جمال حمدان
جمال حمدان


فى ذكرى ميلاده| نبوءات «حمدان» تتحقق فى عصر «السيسى»

نادية البنا

الخميس، 04 فبراير 2021 - 08:12 م

لم يحظ جمال حمدان، المولود بقرية ناي بمحافظة القليوبية عام 1928، بالتقدير الذي يستحقه خلال حياته فعاش في عزلة تامة داخل وحدة سكنية لا تتجاوز غرفتين بأثاث متهالك حتى وفاته عام 1993، في حريق غامض لا يزال سببه مجهولاً حتى الآن، مع تكهنات دارت حول تعرضه للاغتيال بعد اختفاء مسودة كتاب كان بصدد تسليمه لأحد الناشرين حول «اليهودية والصهيونية» .

وتملك كتابات «حمدان» ميزة استثنائية تجعله مختلفاً عن باقي الجغرافيين تتعلق بأسلوبه وطريقة العرض، فلغته جزلة، تتسم بالبلاغة الكلاسيكية، فلا تخلو من المحسنات الأدبية والتراكيب، وربما يرتبط ذلك بحفظه القرآن وتجويده على يد والده المعلم الأزهري، فضلاً، وهذا هو الأهم، عن وعيه بجدل الجغرافيا والسياسة، ومنجزه اللافت في حقل الجغرافيا السياسية، وقد تعامل حمدان مع الجغرافيا كعلم ينبض بالحياة والبشر ويتداخل مع التاريخ والأجناس، فجعل مؤلفاته خصبة وثرية ومشوقة للقراءة.

كتابات «حمدان» إلهام للحكومة

واليوم وبعد كل تلك السنوات منذ وفاته، وجدت كتاباته تبنياً على الصعيد الرسمي ما ينقلها من ساحة المثقفين إلى الجمهور العادي، فكما يقول اللواء عبدالعظيم حمدان في فيلم وثائقي بعنوان «مبنى للمجهول» بثته الفضائيات المصرية في ٢٠١٩ ، إن الرئيس السيسي يستعين بكتب شقيقه الأكبر لفهم شخصية المصريين.

 

الهيئة العامة للكتاب طرحت أيضاً موسوعة «شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان»، المكونة من أربعة أجزاء بسعر رمزي، تشجيعاً لقراءة المجموعة التي تمزج بين علم الأجناس والجغرافيا والتاريخ والسياسة والعلوم الطبيعية والإنسانية والتطبيقية، وتنفذ إلى روح المكان لتستكشف عبقريته الذاتية، التي تحدد شخصيته وليس إطاره الخارجي فقط.

 

وتعتبر الحكومة تطوير الشخصية المصرية أحد تحدياتها الأساسية، وتعلن عن خطط ومبادرات تتعلق بتطوير فكر الشباب بما يتناسب مع متطلبات العصر، واعتبرت أن المصريين تم استهداف عقولهم على مدار السنوات الماضية، ما تطلب حينها خطة للنهوض بهم على مستوى تشكيل الوعي والثقافة وعبر المؤسسات التعليمية والدينية.

واهتم منتدى شباب العالم الذي احتضنته مدينة شرم الشيخ بتلك القضية، واعتمد في جلساته على أفكار حمدان، وميلاد حنا صاحب كتاب «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية» والتي تدور في فلك التاريخ بحقبة «الفرعونية، اليونانية الرومانية، القبطية والإسلامية»، إضافة إلى ثلاثة أخرى ترتكز على الجغرافيا تتعلق بأبعاد الموقع في المحيط «العربي، والأفريقي، والمتوسطي» .

الدولة تتبنى آراء «حمدان»

وتتبنى الدولة المصرية آراء الراحل جمال حمدان حول احتياج مصر إلى «ثورة نفسية» على نفسها ونفسيتها، وتغيير جذري في العقلية والمثل وأيديولوجية الحياة قبل أي تغيير في حياتها وكيانها ومصيرها، وقد تردد ذلك التصور إبان تحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016، فالخطاب الرسمي اعتبر «التعويم» القرار الأجرأ في التاريخ، والحل الجذري لمشكلات الاقتصاد المزمنة الذي منع الدولة من الانهيار، وثورة على سياسات الحكومات السابقة التي انتهجت مبدأ المسكنات، وترحيل أوجاع الاقتصاد إلى الأجيال اللاحقة.

«السيسي» يستشهد بنبوءة حمدان

وقد امتد إلهام جمال حمدان لخطط الحكومة المصرية الاقتصادية، ففي كتابه «قناة السويس.. نبض مصر» الصادر عام 1975، اعتبر القناة مركز النقل الأول عالمياً، وطالب بتوسيعها لاستيعاب الناقلات العملاقة، وهو ما تم بالفعل في مشروع قناة السويس الجديدة، حتى إن الرئيس السيسي ذكره بالاسم خلال كلمته في حفل افتتاح المشروع، قائلا «ها هي نبوءة جمال حمدان تتحقق».

تكرر الأمر ذاته في كتابه «سيناء في الاستراتيجية والسياسة والجغرافيا»، والذي يضع تحدي التعمير في مستوى التحديات العسكرية، وطالب بتدشين سلسلة أنفاق تحت قناة السويس تحمل شرايين المواصلات البرية، ومد السكك الحديدية إليها، فالفراغ العمراني جعلها أرضاً جاهزةً للعدوان، وجعل الأعداء يشككون في مصريتها، ويطمعون فيها بصورة أو بأخرى، بمحاولة الضم أو السلخ أو العزل.

ويبدو أن الحكومة لا تدخر جهدًا لتنفيذ تلك الرؤية، ففي نوفمبر الماضي، افتتحت ثلاثة أنفاق عملاقة تربط مدينة بورسعيد بسيناء لربطها بالوادي والدلتا، وتسهيل حركة عبور الأفراد والبضائع منها وإليها ليستغرق المرور بالسيارات نحو 7 دقائق فقط، كما أنشأت 26 تجمعا تنموياً، ووزعت على الراغبين 10 أفدنة جاهزة للزراعة ومنزلاً للإقامة.

السياسة الخارجية توافق أفكار «حمدان»

حتى على المستوى الخارجي، تتماس السياسة المصرية كثيرًا مع الخطوط التي رسمها حمدان في مؤلفه «مصر وأبعادها الأربعة»، من بناء علاقات متوازنة على المستوى العربي والأفريقي ودول حوض النيل ومنطقة المتوسط دون تغليب أحدها على الآخر، أو القيام بدور الشرطي في التعامل مع دول القارة السمراء.

يرى «حمدان» أن قارة أفريقيا هي مستقبل الاستثمارات، ما يتطلب وضعها في أولوية السياسة المصرية لصالح الاقتصاد والتنمية والاستفادة من ثرائها بالموارد والخامات والأسواق والعدد الضخم من المستهلكين، وتوقع أن تكون مشكلة مصر المستقبلية في النيل لقدومه من خارج حدودها وارتباطه بتدخل السياسة والأعداء لمحاولة منعها من الحصول على حقوقها الطبيعية والشرعية في النهر.

وقد ذكر الرئيس عبد الفتاح السيسي، عدة مرات في كل المحافل الدولية وآخرها القمة البريطانية الأفريقية للاستثمار 2020 بلندن، آراء مشابهة بأن هناك فرصاً واعدة للاستثمار تجعل من أفريقيا أحد أهم المقاصد أمام مؤسسات الأعمال الدولية، وأن القارة قادمة بالتاريخ والجغرافيا والحقائق والشباب وبالفرصة.

وتعتبر الدولة المصرية أن الأولوية لديها هي الحفاظ على الدول العربية من الانهيار وبقاء أمنها واستقرارها، مثلما يقتنع المؤرخ الراحل، الذي اعتبر البعد العربي الآسيوي محورًا يوجه مسار القاهرة خارجيًا باعتباره علاقة أخذ وعطاء من طرفين تمتاز بالاستمرار، على عكس البعد المتوسطي المرتبط بحركة رأسية من مركز الثقل العالمي للسياسة الدولية والحضارة العصرية والعلم والتكنولوجيا إلى الدول النامية.

وقد ارتبطت مؤلفات «حمدان» بالتحديات التي تواجهها الحكومة المصرية ليبدو كما لو كان كتبها خصيصًا للتوقيت الحالي، ففي كتابه «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى.. دراسة في الجغرافيا السياسية» يربط مصير مصر وليبيا معًا في خندق واحد منذ تاريخ الأسرات الفرعونية، ويستدل بالمواجهة المشتركة لحملات الاستعمار على مدار العصور ووحدة المصالح التي جمعتهما بدرجة أو بأخرى.

وربما تنبع ممانعة مصر القوية إزاء إرسال قوات تركية إلى طرابلس من ذلك المنطلق، بعدما أكدت أنها «لن تسمح لأحد بالسيطرة على ليبيا التي تمثل مسألة أمن قومي في ظل وجود 1200 كيلومتر حدودًا برية مشتركة، بخلاف الحدود البحرية التي تحتاج إلى تأمين على مدار الساعة، وتتكبد مصر وحدها مشقة مراقبتها» .

تلاقي أفكار الرئيس السيسي وحمدان

تتلاقى أفكار الرئيس السيسي، وحمدان، كثيرا إزاء التطرف، فالأخير يرى أن الإسلام السياسي تعبير عن مرض نفسي وعقلي، والجماعات المتشددة عنده وباء دوري يصيب عالم المسلمين في فترات الضعف وهدفها هو حكم الجهل لا العلم.

ويشبه المؤلف الراحل الأحزاب الدينية بالعصابات الطائفية، فمنطقها بسيط وواضح، لأنها في قاع المجتمع فليس لديها ما تخسره، فإما أن يضعها البشر في مكانة مقبولة أو فليذهب الجميع إلى الجحيم تحت ستار الدين، وهذا عين ما فعله الإخوان بعد ثورة 30 يونيو 2013، حين لجأوا للقتل والإرهاب بعد خروجهم من الحكم.

ناصرية «حمدان»

وارتبطت غزارة إنتاج حمدان بتوصيفه كما يقول محمد حسنين هيكل بـ«مؤرخ ثورة يوليو» لتسكنها رياح القومية العربية دوما، بداية من تناول حركات التحرر الوطني في «استراتيجية الاستعمار والتحرير»، و«العالم الإسلامي المعاصر»، ووضع مصر وجيرانها في كفة واحدة، ليتحدث عن العرب وليبيا والسودان ودول حوض النيل واليهود ودول المتوسط بنفس المستوى من التركيز والكثافة.

وتعلق حمدان بفكر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بشدة، واعتبره الحاكم الذي استطاع إدراك أهمية القوة الجغرافية لمصر، فالناصرية، عنده، هي المصرية كما ينبغي أن تكون.

اقرأ أيضا| غلق ٨ مقاه ومصادرة ٩١ شيشة لمواجهه «كورونا» بالشرقية

 

عزلته

ربما تكون مشكلة حمدان، التي جعلته معزولاً ومنعته من الوصول للمكانة التي يستحقها، هي آراؤه الصدامية الواضحة، فبعدما لفت الأنظار إليه من خلال كتبه الثلاثة «جغرافية المدن»، و«المظاهر الجغرافية لمجموعة مدينة الخرطوم.. المدينة المثلثة»، و«دراسات عن العالم العربي» التي منح عنها جائزة الدولة التشجيعية عام 1959، استقال من الجامعة احتجاجًا على تخطيه في الترقية.

كان «حمدان» زاهدًا في الحياة مما جعل كتاباته تحظى بالتقدير فلم يغير قناعاته عن التجرد بالكتابة بعيدًا عن الإغراءات المالية، فرفض الزواج وتفرغ للبحث العلمي حتى أنه رفض الحصول على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1986، لكنه نال وسام الجمهورية من الطبقة الأولى عن كتابه «شخصية مصر» عام 1988، أما جائزة التقدم العلمي من الكويت عام 1992 وكانت قيمتها 12500 دينار كويتي، فقد وزعها على معارفه.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة