صورة تعبيرية
صورة تعبيرية


عندما بكى القاضى

جودت عيد

الخميس، 04 فبراير 2021 - 11:48 م

ليس مشهدا دراميا تخللت التراجيدية لقطاته فأبكت المشاهد، او لوحة مبهجة امتطاها اللون الاسود فنشر خيوطا من الضعف والرداءة على منحنيات الجمال فيها، بل قصة واقعية مرصودة بالصوت والصورة، مدونا فيها كل همسة ودمعة وعتاب ورجاء بين طرفيها.. أختتمها القاضى فى مسودة حكمه بعبارة..حفظكما الله أسرة موحدة..انقضاء الدعوى بالتصالح.

فى الساعة العاشرة صباحا، على اسوار محكمة الاسرة بمصر الجديدة..مشهد يتكرر لاول مرة، الاب يقف مضطربا ينظر بقلق يمينا ويسارا، يوارى بيديه مظاهر الخوف التى ارتسمت على وجهه وكأته يخشى ان يراه أحد..وعلى الجانب الاخر تحضر الام مصطحبة طفليها أحمد 15 عاما وشيماء 12 عاما، تمشى ببطء،وكأن التعب والارهاق تملكا من جسدها فأنهكاها، لم تجد سندا سوى كتف ابنيها لتتكئ عليهما، ممسكة بإحدى يديها "دوسيه " به اوراق وفى اليد الاخرى صور اشعة وتحاليل.

بمجرد أن لمح الاب زوجته وابناءه يقتربان من أسوار المحكمة، اسرع فى عجل إلى داخلها، سأل عن القاعة التى ستنعقد بها الجلسة، واختار ركنا بعيدا للاختباء به قبل ان تبدأ المواجهة، فى حين أجبر الارهاق والتعب الام بالجلوس على المقاعد امام القاعة، وبجوارها طفلاها، انتظارا لحضور القاضى.

فى الحادية عشرة والنصف نادى الحاجب على الزوج محمد.م..مهندس والزوجة ابتسام.ع..ربة منزل وحاصلة على مؤهل عال، للحضور بشخصهما وابنائهما جلسة النفقة، بناء على طلب القاضى لمواجهة الاب بطفليه، والتأكد من كلام الزوجة بان الزوج لاينفق عليها منذ عام.. استمع القاضى إلى محامى الطرفين، ثم طلب منهم بهدوء الجلوس فى نهاية القاعة لرغبته فى مواجهة الاب بأبنائه.

فى الثانية عشرة كان السكون يملأ قاعة المحكمة، نبضات القلب تخفض وترتفع ضرباتها كلما سمعت جرس القاضى يطلق رنينه ايذانا بايعاز الحاجب للنداء ببدء الجلسة.. وسط هذا المشهد المضطرب، كانت أعين الاب تتخطف ابناءه خلسة،هما شاهداه لكنه كان يتجاهلهما بعينيه، لقد تفحصهما جيدا عندما دخلا القاعة، مرور عام لم يغير فيهما كثيرا، لكن ماكان يشغله هو زوجته التى لم يرها منذ سفره للخارج.

كانت عيناه تشرح مايريد أن يقوله، مازال لايصدق أن هذه هى السيدة التى تزوجها، اين ذهب جمالها،وجسدها الممشوق، نعم هى بالفعل مريضة، ظل يحدث نفسه، ويلومها، كنت اعتقد أنها تكذب من اجل الحصول على اموال، انا الآن رأيت بعينى، زوجتى قد انهكها المرض، لكن أى مرض هذا..دقائق وسأعلم، فهى تحمل بيديها اشعة وتحليل.

فى الثانية عشرة والنصف نادى القاضى على الزوج، ثم الزوجة والابناء، طلب منهم الحضور امامه ثم سمح للام أن تتحدث.. استأذنته فى الجلوس بسبب عدم قدرتها على الوقوف لمرضها، وافق القاضى، لكنه اشترط ان تتحدث فيما يخص دعوى النفقة فقط.

قصت الزوجة مأساتها بعد أن سافر زوجها وتركها وأولادها دون نفقة بسبب خلافات بينهما، وصلت إلى حد الهجر، والزواج من امرأة اخرى،والسفر معها للخارج وفق ماوصلها من معلومات.

قالت.. اختلفنا على موعد السفر، رفضت أن يتركنا ويذهب للعمل فى الخارج بمرتب كان يتقاضاه فى عمله بشركة البترول، حياتنا كانت هادئة، اولادنا ادخلناهم مدارس خاصة، وكنا نضع القرش على القرش من اجل تعليمهم وتوفير حياة كريمة لهم.

واضافت  كنت على علم بعلاقة حب تجمع زوجى بسيدة أخرى، لكننى كنت اتجاهل، واعتبرتها نزوة وستذهب، حتى فوجئت باصرار زوجى على السفر للخارج دون اى أسباب،، لذلك قام قبل سفره بإثارة المشاكل بيننا، لدرجة انه قام بضربى واهانتى امام اولادى، وهددنى بالطلاق، ثم ترك البيت وذهب إلى منزل والدته.

وتضيف، علمت بعد ذلك أنه سافر للعمل فى الخارج، حاولت التواصل معه انا وابناؤه لكنه كان يتجاهل..قررت غلق بابى على اولادى،والتركيز فى تربيتهم حتى يعود والدهم إلى رشده.. مر عام وزوجى يتجاهلنا ليس هناك وسيلة تواصل معه، كل أخبارنا كان يعلمها من والدته، حتى ابناؤه لم يفكر فى التواصل معهم.. وعندما اكتشفت مؤخرا أن الاموال التى كانت ترسلها لنا والدته لم تكن منه، بل من معاشها الخاص، قررت ان أختصمه أمام الله وامامكم فأقمت دعوى نفقة علاج ونفقة اولاد.

لم يكن يشغل بال الزوج ماتقوله زوجته، هو كان يركز على الجسد الضعيف الذى تخرج من فمة الكلمات بصعوبة، كان يريد أن يحتضنها، ويأخذها بعيدا للعلاج فى افضل الاماكن، حتى انه لم يستمع لاولاده، الذين اخبروا القاضى ان والدهم لم يتواصل معهم او ينفق عليهم منذ عام.

كان كل مايشغل الزوج هو زوجته التى مازالت فى عصمته، نعم هو أدرك الآن أن شعوره تجاهها ليس عطفا لمرضها، بل انه مازال يحبها، ويريد ان يعوضها هى والاولاد عن العام الذى تركهم فيه.

وجد نفسه يتحدث دون ان يأذن له القاضى، اقترب من زوجته، نظرا اليها ودموعه قد ملأت عينيها، طلب منها متوسلا أن تسامحه، اخبرها انه لم يتزوج من أحد، وانه قطع سفره من اجلها والاولاد.

اعترف امام القاضى ان الحياة سرقته، وانه كان تائها، تخطفته الاحلام والامانى، فخضع لقلب مزيف لكنه سريعا ما استفاق،ولم يجد امامه سوى اسرته وزوجته واولاده للعودة اليهم.

طلب من زوجته ان تعطيه مساحة للعودة على أمل أن يستطيع تعويضها واولادها عن كل دقيقه من العام الذى تركهم فيه، ركع امامها على قدميه، استعطفها، أمسك يديها بقوة وقبلها، لكنها كانت صامتة، تنظر بتعب إلى الاسفل وبجوارها ابناها يحتضنهما بقوة وكأن هناك من يريد ان يختطفها منهم.

كانت عين الزوجة تتحدث نيابة عن جسدها المنهك، فهى تنظر اليه دون أن ترمش عيناها،وكأنها تقول له هل ستعوضنى عن الايام التى لم اجد فيها دواء لعلاجى من حساسية الصدر التى جعلتنى قعيدة الفراش، الا تدرك انك المسئول الاول عن مرضى، هل مطلوب منى ان اتحمل نزواتك وتصرفاتك واهاناتك، ثم تأتى بعد عام لتطلب منى العفو.. رجاء اطلبه من اولادك..فأيامى معدودة، واذا سامحاك، سأسامحك دون أن أسالك عن الماضى.

على الجانب الاخر كان القاضى يراقب نظرات الزوج تجاه زوجته،، لقد تأثر بهذا المشهد، بكت عيناه وسرعان ماتدارك الموقف، طلب من الزوج ان يتوقف ويعود إلى مكانه.. وعندما ادرك أن هناك نقطة للعودة والصلح بينهم قرر تأجيل الحكم إلى جلسة الغد.

فى الساعة الواحدة.. خرج الزوج من القاعة ودموعه لاتفارق عينيه، سارع إلى اولاده، احتضنهما بقوة، ثم طلب منهما ان يسامحاه، كانت الام على الجانب الاخر تراقب المشهد، وعندما شعرت ان حضن الاولاد لأبيهم هو رسالة لمسامحته، اخرجت تنهيدة وكأنها ازالت جبلا من الجليد من على قلبها، اومأت بابتسامه انارت وجهها، لاحظها الزوج اسرع اليها وطلب منها ان تسامحه

رغم كل ماعانته الزوجة من غياب الزوج، ورغم مرضها الذى كتب نهايتها فى اى وقت، الا انها اختارت سعادة واستقرار اسرتها فوق كل خطيئة، لم تفكر كثيرا فى طلب زوجها ان تسامحه..وافقت..وقررت التنازل عن دعاوى النفقة.

تبدلت فجاة دموع الندم على وجه الزوج إلى ابتسامه عريضة واحضان لزوجته واولاده.. وعد الجميع بالعودة معهم إلى المنزل، وانه لن يسر مطلقا وراء نزواته مهما كانت المغريات..واعترف لزوجته انه لم يتزوج من أحد، فقط كان تهديدا ليس اكثر.

فى العاشرة صباحا من اليوم الثانى حضر الزوج والزوجة والاولاد معا إلى قاعة المحكمة، بمجرد أن نادى الحاجب عليهم، لاحظ القاضى ان من كانا يفترقان أمس تجمعا معا اليوم داخل الجلسة،.. ادرك ان الصلح بينهما تم، وان الزوجة المريضة سامحت زوجها..بعدها قدم محامى الزوجة مذكرة تصالح وتنازل عن دعوى النفقة.

دقائق ورفع القاضى الجلسة، ثم عاد ليصدر حكمه مختتما مسودته " حفظكما الله أسرة موحدة..انقضاء الدعوى بالتصالح ".. رفعت الجلسة

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة