محمد صلاح عبدالمقصود
محمد صلاح عبدالمقصود


ربيع موسكو.. شهادة وفاة الثورات الملونة

محمد صلاح عبد المقصود

الأربعاء، 03 فبراير 2021 - 03:10 م

بعد فاصل قصير دام أربعة أعوام فقط كانت هي فترة ولاية الرئيس الأمريكي السابق دوتالد ترامب، عاد شبح الثورات الملونة للظهور من جديد، ولكن هذه المرة في روسيا الاتحادية، في مشهد يبدو وكأنه المستوى الأخير لهذه اللعبة السياسية السخيفة، والتي أصبحت تتكرر في أهدافها و أدواتها و تكتيكاتها لدرجة الملل، لا يتغير شئ في كل المشاهد سوى الأبطال والوقت فقط، بل وعادة ما تتشابه النهايات أيضاً.

 

الثورات الملونة التي وضع استراتيجيتها وأدوات وأساليب تنفيذها الملياردير الأمريكي ذو الأصول المجرية جورج سوروس في سبعينات القرن الماضي، والتي تعتمد على تدمير الدول ذاتياً عبر استخدام النشطاء الممولين في إثارة الشعوب ضد أنظمتها الحاكمة، لا تتكلف فيها أمريكا والغرب عموماً أية تكاليف أكثر من بضعة ملايين من الدولارات، مع بعض الضغوط السياسية على الدول المستهدفة، إضافة إلى دور مشبوه لكافة وسائل الإعلام المحلية والدولية، تلك التركيبة التي تضمن لك نتائج لم تكن لتحققها عبر حروب طاحنة تتكلف تريليونات الدولارات!

 

قد يظن البعض أن هذه الثورات تهدف إلى إعلاء مفاهيم حقوق الإنسان، عبر تحرير البشر من الاطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الحاكمة في مجتمعاتها، أو أنها تهدف إلى رفع المستوى المعيشي للشعوب، غير أن تاريخ هذه الثورات الممتد منذ اسقاط الاتحاد السوفيتي وحتى مظاهرات اليوم في روسيا الاتحادية، تكشف زيف هذه الأهداف برمتها، وما تحقق في دول جورجيا وأوكرانيا و يوغوسلافيا إضافة إلى دول الشرق الأوسط، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن المستفيد الوحيد من كل هذه الثورات كان سوروس وأصدقائه من رجال الأعمال المالكين للشركات العالمية العابرة للحدود فقط.

 

أبرز ما يميز الثورات الملونة أنها تستهدف الدول والشعوب ذات التاريخ الاشتراكي أو النظم الاقتصادية والاجتماعية المعادية للغرب أو أمريكا، من النادر أن تجد مثل هذا النموذج من الثورات في الغرب، حتى الثورات الأوروبية التي عصفت بدول أوروبا الصيف الماضي لم تكن سوى خلافات عميقة بين هذه الدول من جهة، و بين بريطانيا و أمريكا من جهة أخرى، ويبدو أن توافقاً ما قد تم بين الطرفين داخل الغرف المغلقة، اختفت معه هذه الثورات في لمح البصر!

 

ثاني ما يميز هذه الثورات هو النشطاء و التمويلات الأجنبية و الدعم الاعلامي الضخم لهم، اليوم مثلا تواجه روسيا مظاهرات يحيها بضعة آلاف في عدة مدن روسية، غير أن الغطاء الاعلامي لهذه المظاهرات يعطيك الانطباع بأن الشعب الروسي كله في الشوارع، و أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وشك الهروب من موسكو!

 

وحسناً فعلت إدارة مكافحة التجسس الروسية عندما سربت وثائق و تسجيلات لأيقونة الثورة الوليدة اليكسي نافالني و مجموعة من مساعديه أثناء لقاءاتهم مع مجموعة من عملاء الاستخبارات البريطانية، و كيف دارت الاتفاقات بين الطرفين، و كيف تم الاتفاق على فضح البنوك الروسية و الشركات الروسية لمصلحة المؤسسات النقدية الأجنبية، و كيف كانت الأوطان تقسم و تباع على موائد الخيانة بثمن بخس، ملايين معدودات من الدولارات من أجل أن تبيع وطنك للبنوك و الشركات البريطانية!

 

ثالث مميزات هذه الثورات في جميع مراحلها هو عودة الدول العميقة في جميع الدول التي قامت بها هذه الثورات للسلطة مرة أخرى، وخسارة الثوار لكل الاستحقاقات الانتخابية الشعبية التي تلتها، بل و ادانة أغلبهم في قضايا فساد بتسجيلات و أدلة لا تحتمل الشك أو التأويل، الأمر ابذي يضع العديد من علامات الاستفهام حول أسباب و فائدة كل هذه الثورات!

 

رابع ما يميز هذه الثورات فهو استهداف المؤسسات المالية و الاقتصادية بالدرجة الأولى، سواء كان هذا الاستهداف مباشراً كما في الحالة الروسية، أو غير مباشر كما حدث في حالات أخرى، و ذلك عبر اسقاط قوات الأمن و المؤسسات الخدمية و حتى الأحياء السكنية، مما يضع اقتصاد هذه الدول بالكامل موجهاً نحو برامج إعادة الإعمار لسنوات عديدة، و يصبح الهدف الاقتصادي الحقيقي هو عودة هذه البلاد لما كانت عليه قبل الثورات الملونة ليس أكثر!

 

قد يظن البعض أن تحرر الشعوب أو التخلص من فساد سلطة أو تطبيق النماذج الحقوقية الغربية كما هي في بلاد تتمتع بموروثات تاريخية و خصوصية ثقافية و اجتماعية يستحيل التخلي عنها، هدف يستحق من أجله كل هذا الخراب و التدمير، غير أن الشعوب في جميع الحالات هي التي تدرك عبث هذه الاطروحات، و تستعيد أوطانها و تتعاون مع بعضها البعض لتجاوز آثار و نتائج هذا الفخ السياسي، و هو ما ترجمته كافة الاستحقاقات الانتخابية التي أقيمت بعد هذه الثورات.

 

إن أخطر ما تحمله الحالة الروسية اليوم هو التأكيد على أن اليسار الليبرالي الأمريكي الجديد في ولايته الجديدة لن يتخلى عن أدواته القديمة في اثارة الفتن، و أن أمريكا لن تستقر قبل أن تشتعل العالم أجمع، و تنعش تصلب شرايين اقتصادها المتجمدة بتجارات مثل إعادة الإعمار و السلاح و نهب موارد الدول الغير مستقرة سياسيا، و أن بايدن قادم لاكمال ما بدأه أوباما من جرائم لم تجد من يضع مرتكبيها في قفص الاتهام حتى الآن.

 

و أن داعمي اليسار الليبرالي الأمريكي من رجال الأعمال لن يتوقفوا إلا بالسيطرة على كافة موارد و مقدرات هذا الكوكب، ويستخدمون في سبيل ذلك أدوات تتغير من نافالني في روسيا إلى الاخوان في الشرق الأوسط إلى يوشينكو في أوكرانيا أو حى ساكاشفيلي في جورجيا، هم في بلاد معينة يدافعون عن الاسلام كما يدافعون في بلاد أخرى عن المسيحية، كما ستجدهم في بلاد ثالثة يدافعون عن الملحدين، و الذكي هنا هو الذي لا يجعل من نفسه أو بلاده أو دينه وسيلة أو أداة في يد غيره لتحقيق هذه الأهداف القذرة.

 

حسناً فعلت روسيا عندما حاكمت نافالني، و حسناً فعلت عندما واجهت شرطتها المظاهرات بمزيد من ضبط النفس، و نجحت في القبض على المحرضين و المشاغبين و أحالتهم للقضاء ليقول كلمة الفصل فيهم، ما يحدث في روسيا يجب أن يشهد وفاة هذا النوع من الدجل السياسي، و أن تكتب في موسكو شهادة وفاة ثورات سوروس و أصدقائه المملة، و أن يكتب العالم قريباً نهاية لهذا العصر السئ من التجارة بالبشر و معتقداتهم و حقوقهم، و أن نبدأ عقداً دولياً جديد يتبنى الانسانية الحقيقية بمفهومها الأعم و الأشمل، و الذي يرتكز على حق الانسان في السلام قبل أي حقوق أخرى.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة