتيجية. وهنا لم تكن صفحات الجرائد كافية للحديث عن تلك الأحداث وردود الفعل عليها فظهر أول عمل أدبى متميز لراسبوتين «نسيت أن أسأل أليوشا»  كما نشر روايات عديدة منها «أموال لأجل ماريا» «عش وتذكر» عن مأساة الحرب الأهلية، «الحريق» «وداع ماتيورا» «اللقاء الأخير»، واستطاع من خلالها تجسيد مشكلات القرية الروسية فى الفترة السوفيتية وأن يعبر عن أفكار ومشاعر القرويين ومعاناتهم النفسية. هنا نلقى الضوء على إحدى رواياته «اللقاء الأخير».
اللقاء الأخير
فى «اللقاء الأخير» (1970) تنطلق الرواية من احتضار بطلة فى الثمانين تدعى آنا. سيدة لديها خمسة أبناء، ولدان: ميخائيل وإيليا، وثلاث بنات: فارفارا وليوسيا وتاتيانا. كان ميخائيل وأولاده وزوجته يعيشون فى نفس القرية مع الأم، وجاء إيليا وفارفارا وليوسيا من مدن ومناطق متفرقة بعد أن علموا باحتضار الأم، والأم تنتظر تاتيانا القادمة من مدينة بعيدة، وتأبى أن تغادر الحياة قبل أن تلقى ابنتها. تعتبر الأم نموذجا للفلاحة الروسية التى عاشت وعانت سنوات قاسية كثيرة مرت فى حياة الروس، سنوات الحرب واضطرابات ما بعد الحرب والمجاعة ولم تنحن أمام تلك الأحداث العاصفة ولم تقس روحها بل ظلت على فطرتها وطيبة قلبها ونقاء سريرتها وقابلت كل العناء والمشاق بالتحمل والصبر والعمل.
تملكت السعادة الأم التى أصبحت لا تخشى الموت، فها هم أبناؤها حولها بعد سنوات طويلة وبعد أن فرقتهم الحياة عن بعضهم البعض حتى أصبحوا غرباء عن بعضهم، وهنا تداعت ذكريات حياتها أمامها، تذكرت فقط كل اللحظات السعيدة التى عاشتها، تذكرت شبابها وكيف أن كل شيء فى القرية كان حولها شابا سعيدة مفعما بالحياة، وكانت تعلم أن وجود أبنائها حولها الآن هو الشعور الأخير بالسعادة، التى لم يصبر الأبناء على منحهم إياها فى آخر لحظات عمرها، فقد كانت مشاغلهم الشخصية أهم من موت الأم، حيث استعدوا للرحيل، متوجهين لأمهم بعبارات الاعتذار الزائفة (لا تغضبى منا، يجب أن تتعافى، لا تفكرى فى الموت يا أمى). تفرق الأبناء ولم يستجيبوا لنداء أمهم بالبقاء معها للحظات أخرى ولفظت الأم أنفاسها الأخيرة بمجرد رحيلهم، وقد كان اللقاء قصيرا وكان هو الأخير. ويبدو نموذج الأم القروية وثراؤها الروحى مناقضا تماما لنموذج الأبناء الذين أفقدتهم ماديات الحياة وأسلوب حياتهم فى الحضر الإنسانية وامتلأت قلوبهم بالقسوة. ولعل من أكثر النماذج سلبية كما صورها الكاتب الابنة ليوسيا التى تنكرت تماما لأصلها القروى وبدت كما لو كانت لم تنتم يوما للقرية الروسية وأخذت تستاء كثيرا من سلوك ولهجة أخوايها ميخائيل وفارفارا الريفية وعدم لباقتهما. ويٌعتبر ميخائيل فى نظر الكاتب هو أفضل أبناء آنا فهو القروى البسيط الفظ نوعا ما فى تصرفاته، ولكنه أكثر طيبة وإنسانية من أخوته أهل الحضر. لم يتأثر من الأبناء أكثر من ميخائيل الذى أخذ على عاتقه الإحساس بالذنب، وشعر بمدى حزن أمه وتمزقها فى اللحظات الأخيرة بسبب عدم رجوع ابنتها تانتشورا من كييف، وأخذ يقول لها لن تأتى ابنتك، ولا يجب أن تنتظريها، سأرسل لها تلغرافاً أخبرها ألا تأتى أبدا. وكان هو أكثر الأبناء حزناً على موت أمه.
وداع ماتيورا
أما رواية «وداع ماتيورا» (1976) فتدور أحداثها فى قرية ماتيورا التى كانت فى طريقها للهلاك حيث سيقام على شاطئ النهر فيها سد من أجل إنشاء محطة طاقة كهرومائية، لذلك سترتفع مياه النهر وسيحدث فيضان سيغرق القرية بأكملها، وهنا انقسم أبطال الرواية إلى فريقين، الأول هم الآباء من العجائز وهم الجد إيجور وناستاسيا وسيم وكاترينا، وهؤلاء الذين شربوا الحب والانتماء إلى قريتهم مع لبن أمهاتهم لم يقدروا على نسيان جذورهم وأصلهم وكان الموت عندهم أهون من الرحيل عن القرية، أما الجيل الثانى فهو جيل الأبناء الذين يمثلهم أندريه و بتروخا وكلافكا، وهؤلاء لا يشعرون بأى انتماء للقرية ولا يشغلهم الأصل، بل هم يسعون للرحيل إلى المدن، وإيجاد حياة أخرى فى الحضر ويرون أن التقدم العلمى أهم من القرية والجذور و الموروثات وما إلى ذلك، ويدور الصراع بين الجيلين، والذى بالطبع يقف فيه الكاتب إلى جانب الجيل القديم.
يطرح الكاتب سؤالًا مُلحًا: هل من الضرورى إغراق القرى مدام السلطات قررت أن تقيم محطة طاقة كهرومائية. وهل التقدم العلمى والتكنولوجى فوق كل شىء، وهل يمكن بكل بساطة إفقاد الفلاحين أرضهم وقريتهم التى عاشوا فيها هم وآباؤهم وأجدادهم؟ فالقرية (ماتيورا) يجب إغراقها بالمياه، ويجب إجلاء سكانها إلى قرية أخري، ولم يسأل أحد الفلاحين هل يرغبون فى ذلك أم لا. ولكن يجب عليهم الانصياع وعدم الاعتراض. ومن المثير تباين ردود أفعال سكان القرية تجاه ذلك الإجراء، فنجد أن العجائز واللاتى تمثلهن العجوز داريا لا يمكنها أبدا ترك ماتيورا ووداعها، فهناك عاشت طيلة عمرها وهناك لها ذكريات عزيزة مع كل ركن وكل شجرة فى القرية، وهناك رفات والديها وأجدادها، إن ترك قريتها لهو أمر قاس جدا على نفسها ولا تقوى عليه ولآخر لحظة كانت تزحف عند مقبرة أهلها وتمسك بالصلبان، رافضة أن تترك كل تاريخها وجذورها وعمرها وحياتها وترحل، أما ابنها والذى يمثل الجيل الثانى، فهو آسف وحزين على مغادرة البيت والرحيل عن القرية ولكنه يرى أن العلم أهم من الطبيعة والقرية ويجب أن يرحلوا مهما كان الثمن. ولكن ماذا حدث للقرية الروسية بعد أن تم فيها تطبيق نظام المزارع الجماعية منذ عام 1928 وحتى عام 1937 وفى غرب البلاد حتى عام 1950م لضم كل أراضى وممتلكات الفلاحين لتكون ملكية عامة للدولة؟ ما حدث هو أنه تم تهجيرهم إلى سالوفكى وسيبيريا وإلى الغابات والمناجم حيث كان الأحياء يحسدون الأموات. إن القرية ماتيورا فى رواية راسبوتين تمثل الحياة وإغراقها وإجلاء أهلها هو إنهاء الحياة والموروثات والقومية الروسية.  
تحمله الرياح عبر الشاطئ وفى اليوم التالى غادر القرية وحيدا صامتا، تاركا بيته وأرض ليعانى مرارة الوحدة والعزلة.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة