كتب: فتحي عبدالسميع
كتب: فتحي عبدالسميع


الشعر وانحراف الفلسفة

الشاعر التونسى عبد الوهاب الملوح.. فى حضرة سيوران

أخبار الأدب

الإثنين، 08 فبراير 2021 - 01:25 م

يحضر‭ ‬الشعر‭ ‬كلما‭ ‬حضر‭ ‬سيوران،‭ ‬ويتجلى‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬عبر‭ ‬وجوه‭ ‬مختلفة،‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬سيرته،‭ ‬هو‭ ‬الذى‭ ‬تخلى‭ ‬طوعا‭ ‬عن‭ ‬مواصلة‭ ‬دراسته‭ ‬العليا‭ ‬فى‭ ‬مبحث‭ ‬الدكتوراه،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يجد‭ ‬فى‭ ‬نفسه‭ ‬فيلسوفا‭ ‬مؤهلا‭ ‬لتقديم‭ ‬نظرية‭ ‬فكرية‭ ‬متكاملة‭ ‬العناصر‭ ‬حول‭ ‬الكون‭ ‬أو‭ ‬الوجود؛‭ ‬وعاش‭ ‬مثل‭ ‬متشرد‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬بوصفها‭ ‬مجرد‭ ‬عبور‭ ‬مؤقت،‭ ‬ويجب‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬بمنطق‭ ‬الأسئلة‭ ‬الكونية‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬سيوران‭ ‬على‭ ‬قناعة‭ ‬تامة‭ ‬بأن‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬أكثر‭ ‬أهمية‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬فيلسوف،‭ ‬وكانت‭ ‬علاقته‭ ‬بالشعر‭ ‬عميقة،‭ ‬وحظى‭ ‬باهتمام‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب،‭ ‬فقاموا‭ ‬بترجمة‭ ‬كتاباته،‭ ‬مثل‭ ‬آدم‭ ‬فتحى‭ ‬الذى‭ ‬ترجم‭ ‬له،‭ ‬ثلاثة‭ ‬كتب،‭ ‬ومحمد‭ ‬على‭ ‬اليوسفى‭ ‬الذى‭ ‬ترجم‭ ‬له‭ ‬مختارات‭ ‬جُمعت‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬بعنوان‭ ‬الو‭ ‬كان‭ ‬آدم‭ ‬سعيداب،‭ ‬و‭ ‬الشاعر‭ ‬التونسى‭ ‬عبد‭ ‬الوهاب‭ ‬الملوح‭ ‬الذى‭ ‬ترجم‭ ‬له‭ ‬ثلاثة‭ ‬كتب‭ ‬هى‭ ‬اعلى‭ ‬مرتفعات‭ ‬اليأسب،‭ ‬ادموع‭ ‬وقديسونب‭ ‬واغسق‭ ‬الأفكارب‭.‬

أربعة‭ ‬أسباب‭ ‬لاهتمام‭ ‬الشاعر‭ ‬بالفيلسوف

عبد‭ ‬الوهاب‭ ‬الملوح‭ ‬شاعر‭ ‬ومترجم‭ ‬روائى‭ ‬أصدر‭ ‬فى‭ ‬الشعر‭: ‬ارقاع‭ ‬العزلة‭ ‬الاخيرةب،‭ ‬االواقف‭ ‬وحدهب،‭ ‬اسعادة‭ ‬مشبوهةب،‭ ‬اأنا‭ ‬هكذا‭ ‬دائماب،‭ ‬االغائبب،‭ ‬االليل‭ ‬دائما‭ ‬وحدهب،‭ ‬اراقص‭ ‬الباليه‭ ‬ب،‭ ‬ا‭ ‬كتاب‭ ‬العصيانب،‭ ‬اكتدبير‭ ‬احتياطيب‭. ‬

لم‭ ‬تقتصر‭ ‬تجربة‭ ‬الملوح‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬امتدت‭ ‬كتاباته‭ ‬لتشمل‭ ‬الرواية،‭ ‬والمسرحية،‭ ‬والدراسات،‭ ‬وهذا‭ ‬يشير‭ ‬بوضوح‭ ‬إلى‭ ‬تصالح‭ ‬شاعرنا‭ ‬مع‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬المختلفة،‭ ‬وانفتاحه‭ ‬عليها،‭ ‬و‭ ‬إيمانه‭ ‬بوجود‭ ‬طاقة‭ ‬إبداعية‭ ‬واحدة‭ ‬تسرى‭ ‬فيما‭ ‬اعتبرناه‭ ‬أجناسا‭ ‬مستقلة،‭ ‬وذهبنا‭ ‬نرفع‭ ‬الجدران‭ ‬الشاهقة‭ ‬لتفصل‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬جنس‭ ‬وآخر‭ ‬لتصبح‭ ‬حدودا‭ ‬صارمة‭. ‬

ترى‭ ‬ما‭ ‬الذى‭ ‬دفع‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬ترجمة‭ ‬سيوران،‭ ‬هل‭ ‬هى‭ ‬دوافع‭ ‬شخصية،‭ ‬أم‭ ‬ثقافية‭ ‬عامة؟‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬التفاعل‭ ‬بدافع‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الإضافة‭ ‬وتعميق‭ ‬سؤال‭ ‬الوجود؟‭ ‬

يوجز‭ ‬عبد‭ ‬الوهاب‭ ‬الملوح‭ ‬سر‭ ‬اهتمامه‭ ‬بسيوران‭ ‬فى‭ ‬أربعة‭ ‬نقاط‭ ‬هى‭ :‬

‭(‬1‭) ‬يربط‭ ‬سيوران‭ ‬بين‭ ‬حركتين‭ ‬فى‭ ‬الثقافة؛‭ ‬حركة‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وحركة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ويمثل‭ ‬محطة‭ ‬مهمة‭ ‬لفهم‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬فى‭ ‬التفكير‭ ‬الذى‭ ‬ينسف‭ ‬كل‭ ‬بناء‭ ‬كلاسيكى‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬النسبية،‭ ‬بل‭ ‬ويحرر‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬الأجناسية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬يكتب‭ ‬الفلسفة‭ ‬بالشعر،‭ ‬ويكتب‭ ‬الشعر‭ ‬فلسفيا،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تأتى‭ ‬النقطة‭ ‬الثانية‭. ‬

‭(‬2‭) ‬كان‭ ‬سيوران‭ ‬محطة‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منها‭ ‬لفهم‭ ‬تحولات‭ ‬الشعرية‭ ‬وأساليب‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬لأنه‭ ‬جاء‭ ‬فى‭ ‬مهب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬الأدبية‭ ‬و‭ ‬الفنية‭ ‬عموما،‭ ‬خاصة‭ ‬وأنه‭ ‬اطلع‭ ‬جيدا‭ ‬على‭ ‬المد‭ ‬الشعرى‭ ‬الحداثى‭ ‬الأول‭ ‬الذى‭ ‬تمثل‭ ‬فى‭ ‬بودلير‭ ‬ورمبو‭ ‬وفرلين‭ ‬وقبلهم‭ ‬هولدرين‭ ‬وكيتس،‭ ‬ثم‭ ‬عاصر‭ ‬شعراء‭ ‬المد‭ ‬الشعرى‭ ‬الحداثى‭ ‬الثانى‭ ‬ابولينار‭ ‬وماكس‭ ‬جاكوب‭ ‬وغيليفيك‭ ‬وأندريه‭ ‬بروتون‭ ‬و‭ ‬دافيد‭ ‬هيوز،‭ ‬هذا‭ ‬المد‭ ‬الشعرى‭ ‬الذى‭ ‬انتفض‭ ‬بدوره‭ ‬على‭ ‬نظرية‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬وانطلق‭ ‬فى‭ ‬كتابة‭ ‬متحررة‭ ‬من‭ ‬اية‭ ‬قيود‭ ‬شكلية،‭ ‬وولد‭ ‬جيلا‭ ‬مختلفا‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬جورج‭ ‬باطاى‭ ‬وانتونين‭ ‬ارتو‭ ‬وموريس‭ ‬بلانشو‭ ‬وجماعة‭ ‬مجلة‭ ‬تال‭ ‬كال‭ ‬ومؤسسى‭ ‬الرواية‭ ‬المضادة‭. ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬المناخ‭ ‬المتميز‭ ‬بتمرده‭ ‬انطلق‭ ‬سيوران‭ ‬فى‭ ‬تشكيل‭ ‬مشروعه‭ ‬الثقافى‭ ‬الذى‭ ‬تميز‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المضمون‭ ‬بالتمرد‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬الدينى‭ ‬فى‭ ‬تشريعاته‭ ‬الوضعية‭ ‬و‭ ‬وبالتمرد‭ ‬على‭ ‬أسلوب‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬تأتى‭ ‬النقطة‭ ‬الثالثة‭. ‬

‭(‬3‭) ‬تميز‭ ‬سيوران‭ ‬بالأساس‭ ‬بكتابة‭ ‬الشذرات،‭ ‬تلك‭ ‬الومضات‭ ‬الخاطفة‭ ‬التى‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬ثلاثة‭ ‬أسطر‭ ‬مكثفة‭ ‬ومشحونة‭ ‬مختزلة‭. ‬وقد‭ ‬ظل‭ ‬يتدرب‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصدر‭ ‬كتبه‭ ‬الأولى‭ ‬التى‭ ‬اتصفت‭ ‬جملها‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الطول‭ ‬والاستطراد،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬جاءت‭ ‬فى‭ ‬إيهاب‭ ‬لغوى‭ ‬رفيع،‭ ‬بما‭ ‬جعلها‭ ‬تبلغ‭ ‬ذرى‭ ‬شعرية‭ ‬عالية،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬مقاطعه‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبارها‭ ‬قصائد،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬مواضيعها‭ ‬كانت‭ ‬ذات‭ ‬بعد‭ ‬انطولوجى‭ ‬غيبى‭ ‬،‭ ‬وهنا‭ ‬تأتى‭ ‬النقطة‭ ‬الرابعة‭. ‬

‭(‬4‭) ‬يعمق‭ ‬سيوران‭ ‬السؤال‭ ‬حول‭ ‬الاديان‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬ويذهب‭ ‬عميقا‭ ‬فى‭ ‬نقد‭ ‬المسيحية‭ ‬فى‭ ‬مختلف‭ ‬تطوراتها‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬المسيح‭ ‬بل‭ ‬انه‭ ‬انتقد‭ ‬سلوك‭ ‬المسيح‭ ‬واتجه‭ ‬نحو‭ ‬تحليل‭ ‬فكرة‭ ‬الإيمان‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬الاديان،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬يكون‭ ‬متصوفا‭ ‬ملحدا‭ ‬أو‭ ‬ملحدا‭ ‬متصوفا‭.‬

الصوفى‭ ‬الملحد

كيف‭ ‬يكون‭ ‬المتصوف‭ ‬ملحدا،‭ ‬والملحد‭ ‬متصوفا؟‭ ‬ما‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬الملحد‭ ‬والكافر،‭ ‬وكيف‭ ‬يرتبط‭ ‬التصوف‭ ‬بالإلحاد‭ ‬عند‭ ‬سيوران؟‭ ‬يقول‭ ‬عبد‭ ‬الوهاب‭ ‬الملوح‭: ‬

الإلحاد‭ ‬هو‭ ‬الميل‭ ‬عن‭ ‬المقصود،‭ ‬أما‭ ‬الكفر‭ ‬فهو‭ ‬إنكار‭ ‬الله،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يذهب‭ ‬اليه‭ ‬اللغويون‭ ‬فى‭ ‬تعريف‭ ‬هاتين‭ ‬العبارتين،‭ ‬وهى‭ ‬تعريفات‭ ‬لغوية،‭ ‬أما‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التطبيق‭ ‬الفعلى،‭ ‬فالإلحاد‭ ‬فكرة‭ ‬عن‭ ‬الكون‭ ‬ونشأته‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬الكفر‭ ‬الذى‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬كفرا‭ ‬بآلهة‭ ‬وإيمانا‭ ‬بآلهة‭ ‬أخرى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يترتب‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬الملحد‭ ‬لا‭ ‬ينكر‭ ‬الله‭ ‬كجوهر‭ ‬لهذا‭ ‬الوجود،‭ ‬ويبنى‭ ‬أفكاره‭ ‬وفق‭ ‬هذا‭ ‬الإيمان،‭ ‬أما‭ ‬الكفر‭ ‬فهو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬السلوك‭. ‬وعلى‭ ‬ضوء‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة‭ ‬المختزلة،‭ ‬أعتقد‭ ‬ان‭ ‬إميل‭ ‬سيوران‭ ‬ملحد‭ ‬وليس‭ ‬كافرا،‭ ‬لأنه‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬إنتاجاته‭ ‬الفكرية‭ ‬يحاور‭ ‬وجود‭ ‬الله‭ ‬ونشأته‭ ‬وينتقد‭ ‬الأديان‭ ‬بمختلف‭ ‬أنواعها‭ ‬السماوية‭ ‬والأرضية،‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الأديان‭ ‬هى‭ ‬فى‭ ‬وجه‭ ‬ما‭ ‬تطور‭ ‬للفكر‭ ‬الأسطورى،‭ ‬ولذلك‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬تحليل‭ ‬فكرة‭ ‬نشأة‭ ‬الكون‭ ‬والجوهر‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬ثنائية‭ ‬الوجود‭ ‬والعدم‭ )‬نفس‭ ‬مدخل‭ ‬سارتر‭( ‬حتى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تبنى‭ ‬الفلسفة‭ ‬الرواقية،‭ ‬لكن‭ ‬سيوران‭ ‬يدمج‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬فلسفة‭ ‬الشكوكيين،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬انتهى‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬التفلسف‭ ‬الصوفى‭ ‬الذى‭ ‬يبحث‭ ‬فى‭ ‬روح‭ ‬الله،‭ ‬بل‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬روح‭ ‬كامنة‭ ‬فى‭ ‬الإنسان،‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬تماما‭ ‬من‭ ‬غابريال‭ ‬مارسيل‭ ‬أب‭ ‬الوجودية‭ ‬المؤمنة‭ ‬وأحد‭ ‬أهم‭ ‬متصوفة‭ ‬المسيحية،‭ ‬فسيوران‭ ‬لا‭ ‬يأخذ‭ ‬بالمسلمات،‭ ‬ولا‭ ‬يؤمن‭ ‬باليقينيات،‭ ‬وتفكيره‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬تحريف‭ ‬القناعات‭ ‬المألوفة،‭ ‬ويتجه‭ ‬نحو‭ ‬دحض‭ ‬الأشكال‭ ‬المعرفية‭ ‬السائدة،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بناء‭ ‬أسئلة‭ ‬أشد‭ ‬تعقيدا‭ ‬حول‭ ‬الوجود‭ ‬ونشأة‭ ‬الكون،‭ ‬وفى‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬يتميز‭ ‬عن‭ ‬الكافر‭ ‬وعن‭ ‬المؤمن‭ ‬بالتسليم‭ ‬،‭ ‬لذلك‭ ‬هو‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬عنه‭ ‬فتحى‭ ‬المسكينى‭ ‬النبى‭ ‬الملحد‭ ‬المتصوف‭. ‬

الدراجة‭ ‬وانحراف‭ ‬الفلسفة

ذهب‭ ‬سيوران‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭ ‬بمنحة‭ ‬لتقديم‭ ‬أطروحة‭ ‬فى‭ ‬الفلسفة،‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1937‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬1940‭. ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬السوربون‭ ‬قط‭. ‬كان‭ ‬يقضى‭ ‬الشهور‭ ‬فوق‭ ‬دراجته‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬يعتبرها‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الرفق‭ ‬الإلهى‭. ‬

لقد‭ ‬عرف‭ ‬سيوران‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الأرق‭ ‬العظيم،‭ ‬ولم‭ ‬تنقذه‭ ‬الأدوية‭ ‬من‭ ‬العذاب‭ ‬اليومى،‭ ‬لقد‭ ‬سممت‭ ‬الحبوب‭ ‬بدنه،‭ ‬لكن‭ ‬الدراجة‭ ‬أنقذته‭ ‬من‭ ‬ضراوة‭ ‬الأرق‭. ‬

كان‭ ‬قد‭ ‬مضى‭ ‬على‭ ‬وجوده‭ ‬فى‭ ‬باريس‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر،‭ ‬وفى‭ ‬أحد‭ ‬الأيام،‭ ‬عرض‭ ‬عليه‭ ‬شخصٌ‭ ‬دراجة‭ ‬سباق،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬غالية‭ ‬فاشتراها،‭ ‬وصار‭ ‬يطوف‭ ‬فرنسا‭ ‬بتلك‭ ‬الدراجة‭. ‬كان‭ ‬يقطع‭ ‬مائة‭ ‬كيلومترا‭ ‬فى‭ ‬اليوم‭. ‬الأمر‭ ‬الذى‭ ‬أتاح‭ ‬له‭ ‬النوم‭ ‬بسبب‭ ‬الإرهاق‭ ‬الجسدى‭. ‬وكان‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬أية‭ ‬قرية،‭ ‬يتناول‭ ‬ما‭ ‬يشتهى،‭ ‬وينام‭ ‬فى‭ ‬الحقول‭.‬

هل‭ ‬لعبت‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬دورا‭ ‬فى‭ ‬تحريره‭ ‬من‭ ‬هيئة‭ ‬الفيلسوف‭ ‬البيروقراطي؟‭ ‬

يقول‭ ‬سيوران‭ ‬فى‭ ‬غسق‭ ‬الأفكار‭ ‬اأحب‭ ‬الفلاسفة‭ ‬القدامى‭ ‬لأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يتفلسفون‭ ‬وهم‭ ‬يمشون‭ ‬فى‭ ‬الحدائق‭ ‬والشوارع،‭ ‬وأنفر‭ ‬من‭ ‬فلاسفة‭ ‬العصور‭ ‬الحديثة‭ ‬لأنهم‭ ‬يكتبون‭ ‬فلسفاتهم‭ ‬وهم‭ ‬فى‭ ‬مكاتبهم‭ ‬محاطون‭ ‬بالجدرانب‭ ‬

يذهب‭ ‬سيوران‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الملوح‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الفلسفة‭ ‬انحرفت‭ ‬عن‭ ‬دورها‭ ‬الأساسى‭ ‬الا‭ ‬وهو‭ ‬التفكير،‭ ‬والتأمل‭ ‬فى‭ ‬الوجود،‭ ‬ونشأة‭ ‬الكون،‭ ‬وطرح‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬التى‭ ‬تخلص‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬كسله‭ ‬الوجودى،‭ ‬وتحرر‭ ‬عقله‭ ‬من‭ ‬اليقينيات،‭ ‬والبديهيات‭. ‬فالفلسفة‭ ‬اليوم‭ ‬إما‭ ‬ايديولوجية‭ ‬تصنع‭ ‬ايديولوجيا،‭ ‬وتصير‭ ‬مجرد‭ ‬مكتب‭ ‬ضبط‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الايديولوجيا،‭ ‬أو‭ ‬هى‭ ‬موظف‭ ‬قار‭ ‬فى‭ ‬سلطة‭ ‬أحد‭ ‬الأنظمة‭ ‬السياسية‭ ‬يخطط‭ ‬لاستراتيجيات‭ ‬عملها،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬مكتبة‭ ‬فى‭ ‬الجامعات‭ ‬يعود‭ ‬إليها‭ ‬الطلبة‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬بلا‭ ‬أى‭ ‬فائدة،‭ ‬ودور‭ ‬الفلسفة‭ ‬الذى‭ ‬هو‭ ‬حب‭ ‬الحكمة‭ ‬تزحزح‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭ ‬وتواتر‭ ‬العصور‭ ‬الفلسفية،‭ ‬وفقدت‭ ‬الفلسفة‭ ‬دورها‭ ‬فى‭ ‬تربية‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعويده‭ ‬على‭ ‬تحليل‭ ‬المعطيات‭ ‬الفكرية‭ ‬بغية‭ ‬إنتاج‭ ‬معنى،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتحقق‭ ‬إلا‭ ‬بالالتزام‭ ‬بالواقع،‭ ‬والعيش‭ ‬فيه،‭ ‬والانطلاق‭ ‬منه‭ ‬للعودة‭ ‬اليه،‭ ‬وهذا‭ ‬لن‭ ‬يتحقق‭ ‬إلا‭ ‬فى‭ ‬الشوارع،‭ ‬والمقاهى،‭ ‬والمحطات،‭ ‬والترحال‭ ‬بين‭ ‬المدن‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬سيوران‭ ‬على‭ ‬دراجته‭ ‬الهوائية‭. ‬

الفيلسوف‭ ‬وسر‭ ‬الصور‭ ‬الشعرية‭ ‬

لم‭ ‬يكتب‭ ‬سيوران‭ ‬شعرا،‭ ‬ولم‭ ‬يعتبر‭ ‬نفسه‭ ‬شاعرا،‭ ‬وحاول‭ ‬أن‭ ‬يترجم‭ ‬شعرا‭ ‬فرنسيا‭ ‬إلى‭ ‬الرومانية،‭ ‬لكنه‭ ‬توقف‭ ‬عن‭ ‬المحاولة‭ ‬لاعتقاده‭ ‬بصعوبة‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬فيلسوف‭ ‬لا‭ ‬يكتب‭ ‬شعرا،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬يتملكنا‭ ‬الإحساس‭ ‬القوى‭ ‬بشاعريته‭ ‬كلما‭ ‬قرأنا‭ ‬شذراته‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬وفى‭ ‬محاولة‭ ‬لكشف‭ ‬سر‭ ‬ذلك‭ ‬الإحساس‭ ‬يقول‭ ‬الملوح‭: ‬

يرى‭ ‬سيوران‭ ‬الشعر‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جماد،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مثير‭ ‬للتأمل،‭ ‬فهو‭ ‬فى‭ ‬البحر‭ ‬وأمواجه،‭ ‬فى‭ ‬الأزرق‭ ‬السماوى،‭ ‬فى‭ ‬المساء‭ ‬الخريفى‭ ‬الهادئ،‭ ‬فى‭ ‬الحقول‭ ‬الريفية،‭ ‬فى‭ ‬ابتسامة‭ ‬خاطفة‭ ‬من‭ ‬امرأة‭ ‬تعبر‭ ‬الشارع‭ ‬بشكل‭ ‬مباغت،‭ ‬وهنا‭ ‬يكمن‭ ‬إيمان‭ ‬المرء‭ ‬بذاته‭ ‬وبكينونته‭ ‬ووجوده‭ ‬يقول‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬ادموع‭ ‬وقديسونب‭ ‬

احين‭ ‬ننصت‭ ‬لصمت‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬حولنا‭ ‬نشرع‭ ‬وقتها‭ ‬فى‭ ‬إدراك‭ ‬معنى‭ ‬العزلة‭. ‬نفهم‭ ‬السر‭ ‬المكتوم‭ ‬داخل‭ ‬الحجارة،‭ ‬واليقظ‭ ‬داخل‭ ‬النبتة،‭ ‬الإيقاع‭ ‬المخفى‭ ‬أو‭ ‬المرئى‭ ‬للطبيعة‭ ‬كلها‭. ‬لغزُ‭ ‬العزلة‭ ‬متفرع‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬لكائنات‭ ‬فاقدة‭ ‬للحياة‭. ‬فلكل‭ ‬شيء‭ ‬لغته‭ ‬التى‭ ‬نفك‭ ‬رموزها‭ ‬بواسطة‭ ‬حالات‭ ‬صمت‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬لها‭.‬ب‭ ‬انه‭ ‬الانصات‭ ‬للأصوات‭ ‬الخفية‭ ‬فى‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬حولنا‭ ‬والتماهى‭ ‬فيها‭ ‬لدرجة‭ ‬الانصهار،‭ ‬ولذلك‭ ‬يتخير‭ ‬سيوران‭ ‬عبارته،‭ ‬ويتوقف‭ ‬كثيرا‭ ‬فى‭ ‬تركيب‭ ‬جملته،‭ ‬ليجيء‭ ‬أسلوبه‭ ‬مختلفا‭ ‬عن‭ ‬أسلوب‭ ‬الكتابات‭ ‬الفكرية‭ ‬المألوفة،‭ ‬وهو‭ ‬بهذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬يلتحق‭ ‬بشعراء‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬وقد‭ ‬احتوت‭ ‬شذراته‭ ‬صور‭ ‬شعرية‭ ‬فائقة‭ ‬الجمال‭. ‬يكتب‭ ‬سيوران‭ ‬كمن‭ ‬يتشمم‭ ‬عطر‭ ‬زهرة‭ ‬مضمومة،‭ ‬كمن‭ ‬يتسلق‭ ‬قطرة‭ ‬ندى‭ ‬ليسكن‭ ‬فيها،‭ ‬كمن‭ ‬يتهجى‭ ‬أبجدية‭ ‬الحصى‭. ‬لا‭ ‬يحلل‭ ‬فكرته‭ ‬بمنهجيات‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الصارمة،‭ ‬ولا‭ ‬يؤسس‭ ‬بناء‭ ‬فكرته‭ ‬على‭ ‬الحجة‭ ‬والحجة‭ ‬المضادة‭ ‬واستعمال‭ ‬المصطلحات‭ ‬الفلسفية‭ ‬فى‭ ‬ذلك،‭ ‬بل‭ ‬كمن‭ ‬يجلس‭ ‬فى‭ ‬مقهى‭ ‬ويتحدث‭ ‬مع‭ ‬الطاولات،‭ ‬كمن‭ ‬يمشى‭ ‬فى‭ ‬الشارع‭ ‬وبترك‭ ‬العنان‭ ‬لأفكاره‭ ‬كى‭ ‬تتداعى‭ ‬بصوت‭ ‬عال،‭ ‬وهو‭ ‬هنا‭ ‬يحقق‭ ‬شعرية‭ ‬عالية‭ ‬غابت‭ ‬عن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬زمنه‭. ‬

المغامرة‭ ‬وتعميق‭ ‬السؤال‭ ‬الجمالى‭ ‬

عندما‭ ‬يتفاعل‭ ‬شاعر‭ ‬مع‭ ‬فيلسوف‭ ‬من‭ ‬نوعية‭ ‬سيوران،‭ ‬ذلك‭ ‬التفاعل‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬مجرد‭ ‬القراءة‭ ‬الجادة،‭ ‬بل‭ ‬يتعمق‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ترجمة‭ ‬أعماله،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يذهب‭ ‬دون‭ ‬أثر،‭ ‬وعن‭ ‬هذا‭ ‬الأثر،‭ ‬وسر‭ ‬ذلك‭ ‬التعلق‭ ‬الكبير،‭ ‬وطبيعة‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬والمترجم،‭ ‬يقول‭ ‬عبد‭ ‬الوهاب‭ ‬الملوح‭: ‬

بدأتُ‭ ‬قراءة‭ ‬سيوران‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬طويل،‭ ‬ثم‭ ‬أقبلت‭ ‬على‭ ‬ترجمة‭ ‬أعماله،‭ ‬ولعل‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬أضافته‭ ‬لى‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬هو‭ ‬تعميق‭ ‬السؤال‭ ‬الجمالى‭ ‬أسلوبا‭ ‬ومضمونا،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬أنه‭ ‬لفت‭ ‬انتباهى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الفنون‭ ‬كلها‭ ‬تتكامل،‭ ‬النحت‭ ‬والمسرح،‭ ‬والفن‭ ‬التشكيلى،‭ ‬والموسيقى،‭ ‬وخاصة‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬يعتبرها‭ ‬روح‭ ‬الوجود‭ ‬وهى‭ ‬عبارة‭ ‬نيتشة‭. ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سيوران‭ ‬دربنى‭ ‬على‭ ‬المغامرة‭ ‬بالأسلوب،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬وأقصد‭ ‬هنا‭ ‬الشعر،‭ ‬لا‭ ‬تخضع‭ ‬لضوابط‭ ‬شكلية‭ ‬كالوزن‭ ‬والتقفية‭ ‬والايقاع‭ ‬الجرسى‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هى‭ ‬مداهمة‭ ‬للفراغ‭ ‬لتشكيله،‭ ‬واللهو‭ ‬بالتخيلات‭ ‬فى‭ ‬محاولة‭ ‬لبدء‭ ‬إنتاج‭ ‬معنى‭ ‬ثم‭ ‬تسفه‭ ‬بالسؤال،‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬تعلمته‭ ‬منه‭ ‬هو‭ ‬السؤال‭ ‬وكيفية‭ ‬اغتياله‭ ‬بالجواب‭. ‬

طبعا‭ ‬هناك‭ ‬انسجام‭ ‬تام‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬والمترجم‭ ‬داخلى،‭ ‬وهو‭ ‬يؤدى‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬التكامل‭ ‬الذى‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬المزيد،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬يظل‭ ‬فى‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬موتيفات‭ ‬ومعينات‭ ‬ومؤثرات‭ ‬داخلية‭ ‬وخارجية‭ ‬للارتقاء‭ ‬بتجربته‭ ‬وتنقيتها‭ ‬وإعادة‭ ‬تشكيلها‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مرة،‭ ‬ولعل‭ ‬المثاقفة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الترجمة‭ ‬هى‭ ‬أفضل‭ ‬سبيل‭ ‬لذلك‭ ‬لما‭ ‬تفتحه‭ ‬من‭ ‬آفاق‭ ‬اطلاع‭ ‬على‭ ‬تجارب‭ ‬وثقافات‭ ‬وعادات‭ ‬الشعوب‭ ‬الأخرى‭. ‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة