اللوحات للفنان :عمرالنجدي
اللوحات للفنان :عمرالنجدي


سفر اضطراري

أخبار الأدب

الإثنين، 08 فبراير 2021 - 01:56 م

نصوص‭:‬عمار‭ ‬على‭ ‬حسن‭ ‬ــ أحمد‭ ‬مصطفى‭ ‬سعيد‭ ‬ــ‭ ‬د‭.‬منى‭ ‬حلمى

كتب:عمار علي حسن

مفتتح

ذات‭ ‬صبح‭ ‬مشرق،‭ ‬جاء‭ ‬ضحاه‭ ‬أكثر‭ ‬سخونة‭ ‬مما‭ ‬ظن‭ ‬رجلان،‭ ‬وصبيان،‭ ‬وطفلان،‭ ‬التقوا‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬حقل‭ ‬قاحل‭. ‬كان‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يضربوا‭ ‬بفؤوسهم‭ ‬أرضًا‭ ‬صلدة‭ ‬حتى‭ ‬تلين،‭ ‬وتصير‭ ‬جاهزة‭ ‬لزرع،‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سوى‭ ‬صاحب‭ ‬الأرض،‭ ‬الذي‭ ‬أتى‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬بغلة‭ ‬ورثها‭ ‬عن‭ ‬أبيه،‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬آخر‭ ‬مظاهر‭ ‬أيام‭ ‬العز‭ ‬التي‭ ‬ابتعلتها‭ ‬الجسور‭ ‬العالية‭ ‬الغارقة‭ ‬في‭ ‬التراب‭ ‬والمشي‭ ‬الوئيد‭. ‬لما‭ ‬اقترب‭ ‬منهم‭ ‬نظر‭ ‬إليهم‭ ‬من‭ ‬عل،‭ ‬فانحنوا‭ ‬جميعًا‭ ‬إلا‭ ‬واحداً،‭ ‬كان‭ ‬صبيًا‭ ‬متفوقًا‭ ‬في‭ ‬دراسته،‭ ‬قال‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬مناسبة‭ ‬لكلامه‭:‬

ـ‭ ‬يا‭ ‬رب‭ ‬تب‭ ‬عليَّ‭ ‬من‭ ‬الشغل‭ ‬في‭ ‬غيطان‭ ‬الناس‭.‬

ضحك‭ ‬أكبرهم‭ ‬سنَا،‭ ‬وقال‭:‬

ـ‭ ‬ستبقى‭ ‬أجيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تموت‭.‬

صمت‭ ‬الصبي‭ ‬برهة‭ ‬وقال‭:‬

ـ‭ ‬لن‭ ‬أرضى‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬مثلكم،‭ ‬ثم‭ ‬رمى‭ ‬فأسه،‭ ‬وارتدى‭ ‬جلبابه،‭ ‬ومضى‭.‬

نظروا‭ ‬إليه‭ ‬جميعًا،‭ ‬متقلبين‭ ‬بين‭ ‬شفقة‭ ‬وحسرة‭ ‬وشماتة‭ ‬وغيظ‭ ‬وإعجاب‭ ‬وغيرة‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تستغرق‭ ‬سوى‭ ‬ثوان‭ ‬معدودات،‭ ‬رأى‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬ما‭ ‬سيجري‭ ‬له،‭ ‬وكأنه‭ ‬ولي‭ ‬انكشف‭ ‬له‭ ‬الغيب،‭ ‬فعرف‭ ‬مصيره‭.‬

أنا‭ ‬الراوي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬معهم‭ ‬وقتها،‭ ‬لكنهم‭ ‬أخبروني‭ ‬بما‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة،‭ ‬فتتبعت‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬لهم،‭ ‬وآن‭ ‬الأوان‭ ‬أن‭ ‬أقوله‭ ‬للناس،‭ ‬متتبعًا‭ ‬حكاية‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬حدة،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬يجمع‭ ‬بينهم‭ ‬شيء‭ ‬سوى‭ ‬القرية‭ ‬والحقل‭ ‬والفأس‭ ‬وانتظار‭ ‬المصير‭.‬

***

1‭ ‬ـ‭ ‬الطفل‭ ‬الأول‭ ‬يسافر‭ ‬بلا‭ ‬موعد

سمعت‭ ‬صرخة‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬الليل‭ ‬فجريت‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬الأوسط‭ ‬في‭ ‬قريتنا‭ ‬الصغيرة‭. ‬كان‭ ‬شتاء‭ ‬مظلمًا،‭ ‬وكانت‭ ‬لهفة‭ ‬وحيرة‭ ‬وخوف،‭ ‬ووجوه‭ ‬الناس‭ ‬كانت‭ ‬مبهمة‭ ‬لي،‭ ‬لكن‭ ‬صراخهم‭ ‬كان‭ ‬يملأ‭ ‬أذنيَّ،‭ ‬وأنا‭ ‬أجري‭ ‬بينهم،‭ ‬غير‭ ‬عابئ‭ ‬بهمهماتهم،‭ ‬فأنا‭ ‬أعرف‭ ‬جيدًا‭ ‬من‭ ‬يقولون‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬غرق،‭ ‬فطيلة‭ ‬النهار‭ ‬كنا‭ ‬سويًا‭ ‬نلعب‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬قريتنا‭ ‬المتربة‭ ‬جائعين،‭ ‬وكان‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬معنا‭ ‬بطونهم‭ ‬خاوية،‭ ‬فالبيوت‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬شيء‭ ‬سوى‭ ‬دعاء‭ ‬الأمهات‭ ‬ورجائهن‭.‬

اقتربت‭ ‬من‭ ‬الشارع‭ ‬الأخير،‭ ‬المطل‭ ‬على‭ ‬الحقول،‭ ‬ولا‭ ‬تفصله‭ ‬عن‭ ‬الزرع‭ ‬سوى‭ ‬ترعة‭ ‬ليست‭ ‬عريضة،‭ ‬ولا‭ ‬عميقة،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الشتاء،‭ ‬كافية‭ ‬لإخافة‭ ‬أهلنا،‭ ‬فالليل‭ ‬طويل،‭ ‬وهم‭ ‬ينامون‭ ‬مبكرًا،‭ ‬وكل‭ ‬منهم‭ ‬يقول‭ ‬لأبنائه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يغط‭ ‬في‭ ‬نوم‭ ‬عميق‭:‬

ـ‭ ‬ابعد‭ ‬عن‭ ‬الترعة‭.‬

الليلة‭ ‬غرق‭ ‬محمود‭ ‬إسماعيل‭ ‬جويد،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الحقل،‭ ‬ليس‭ ‬ضاربُاً‭ ‬فأسه،‭ ‬إنما‭ ‬جامع‭ ‬نجيل‭ ‬وراء‭ ‬الفؤوس‭ ‬التي‭ ‬تقلب‭ ‬الأرض،‭ ‬فالنجيل‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يُجمع،‭ ‬ويلقي‭ ‬إلى‭ ‬البهائم‭ ‬لتلتهمه،‭ ‬تنبت‭ ‬جذوره‭ ‬وتأكل‭ ‬الزرع‭. ‬كان‭ ‬بارعًا‭ ‬في‭ ‬هذا،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬أصحاب‭ ‬الأرض‭ ‬كان‭ ‬يطلبونه‭ ‬بالاسم،‭ ‬وأجره‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أقرانه‭. ‬فأصابعه‭ ‬الصغيرة‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مخالب‭ ‬تنبش‭ ‬تحت‭ ‬جذور‭ ‬النبات‭ ‬العفي،‭ ‬وتخلصه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الحشائش‭ ‬التي‭ ‬تضره،‭ ‬وتفيد‭ ‬بهائمنا‭.‬

كنت‭ ‬أراه‭ ‬مخلصًا‭ ‬لبؤسه،‭ ‬وجهه‭ ‬ضامر،‭ ‬وثيابه‭ ‬مرقوعة،‭ ‬تمزقت‭ ‬حتى‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بالإمكان‭ ‬رتقها،‭ ‬وابتسامة‭ ‬منقوعة‭ ‬في‭ ‬الرضا‭ ‬والأسى‭ ‬تعلوه‭ ‬محياه‭ ‬دومًا‭. ‬أحببت‭ ‬هذا‭ ‬فيه،‭ ‬فثيابي‭ ‬كانت‭ ‬أقل‭ ‬رقعًا،‭ ‬وبطني‭ ‬كان‭ ‬أقل‭ ‬خواء،‭ ‬لكنني‭ ‬كنت‭ ‬مثله‭ ‬أندهش‭ ‬حيال‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬حولنا‭, ‬حتى‭ ‬إنني‭ ‬قلت‭ ‬له‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭:‬

ـ‭ ‬أنت‭ ‬تكره‭ ‬اللعب‭ ‬يا‭ ‬محمود‭.‬

صمت‭ ‬برهة،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭:‬

ـ‭ ‬أحب‭ ‬اللعب‭ ‬لكن‭ ‬أخاف‭.‬

وسألته‭:‬

ـ‭ ‬من‭ ‬يخيفك؟

صمت‭ ‬برهة،‭ ‬وقال‭:‬

ـ‭ ‬الجوع‭ ‬والأذى‭.‬

عرفت‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬غرقه‭ ‬أنه‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬تحذير‭ ‬أبيه‭ ‬المستمر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يتشاجر‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬أقرانه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلدة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬فيها‭ ‬أحد‭ ‬هو‭ ‬أفقر‭ ‬من‭ ‬أهله،‭ ‬وأنه‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكدح‭ ‬كغيره‭ ‬من‭ ‬أخوته‭ ‬سيجوعون‭ ‬جميعًا‭.‬

ـ‭ ‬حالتنا‭ ‬أغلب‭ ‬من‭ ‬الغُلب‭.‬

هكذا‭ ‬كان‭ ‬يوصيه‭ ‬أباه،‭ ‬ويشير‭ ‬بيده‭ ‬إلى‭ ‬الحصير‭ ‬الرخيص،‭ ‬والأواني‭ ‬الصدئة‭ ‬الفارغة،‭ ‬والملابس‭ ‬المرقوعة‭ ‬النائمة‭ ‬في‭ ‬بطن‭ ‬السحارة،‭ ‬ويقول‭:‬

ـ‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬شغل‭ ‬نموت‭ ‬من‭ ‬الجوع‭.‬

ثرثر‭ ‬بهذا‭ ‬المحتشدون‭ ‬أمام‭ ‬الماء‭ ‬الفائض‭ ‬الساري،‭ ‬والليل‭ ‬الأخرس،‭ ‬الذي‭ ‬يلوثه‭ ‬نقيق‭ ‬الضفادع،‭ ‬وصراخ‭ ‬النسوة‭ ‬اللاتي‭ ‬يقفن‭ ‬على‭ ‬رؤوس‭ ‬الرجال،‭ ‬منتظرين‭ ‬إياهم‭ ‬أن‭ ‬ينتشلوا‭ ‬جثة‭ ‬محمود‭.‬

واقفًا‭ ‬بينهم‭ ‬كنت،‭ ‬أراه‭ ‬يقترب‭ ‬مني‭ ‬بعينين‭ ‬منكسرتين،‭ ‬وشفتين‭ ‬مقددتين‭ ‬من‭ ‬الأسى،‭ ‬ويد‭ ‬ممدودة‭ ‬إلى‭ ‬الفراغ‭. ‬أقترب‭ ‬وأمد‭ ‬يدي‭ ‬إليها،‭ ‬ليموت‭ ‬هذا‭ ‬الفراغ‭ ‬بيننا،‭ ‬لكنه‭ ‬يتركني،‭ ‬ويغوص‭ ‬في‭ ‬ماء‭ ‬غزير،‭ ‬يطاردني،‭ ‬فأهرب‭ ‬منه،‭ ‬تاركه‭ ‬وحده‭ ‬يستسلم‭ ‬للموج‭ ‬الهادر،‭ ‬والأنفاس‭ ‬المقطوعة،‭ ‬والذاكرة‭ ‬المملوءة‭ ‬بالأسى،‭ ‬وهي‭ ‬تغرب‭ ‬عنه،‭ ‬لتعطيه‭ ‬للبراح،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعرفه،‭ ‬ولم‭ ‬يحلم‭ ‬به،‭ ‬ولم‭ ‬يسمع‭ ‬عنه‭ ‬بين‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يدركون‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬مهامهم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬هي‭ ‬تحصيل‭ ‬القوت‭ ‬كي‭ ‬يستمروا‭ ‬مخلصين‭ ‬لها،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعرفوا‭ ‬أساسًا‭ ‬ما‭ ‬هي؟‭ ‬أو‭ ‬يتوهموا‭ ‬أن‭ ‬الطعام‭ ‬الرخيص‭ ‬الذي‭ ‬يملأون‭ ‬به‭ ‬بطونهم‭ ‬هو‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

هكذا‭ ‬كنت‭ ‬أرى‭ ‬محمود‭ ‬وهو‭ ‬يقبض‭ ‬على‭ ‬القروش‭ ‬القليلة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬النهار،‭ ‬لأنه‭ ‬صارع‭ ‬النجيل‭ ‬المتوحش،‭ ‬كسرطان‭ ‬فتاك،‭ ‬حتى‭ ‬تولد‭ ‬فرصة‭ ‬جديدة‭ ‬لنبات‭ ‬القمح‭ ‬أو‭ ‬الفول‭ ‬أو‭ ‬الذرة‭ ‬أو‭ ‬البطاطس‭ ‬ليبقى‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭.‬

الليلة‭ ‬أراه‭ ‬يصارع‭ ‬دوامات‭ ‬الماء،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أراه،‭ ‬لكنني‭ ‬أتخيله،‭ ‬وفي‭ ‬الخيال‭ ‬رؤية‭. ‬تطمره‭ ‬المياه،‭ ‬وأنا‭ ‬عاجز‭ ‬أن‭ ‬أفعل‭ ‬له‭ ‬شيئًا،‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬أدل‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬جثته‭.‬

اقتربت‭ ‬منهم،‭ ‬وهم‭ ‬يغوصون‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬حتى‭ ‬الوحل،‭ ‬وقلت‭:‬

ـ‭ ‬لا‭ ‬تبحثوا‭ ‬هنا،‭ ‬إنه‭ ‬غاوي‭ ‬السفر‭.‬

كان‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬ونحن‭ ‬نضرب‭ ‬أيدينا‭ ‬تحت‭ ‬النباتات‭ ‬الرخيصة،‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬النجيل‭ ‬المتوحش‭:‬

ـ‭ ‬عاوز‭ ‬أسافر‭.‬

كنت‭ ‬أضحك،‭ ‬وأقول‭ ‬له‭:‬

ـ‭ ‬أبوك‭ ‬لو‭ ‬راح‭ ‬بندر‭ ‬المنيا‭ ‬يحلف‭ ‬بغربته‭.‬

لكنه‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬إليَّ‭ ‬،‭ ‬ويتوه‭ ‬فيما‭ ‬لا‭ ‬أراه،‭ ‬ويقول‭:‬

ـ‭ ‬سأسافر‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬خيالك‭.‬

الليلة،‭ ‬والقرية‭ ‬كلها‭ ‬ملتاعة،‭ ‬والصراخ‭ ‬يخمد،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صعد‭ ‬إلى‭ ‬السماوات‭ ‬السبع،‭ ‬بعد‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬جثة‭ ‬محمود،‭ ‬أدركت‭ ‬أنه‭ ‬سافر،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬لي‭ ‬على‭ ‬أول‭ ‬الحقل،‭ ‬بينما‭ ‬الرجال‭ ‬يخلعون‭ ‬جلابيبهم،‭ ‬ويلقونها‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬السرائب‭ ‬الممتدة‭ ‬وعلى‭ ‬ضفتيها‭ ‬يقف‭ ‬القطن‭ ‬طارحًا‭ ‬لوزه‭ ‬الأخضر،‭ ‬الذي‭ ‬سيصير‭ ‬أبيض‭ ‬بعد‭ ‬أيام،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سوى‭ ‬وعد‭ ‬بالسفر‭.‬

***

2‭ ‬ـ‭ ‬الصبي‭ ‬الأول يسافر‭ ‬داخل‭ ‬جسده

لم‭ ‬يغادر‭ ‬قريتنا‭ ‬أبدًا،‭ ‬إلا‭ ‬للمثول‭ ‬أمام‭ ‬طبيب‭ ‬في‭ ‬البندر،‭ ‬زاره‭ ‬مرات،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬كان‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬جسده‭ ‬ينقص،‭ ‬يسافر‭ ‬داخل‭ ‬نفسه،‭ ‬وكان‭ ‬الطبيب‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬تآكله‭ ‬سيتواصل،‭ ‬حتى‭ ‬يحل‭ ‬السفر‭ ‬الأخير‭.‬

كان‭ ‬الجميع‭ ‬يشهدون‭ ‬ببراعته‭ ‬في‭ ‬ضرب‭ ‬الفأس،‭ ‬إذ‭ ‬يرفع‭ ‬جانبًا‭ ‬منها،‭ ‬وينخص‭ ‬بالآخر‭ ‬جذور‭ ‬النجيل‭ ‬النابت‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الزرع،‭ ‬فيقلعه‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬يمنعه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الرجال،‭ ‬الذين‭ ‬يتسابقون‭ ‬أحيانًا،‭ ‬مدفوعين‭ ‬بتحفيز‭ ‬صاحب‭ ‬الحقل،‭ ‬حتى‭ ‬ينجزوا‭ ‬الكثير،‭ ‬بأقل‭ ‬أجر‭ ‬ممكن‭.‬

كنت‭ ‬أتردد‭ ‬عليه‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر،‭ ‬كلما‭ ‬وجدت‭ ‬باب‭ ‬بيتهم‭ ‬مواربًا،‭ ‬أو‭ ‬دعاني‭ ‬أباه‭ ‬لقراءة‭ ‬نشرات‭ ‬الأدوية،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لها‭ ‬أي‭ ‬فائدة،‭ ‬سوى‭ ‬منح‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬أملًا‭ ‬كاذبًا،‭ ‬كانوا‭ ‬يدفعون‭ ‬من‭ ‬أجله‭ ‬جزءًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬قوتهم‭.‬

أقترب‭ ‬منه‭ ‬محتارًا‭ ‬في‭ ‬أمره،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬يجري‭ ‬له‭ ‬لم‭ ‬يمر‭ ‬به‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬في‭ ‬قريتنا‭. ‬لكن‭ ‬أبي‭ ‬قال‭ ‬لي‭:‬

ـ‭ ‬سمعت‭ ‬أن‭ ‬شابًا‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬بعيدة‭ ‬راح‭ ‬يصغر،‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬رأسًا‭ ‬له‭ ‬أطراف،‭ ‬ثم‭ ‬مات‭.‬

قلت‭ ‬له‭ ‬يومها‭:‬

ـ‭ ‬سافر‭ ‬في‭ ‬نفسه‭.‬

صمت‭ ‬برهة‭ ‬وقال‭:‬

ـ‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬يلاقوه‭ ‬نقص،‭ ‬حتى‭ ‬اختفى‭.‬

كان‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬للصبي،‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أزوره‭. ‬تضمر‭ ‬أطرافه،‭ ‬حتى‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬منه‭ ‬سوى‭ ‬جذع،‭ ‬راح‭ ‬يضمر‭ ‬هو‭ ‬الآخر،‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬رأسه‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬جسمه،‭ ‬لا‭ ‬سيقان‭ ‬ولا‭ ‬أذرع،‭ ‬إنما‭ ‬فم‭ ‬يتحدث،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬ولى،‭ ‬حين‭ ‬يجلس‭ ‬الفلاحون‭ ‬تحت‭ ‬شجرة‭ ‬الصفصاف،‭ ‬وينصتون‭ ‬إلى‭ ‬كلامه‭ ‬العذب‭.‬

أحد‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬يكدحون‭ ‬معه،‭ ‬رآه‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬فعاد‭ ‬إلينا‭ ‬باكيًا،‭ ‬وقال‭:‬

ـ‭ ‬كان‭ ‬زرعًا‭ ‬عفيًا،‭ ‬لكن‭ ‬الأيام‭ ‬تأكله‭.‬

لم‭ ‬نفهم‭ ‬وقتها‭ ‬ما‭ ‬سمعناه،‭ ‬لكنه‭ ‬نظر‭ ‬إلينا‭ ‬وقال‭:‬

ـ‭ ‬من‭ ‬يضرب‭ ‬الأرض‭ ‬تضربه‭.‬

سخرنا‭ ‬منه،‭ ‬فقد‭ ‬رأينا‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬السنين‭ ‬الفائتة‭ ‬كثيرين‭ ‬ممن‭ ‬ضربوا‭ ‬الأرض‭ ‬فأعطتهم،‭  ‬لكنه‭ ‬قال‭ ‬لنا‭:‬

ـ‭ ‬تعطي‭ ‬الأرض‭ ‬ألف‭ ‬ألف،‭ ‬وتأكل‭ ‬واحدًا‭.‬

أدركنا‭ ‬وقتها‭ ‬أن‭ ‬الفتى‭ ‬سيكون‭ ‬قربانًا‭ ‬للأرض‭. ‬ورأيناه‭ ‬ينقص‭ ‬بينما‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬ضربه‭ ‬بفأسه‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬يتسع‭. ‬

وحين‭ ‬حملناه‭ ‬إلى‭ ‬مثواه‭ ‬الأخير،‭ ‬رأينا‭ ‬الأرض‭ ‬تتسع‭ ‬أمام‭ ‬أعيننا،‭ ‬وتمتد‭ ‬أمامنا،‭ ‬آخذة‭ ‬معها‭ ‬الجسور،‭ ‬حتى‭ ‬ظننا‭ ‬أننا‭ ‬سنمضي‭ ‬بنعشه‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭.‬

‭>>>‬

3‭ ‬ـ‭ ‬الرجل‭ ‬الأول‭ ‬يسافر‭ ‬بعلم‭ ‬الوصول

لم‭ ‬يكن‭ ‬بارعًا‭ ‬في‭ ‬ضرب‭ ‬الفأس،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يحلم‭ ‬بالسفر‭. ‬قال‭ ‬له‭ ‬الذين‭ ‬ينحنون‭ ‬معه،‭ ‬حتى‭ ‬تستوي‭ ‬ظهورهم‭:‬

ـ‭ ‬اِرْضَ‭ ‬بنصيبك‭.‬

لكنه‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬إليهم‭ ‬هازئًا،‭ ‬ويقول‭:‬

ـ‭ ‬أرض‭ ‬غير‭ ‬أرضكم‭ ‬تناديني‭.‬

ونادته‭ ‬الأرض‭ ‬الصفراء‭ ‬التي‭ ‬اخضرت‭. ‬يومها‭ ‬جاءت‭ ‬إليه‭ ‬زوجته،‭ ‬متهللة‭ ‬بين‭ ‬الحقول،‭ ‬وقالت‭ ‬له‭:‬

ـ‭ ‬جاء‭ ‬الفرج‭.‬

رمى‭ ‬الفأس‭ ‬في‭ ‬وجوهنا،‭ ‬وقال‭:‬

ـ‭ ‬لكم‭ ‬الطين‭ ‬ولي‭ ‬السماء‭.‬

ودعته‭ ‬عيوننا‭ ‬الحاسدة،‭ ‬ونحن‭ ‬نتهامس‭:‬

ـ‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬سيصبح‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الطين،‭ ‬ونشتغل‭ ‬نحن‭ ‬عنده‭.‬

عشرة‭ ‬أيام‭ ‬قضاها‭ ‬في‭ ‬تجهيز‭ ‬نفسه‭. ‬ذهب‭ ‬معه‭ ‬ابن‭ ‬عمي‭ ‬إلى‭ ‬الترزي‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬مجاورة،‭ ‬كي‭ ‬يُفصِّل‭ ‬له‭ ‬سروايل‭ ‬تصلح‭ ‬للمَزارع‭ ‬التي‭ ‬تجرح‭ ‬الرمل،‭ ‬وأيام‭ ‬أخرى‭ ‬قضاها‭ ‬في‭ ‬تجهيز‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬سيأخذه‭ ‬إلى‭ ‬الذين‭ ‬سبقوه‭ ‬إلى‭ ‬هناك،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬كلمات‭ ‬سجلها‭ ‬لهم‭ ‬أهلهم،‭ ‬وجمعوا‭ ‬في‭ ‬يديه‭ ‬الأشرطة،‭ ‬ولما‭ ‬سأل‭ ‬عن‭ ‬المال،‭ ‬قيل‭ ‬له‭:‬

ـ‭ ‬لا‭ ‬تقلق،‭ ‬فمن‭ ‬هناك‭ ‬سيتكفلون‭ ‬بك‭.‬

ورأيته‭ ‬ذات‭ ‬صباح،‭ ‬يكاد‭ ‬يتراقص‭ ‬في‭ ‬جلبابه‭ ‬الجديد،‭ ‬في‭ ‬يده‭ ‬حقيقة‭ ‬كبرى‭ ‬قديمة،‭ ‬جوانبها‭ ‬يمرق‭ ‬فيها‭ ‬خيط‭ ‬من‭ ‬دوبارة،‭ ‬وفمها‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يفضح‭ ‬ما‭ ‬فيها،‭ ‬لولا‭ ‬خيط‭ ‬دوبارة‭ ‬أخرى،‭ ‬يضمه‭ ‬إلى‭ ‬بعضه،‭ ‬ساترًا‭ ‬كل‭ ‬رخيص‭.‬

وقف‭ ‬على‭ ‬القنطرة‭ ‬المشرفة‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬ترابي‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬أول‭ ‬شارع‭ ‬في‭ ‬بلدتنا،‭ ‬ينظر‭ ‬إلي‭ ‬الناس‭ ‬بما‭ ‬لم‭ ‬يعهدوه‭ ‬منه‭ ‬قبلها،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬أحدهم‭ ‬همس‭ ‬في‭ ‬أذن‭ ‬آخر‭:‬

ـ‭ ‬نسي‭ ‬نفسه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يجدها‭.‬

في‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬المطار،‭ ‬نظر‭ ‬من‭ ‬نافذة‭ ‬عربة‭ ‬ربع‭ ‬نقل‭ ‬تقله،‭ ‬هو‭ ‬مع‭ ‬سائقها‭ ‬في‭ ‬الأمام،‭ ‬وحقيبته‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬الخلف،‭ ‬بها‭ ‬ملابسه‭ ‬الداخلية‭ ‬وجلابيب،‭ ‬وأشرطة‭ ‬تسجيل‭ ‬بصوت‭ ‬النسوة‭ ‬إلى‭ ‬أزواجهن‭ ‬الذين‭ ‬يلقون‭ ‬بأنفسهم‭ ‬إلى‭ ‬تصاريف‭ ‬الغربة،‭ ‬ويمدون‭ ‬أيديهم‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬جيوبهم‭ ‬من‭ ‬دراهم‭.‬

هناك،‭ ‬وجد‭ ‬مزرعة‭ ‬مقطوعة‭ ‬من‭ ‬صحراء‭ ‬ممتدة،‭ ‬وسماء‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬سحب،‭ ‬وأناس‭ ‬تنحني‭ ‬ظهورهم‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬في‭ ‬صمت،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬يضحك،‭ ‬أو‭ ‬يقف،‭ ‬ولو‭ ‬دقيقة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬ليحكي‭ ‬شيئًا‭ ‬مما‭ ‬يجري‭ ‬عما‭ ‬حوله،‭ ‬فليس‭ ‬حوله‭ ‬شيء‭ ‬يذكر‭.‬

غربة‭ ‬في‭ ‬غربة،‭ ‬وتيه‭ ‬ولوع‭ ‬وانتظار،‭ ‬وما‭ ‬يأتيه‭ ‬من‭ ‬أجر‭ ‬يرسل‭ ‬أغلبه‭ ‬إلى‭ ‬أهله،‭ ‬والبقية‭ ‬له‭ ‬ليعيش‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬الحياة‭.‬

في‭ ‬الليل‭ ‬ينصرف‭ ‬عنه‭ ‬كل‭ ‬أحد،‭ ‬وكل‭ ‬شيء،‭ ‬ويغلبه‭ ‬السهاد،‭ ‬فيأتي‭ ‬إليه‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الحقل،‭ ‬هنا‭ ‬لنا‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬غربة،‭ ‬وهناك‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬تضنيه‭ ‬فيها‭ ‬غربته‭. ‬وحده‭ ‬يرانا،‭ ‬واقفين‭ ‬إلى‭ ‬جواره‭ ‬على‭ ‬أول‭ ‬الحقل،‭ ‬وشمس‭ ‬الصبح‭ ‬تحط‭ ‬على‭ ‬رؤوسنا‭ ‬وفؤوسنا،‭ ‬وعروقنا‭ ‬التي‭ ‬تستعد‭ ‬لدم‭ ‬سيتدفق‭ ‬فيها‭ ‬حين‭ ‬يحتدم‭ ‬الكد،‭ ‬وتنظر‭ ‬العيون‭ ‬إلى‭ ‬عين‭ ‬السماء‭ ‬باحثة‭ ‬عن‭ ‬شمس‭ ‬الظهيرة،‭ ‬كي‭ ‬تأتي‭ ‬فترفع‭ ‬الفؤوس،‭ ‬ويجف‭ ‬العرق‭.‬

في‭ ‬الليلة‭ ‬الأخيرة‭ ‬له،‭ ‬دون‭ ‬سابق‭ ‬إنذار،‭ ‬أغمض‭ ‬عينيه‭ ‬علينا،‭ ‬ولم‭ ‬يفتحهما‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭.‬

الذين‭ ‬حملوا‭ ‬جثمانه‭ ‬إلى‭ ‬صندوق‭ ‬أتى‭ ‬إلينا‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬قالوا‭:‬

ـ‭ ‬سحبت‭ ‬روحه‭ ‬الفاتنة‭.‬

لم‭ ‬نحك‭ ‬لزوجته،‭ ‬التي‭ ‬لبست‭ ‬سروال‭ ‬الرجال‭ ‬ولاتزال‭ ‬تكدح‭ ‬في‭ ‬أرضه‭ ‬الضيقة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬صغارها،‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬الليلة‭ ‬الأخيرة‭ ‬فتح‭ ‬باب‭ ‬حجرته‭ ‬البسيطة‭ ‬الواقفة‭ ‬عند‭ ‬ذيل‭ ‬المزرعة،‭ ‬لامرأة‭ ‬فاتنة‭ ‬من‭ ‬بائعات‭ ‬الهوى‭ ‬اللائي‭ ‬يسعين‭ ‬بين‭ ‬رجال‭ ‬المزارع‭ ‬المشتاقين‭ ‬للنساء‭. ‬باعت‭ ‬له‭ ‬حبوب‭ ‬تلهب‭ ‬رغبته‭ ‬وجسدها‭. ‬بلع‭ ‬الحبوب‭ ‬وترك‭ ‬جسدها‭ ‬باردًا،‭ ‬فتركته‭ ‬على‭ ‬حاله‭ ‬ومضت‭.‬

***

4‭ ‬ـ‭ ‬الطفل‭ ‬الثاني‭ ‬يسافر‭ ‬بعلم‭ ‬أهله

لا‭ ‬يتوحش‭ ‬الفقر‭ ‬في‭ ‬قريتنا‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الصيف،‭ ‬فلا‭ ‬يجد‭ ‬أحد‭ ‬أرضًا‭ ‬تناديه،‭ ‬ليكدح‭ ‬فيها،‭ ‬إنما‭ ‬تناديه‭ ‬البلاد‭ ‬البعيدة،‭ ‬فيذهب‭ ‬إليها،‭ ‬معتقدًا‭ ‬أنها‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تأكله‭ ‬شوارعها‭ ‬القاسية،‭ ‬فيهرب‭ ‬منها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬جسده‭ ‬وروحه،‭ ‬لكن‭ ‬الطفل‭ ‬الثاني،‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬الهرب‭.‬

في‭ ‬منتصف‭ ‬يوليو،‭ ‬قال‭ ‬للجالسين‭ ‬عند‭ ‬الجميزة‭ ‬العتيقة‭:‬

ـ‭ ‬سأسافر‭ ‬إلى‭ ‬بورسعيد‭.‬

تطلعوا‭ ‬إليه‭ ‬واجمين،‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬يعرفون‭ ‬أن‭ ‬المدينة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تعطي‭ ‬أرزاقًا‭ ‬للعابرين‭ ‬مثلما‭ ‬فعلت‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬عزها‭ ‬الأولى‭. ‬لكنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يؤمنون‭ ‬بأن‭ ‬كلًا‭ ‬منا‭ ‬ذاهب‭ ‬وراء‭ ‬رزقه،‭ ‬لهذا‭ ‬صمتوا،‭ ‬كما‭ ‬صمت‭ ‬أهله،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يعرفون‭ ‬أن‭ ‬عيالًا‭ ‬كُثر‭ ‬قد‭ ‬ذهبوا‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭ ‬وعادوا‭ ‬بنقود‭ ‬وهدايا‭.  ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬طالهم‭ ‬وعيًا‭ ‬بأن‭ ‬الزمن‭ ‬هناك‭ ‬قد‭ ‬تغير،‭ ‬وأن‭ ‬ألوان‭ ‬المدينة‭ ‬الزاهية‭ ‬قد‭ ‬بهتت،‭ ‬وأن‭ ‬شوارعها‭ ‬الحانية‭ ‬قد‭ ‬صارت‭ ‬مقبضة‭.‬

كان‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬تمامًا،‭ ‬طفل‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬القوانين،‭ ‬رجل‭ ‬عند‭ ‬أهله،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يرون‭ ‬الشعر‭ ‬النابت‭ ‬فوق‭ ‬شفتيه،‭ ‬ويسمعون‭ ‬صوته‭ ‬الخشن،‭ ‬ويقولون‭:‬

ـ‭ ‬صار‭ ‬رجلنا‭.‬

كنا‭ ‬نعذرهم‭ ‬فالأب‭ ‬تركه‭ ‬في‭ ‬بطن‭ ‬أمه،‭ ‬تسبقه‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬ثلاث‭ ‬بنات،‭ ‬لكننا‭ ‬احترنا‭ ‬في‭ ‬أمرهم،‭ ‬وقت‭ ‬أن‭ ‬قرر‭ ‬السفر،‭ ‬وتحاورنا‭ ‬حين‭ ‬حل‭ ‬المساء،‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬مشاعرهم‭ ‬حيال‭ ‬رجلهم‭ ‬الصغير‭ ‬الوحيد‭. ‬أحدنا‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬الكثير‭ ‬عن‭ ‬بطونهم‭ ‬الخاوية،‭ ‬وملابسهم‭ ‬المرقوعة،‭ ‬فقال‭: ‬

ـ‭ ‬ليس‭ ‬أمامهم‭ ‬خيار‭ ‬آخر‭.‬

انتظروه‭ ‬عند‭ ‬آخر‭ ‬الصيف،‭ ‬لكن‭ ‬الخريف‭ ‬انتهى،‭ ‬وخلفه‭ ‬شتاء،‭ ‬لم‭ ‬يشعروا‭ ‬ببرودته،‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬الشوق‭ ‬الحار‭ ‬إليه،‭ ‬وصار‭ ‬القلق‭ ‬العارم‭ ‬في‭ ‬الربيع،‭ ‬فذهبوا‭ ‬إلى‭ ‬قريب‭ ‬له،‭ ‬يبثون‭ ‬إليه‭ ‬مخاوفهم‭. ‬طمأنهم‭ ‬مرة‭ ‬ومرة،‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬بدًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يشد‭ ‬الرحال‭ ‬خلفه‭.‬

طاف‭ ‬على‭ ‬اللوكاندات‭ ‬الرخيصة،‭ ‬وكل‭ ‬مكان‭ ‬يمكن‭ ‬لمثله‭ ‬أن‭ ‬يحل‭ ‬فيه،‭ ‬السوق،‭ ‬والميناء،‭ ‬والبنايات‭ ‬تحت‭ ‬الإنشاء،‭ ‬والمقاهي،‭ ‬ثم‭ ‬أبلغ‭ ‬أقسام‭ ‬الشرطة،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يغادره‭ ‬الأمل،‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬صبي‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المقاهي‭ ‬المعزولة‭:‬

ـ‭ ‬كان‭ ‬هنا،‭ ‬ومشى‭.‬

ـ‭ ‬مشى؟‭!‬

ـ‭ ‬راح‭ ‬امرسى‭ ‬مطروحب،‭ ‬هناك‭ ‬الرزق‭ ‬أوسع‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬أمامه‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬سوى‭ ‬السعي‭ ‬خلفه،‭ ‬ليمضي‭ ‬في‭ ‬الدائرة‭ ‬نفسها،‭ ‬بلا‭ ‬جدوى‭. ‬لكنه‭ ‬عرف‭ ‬هناك‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬والصبية‭ ‬والرجال‭ ‬يعبرون‭ ‬الحدود‭ ‬إلى‭ ‬اليبياب‭.‬

ـ‭ ‬هل‭ ‬عبر‭ ‬إلى‭ ‬الصحراء؟‭ ‬

عاد‭ ‬إلى‭ ‬قريتنا‭ ‬طارحًا‭ ‬السؤال،‭ ‬وتناثرت‭ ‬الإجابات‭ ‬من‭ ‬الأفواه‭ ‬كرذاذ‭ ‬المطر‭ ‬في‭ ‬عاصفة‭ ‬هوجاء‭. ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يقال‭ ‬لا‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يطير،‭ ‬ليموت‭ ‬فوق‭ ‬التراب‭ ‬الناعم،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬هامات‭ ‬الشجر‭ ‬العالي‭.  ‬

توالت‭ ‬الإجابات‭ ‬المبتورة،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سوى‭ ‬تخمينات‭ ‬وتكهنات‭ ‬وأقاويل،‭ ‬لاكها‭ ‬الناس‭ ‬شهورًا،‭ ‬ثم‭ ‬خمدت‭. ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬يسأل‭ ‬أين‭ ‬راح؟

وإذا‭ ‬جاء‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬سيرته‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬السنين،‭ ‬يتوزعون‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬على‭ ‬هواجسهم‭ ‬المعتادة‭: ‬ااغتنى‭ ‬هناك‭ ‬وتزوج‭ ‬ونسي‭ ‬أهلهب،‭ ‬لا‭.. ‬لا‭ ‬اركب‭ ‬البحر‭ ‬إلى‭ ‬أوروباب،‭ ‬لا‭ .. ‬لا‭ ‬اأكلته‭ ‬السباع‭ ‬في‭ ‬الصحراءب،‭ ‬لا‭ .. ‬لا‭ ‬اارتكب‭ ‬جريمة‭ ‬ودخل‭ ‬السجنب،‭ ‬لا‭ ... ‬لا‭ ‬اقُتل‭ ‬ودفن‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬غريبةب‭.‬

وحده‭ ‬الرجل‭ ‬الأول،‭ ‬الذي‭ ‬كانوا‭ ‬ينقلون‭ ‬عنه‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬غربته‭ ‬قوله‭ ‬الدائم‭:‬

ـ‭ ‬يعيش،‭ ‬وسيعود‭ ‬يومًا‭ ‬والشيب‭ ‬يملأ‭ ‬رأسه‭.‬

***

5‭ ‬ـ‭ ‬الصبي‭ ‬الثاني يسافر‭ ‬فوق‭ ‬ظهر‭ ‬حمار‭ ‬الليل

لم‭ ‬يكن‭ ‬أمام‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬سوى‭ ‬تصديق‭ ‬ما‭ ‬رواه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭. ‬سبح‭ ‬بعينيه‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬البعيد،‭ ‬وعاد‭ ‬ليقول‭ ‬لهم‭ ‬بلسان‭ ‬مرتعش‭:‬

ـ‭ ‬ركب‭ ‬حمار‭ ‬الليل‭ ‬وسافر‭.‬

كانوا‭ ‬قد‭ ‬سمعوا‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬في‭ ‬حكايات‭ ‬الليلة‭ ‬على‭ ‬المصاطب‭ ‬التي‭ ‬تتلاصق‭ ‬فوقها‭ ‬الأجساد،‭ ‬وتمتد‭ ‬الآذان‭ ‬إلى‭ ‬الأفواه‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬الثرثرة‭. ‬لهذا‭ ‬لم‭ ‬يتعجبوا‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬عن‭ ‬الحمار‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬الصبي‭ ‬وسافر‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭.‬

استدعوا‭ ‬حكايات‭ ‬توارثوها‭ ‬عن‭ ‬الأجداد‭ ‬حول‭ ‬حمار‭ ‬غير‭ ‬الحمير‭ ‬الذي‭ ‬يركبونها‭ ‬إلى‭ ‬الحقول،‭ ‬وتسير‭ ‬خلفهم‭ ‬بهائمهم‭. ‬إنه‭ ‬ذلك‭ ‬الحمار‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬البهيم،‭ ‬يتراقص‭ ‬فوق‭ ‬الجسور‭ ‬العالية،‭ ‬ويرخي‭ ‬ظهره‭ ‬مغريًا‭ ‬السائر‭ ‬والساري‭ ‬الذي‭ ‬اختاره‭ ‬كي‭ ‬يركبه،‭ ‬ثم‭ ‬يطير‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الجان‭.‬

يقول‭ ‬الناس‭ ‬فوق‭ ‬المصاطب‭ ‬أن‭ ‬الحل‭ ‬الوحيد‭ ‬لتفادي‭ ‬الرحيل‭ ‬بعيدًا‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬غير‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭ ‬الإنس،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يحسن‭ ‬الراكب‭ ‬اختيار‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬يغرس‭ ‬فيه‭ ‬سكينًا‭ ‬أو‭ ‬مطواة‭ ‬في‭ ‬رقبة‭ ‬الحمار،‭ ‬ويحرص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يثبتها‭ ‬جيدًا،‭ ‬ووقتها‭ ‬بوسعه‭ ‬أن‭ ‬يقوده‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬شاء‭. ‬أما‭ ‬إن‭ ‬تغافل‭ ‬أو‭ ‬تهاون‭ ‬أو‭ ‬تمهل‭ ‬وسرقه‭ ‬الوقت،‭ ‬فإن‭ ‬الحمار،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬يجري‭ ‬به‭ ‬فوق‭ ‬الأرض‭ ‬قليلًا،‭ ‬لا‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يرتفع،‭ ‬فاردًا‭ ‬جناحيه‭ ‬الخفيين‭ ‬إلى‭ ‬عنان‭ ‬السماء،‭ ‬متقدمًا‭ ‬إلي‭ ‬كوكب‭ ‬بعيد،‭ ‬تسكنه‭ ‬كائنات‭ ‬أخرى‭. ‬ينقسم‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬المصاطب‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬الجن،‭ ‬الذين‭ ‬أتى‭ ‬القرآن‭ ‬على‭ ‬ذكرهم‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬الإيمان‭ ‬بهذا،‭ ‬وبين‭ ‬كائنات‭ ‬أخرى،‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬لها‭ ‬اسمًا‭.‬

لكن‭ ‬ظل‭ ‬دوما‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يشككون‭ ‬في‭ ‬هذا،‭ ‬ويقولون‭:‬

ـ‭ ‬قتله،‭ ‬وأخفى‭ ‬جثته‭ ‬ثم‭ ‬ادعى‭ ‬ما‭ ‬رواه‭.‬

بحثوا‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬ولما‭ ‬أعيتهم‭ ‬الحيل،‭ ‬قال‭ ‬لهم‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭:‬

ـ‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬بعيدة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يخبر‭ ‬أحدًا‭.‬

هناك‭ ‬من‭ ‬زكوا‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬قائلين‭:‬

ـ‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬ضاق‭ ‬بها‭ ‬الرزق‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يهرب‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬يرزقون‭.‬

وأبلغ‭ ‬أهله‭ ‬الشرطة،‭ ‬فواصلت‭ ‬تحقيقها،‭ ‬لكنها‭ ‬عجزت‭ ‬عن‭ ‬إيجاد‭ ‬سبيل‭ ‬لحل‭ ‬اللغز‭, ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يعثر‭ ‬أحد‭ ‬على‭ ‬جثته،‭ ‬وبرأ‭ ‬كثيرون‭ ‬في‭ ‬وقتها‭ ‬صديقه،‭ ‬وقالوا‭:‬

ـ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يؤذيه‭.‬

بعضهم‭ ‬لم‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬شكك‭ ‬فيما‭ ‬جزم‭ ‬به،‭ ‬لكنه‭ ‬بلع‭ ‬لسانه،‭ ‬تاركًا‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يمضي‭ ‬في‭ ‬طريقه،‭ ‬لتقف‭ ‬الشرطة‭ ‬عاجزة،‭ ‬وتترك‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬المتاهة‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬ابتلعت‭ ‬قصصًا‭ ‬ناقصة،‭ ‬وحكايات‭ ‬غريبة‭.‬

وسرعان‭ ‬ما‭ ‬انجرف‭ ‬رأى‭ ‬الذين‭ ‬اعتقدوا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬وراءه‭ ‬جريمة‭ ‬ما،‭ ‬في‭ ‬سيل‭ ‬حكايات‭ ‬الذين‭ ‬صدقوا‭ ‬أن‭ ‬حمارًا‭ ‬غريبًا‭ ‬قد‭ ‬حمله‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬آخر،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬بعضهم‭ ‬كان‭ ‬يضرب‭ ‬به‭ ‬المثل‭ ‬في‭ ‬الحظ‭ ‬لإنسان‭ ‬معذب‭ ‬فقير‭ ‬معدم‭ ‬بائس‭ ‬أرسل‭ ‬له‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬حمله‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬دنيا‭ ‬البشر‭.‬

***

6‭ ‬ـ‭ ‬الرجل‭ ‬الثاني‭ ‬يسافر‭ ‬مرتين

لم‭ ‬أره‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬متأخر،‭ ‬تحديدًا‭ ‬وأنا‭ ‬أفارق‭ ‬الصبا‭. ‬إنه‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬لنا‭ ‬أهلنا‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬فارق‭ ‬قريتنا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ضاق‭ ‬به‭ ‬الرزق،‭ ‬وحاصره‭ ‬الوشاة‭. ‬قالوا‭ ‬إن‭ ‬امرأة‭ ‬قد‭ ‬عشقته،‭ ‬أرملة‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬ميسورة،‭ ‬لكن‭ ‬أهلها‭ ‬استصغروا‭ ‬مثله‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لها،‭ ‬فضايقوه،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أمامه‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬السفر‭.‬

قال‭ ‬لي‭ ‬رجل‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬اصطحبه‭ ‬في‭ ‬ليلته‭ ‬الأخيرة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اطمأن‭ ‬إلى‭ ‬كتماني‭ ‬السر‭:‬

ـ‭ ‬عرفوا‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬واقعها‭ ‬فطلبوا‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬القرية‭.‬

لم‭ ‬يذهب‭ ‬بعيدًا،‭ ‬هكذا‭ ‬عرفت‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قابلته‭ ‬مصادفة‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬البندر،‭ ‬وظل‭ ‬قلبه‭ ‬معلقًا‭ ‬بقريتنا‭. ‬الغريب‭ ‬أنني‭ ‬وجدته‭ ‬يقول‭ ‬لي‭:‬

ـ‭ ‬أنت‭ ‬من‭ ‬رائحة‭ ‬الحبايب‭.‬

طالعت‭ ‬وجهه‭ ‬الضامر،‭ ‬وعينيه‭ ‬اللتين‭ ‬تملآنه،‭ ‬وسألته‭ ‬متخابثًا‭:‬

ـ‭ ‬أي‭ ‬حبايب؟

لم‭ ‬يجبني،‭ ‬إنما‭ ‬تطلع‭ ‬إلى‭ ‬الأفق،‭ ‬مغادرًا‭ ‬هامات‭ ‬الباعة‭ ‬والشراة،‭ ‬وقال‭:‬

ـ‭ ‬لا‭ ‬تشغل‭ ‬نفسك‭.‬

لكنني‭ ‬شغلت‭ ‬نفسي‭ ‬بالرجل‭ ‬الذي‭ ‬سافر‭ ‬عن‭ ‬قريتنا،‭ ‬وعرفت‭ ‬أنه‭ ‬اكترى‭ ‬غرفة‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬هجره‭ ‬أهله،‭ ‬معزول‭ ‬عند‭ ‬أول‭ ‬الزرع،‭ ‬وتحت‭ ‬السماء‭ ‬الطليقة،‭ ‬وبين‭ ‬أيدي‭ ‬الساعين‭ ‬إلى‭ ‬الكدح‭ ‬بين‭ ‬سرائب‭ ‬الحقول،‭ ‬فكان‭ ‬يسبقهم‭ ‬جميعًا‭ ‬إليها‭.‬

هكذا‭ ‬أفادني‭ ‬زميل‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الثانوية،‭ ‬وقال‭:‬

ـ‭ ‬رجل‭ ‬طيب،‭ ‬لم‭ ‬أر‭ ‬أحدًا‭ ‬صبورًا‭ ‬مثله‭.‬

كانت‭ ‬القرية‭ ‬التي‭ ‬هاجر‭ ‬إليها‭ ‬تقع‭ ‬يسار‭ ‬قريتنا،‭ ‬يتسع‭ ‬فيها‭ ‬الرزق،‭ ‬فوجد‭ ‬ما‭ ‬يقتات‭ ‬به،‭ ‬وكان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعول‭ ‬امرأة،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬قرر‭ ‬ألا‭ ‬يلمس‭ ‬جسد‭ ‬أخرى،‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬قاسمها‭ ‬الارتجاف‭ ‬الحارق‭ ‬الغارق‭ ‬في‭ ‬اللذة،‭ ‬ولم‭ ‬يظن‭ ‬أن‭ ‬غيرها‭ ‬بوسعه‭ ‬أن‭ ‬يمنحه‭ ‬هذا‭.‬

صارح‭ ‬بهذا‭ ‬رجلًا‭ ‬صار‭ ‬صديقه،‭ ‬فنقله‭ ‬إلى‭ ‬زوجته،‭ ‬فحكت‭ ‬لأختها،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أرملة‭ ‬أيضًا،‭ ‬ولم‭ ‬تجرب‭ ‬تلك‭ ‬الرعشة‭ ‬أبدًا،‭ ‬فوجدها‭ ‬تطرق‭ ‬باب‭ ‬حجرته‭ ‬ذات‭ ‬ليلة،‭ ‬وتراوده‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭. ‬صدها،‭ ‬فهددته‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يحقق‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬جاءت‭ ‬راغبة‭ ‬فيه،‭ ‬ستدعي‭ ‬أنه‭ ‬تحرش‭ ‬بها،‭ ‬وتفضحه‭. ‬فكر‭ ‬قليلًا،‭ ‬ثم‭ ‬وعدها‭ ‬بالزواج،‭ ‬وقال‭ ‬لها‭:‬

ـ‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬خيانة‭ ‬صديقي،‭ ‬ففي‭ ‬بيته‭ ‬أكلت‭ ‬وشربت‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬أختك‭.‬

في‭ ‬فجر‭ ‬هذه‭ ‬الليلة،‭ ‬جمع‭ ‬أشياءه‭ ‬البسيطة،‭ ‬وغادر‭ ‬القرية‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬لا‭ ‬يعلمنه‭ ‬أحد‭.‬

وحين‭ ‬باحت‭ ‬الأرملة‭ ‬لزوج‭ ‬أختها‭ ‬بأنه‭ ‬قد‭ ‬وعدها‭ ‬بالزواج،‭ ‬أدرك‭ ‬سبب‭ ‬رحيله،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يقسم‭ ‬أمامه‭ ‬يومًيا،‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يمس‭ ‬جسد‭ ‬امرأة‭ ‬أخرى،‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬عشقته‭ ‬وعشقها‭.‬

***

ختام

راح‭ ‬الكل،‭ ‬طفلان‭ ‬وصبيان‭ ‬ورجلان،‭ ‬وبقي‭ ‬الحقل‭ ‬الذي‭ ‬وقفوا‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬ذات‭ ‬ضحى‭. ‬توالت‭ ‬الزروع،‭ ‬مع‭ ‬تقاطر‭ ‬العرق‭ ‬فوق‭ ‬التربة‭ ‬اليانعة،‭ ‬وجرت‭ ‬مياه،‭ ‬فمد‭ ‬نبات‭ ‬ساقه‭ ‬وجذعه‭ ‬وهامته،‭ ‬يشاكس‭ ‬النسائم،‭ ‬فيهيج‭ ‬ويشيخ،‭ ‬وتذبحه‭ ‬المناجل‭ ‬المسنونة،‭ ‬فيسقط‭ ‬صريعًا‭.‬

أنا‭ ‬من‭ ‬رأيتهم‭ ‬جميعًا،‭ ‬وتاهت‭ ‬في‭ ‬عيني‭ ‬مصائرهم،‭ ‬حين‭ ‬نظرت‭ ‬إليهم‭ ‬مليًّا،‭ ‬لم‭ ‬يمسسني‭ ‬سوء،‭ ‬سوى‭ ‬ذاكرة‭ ‬موجوعة،‭ ‬تتراقص‭ ‬فيها‭ ‬وجوههم‭ ‬الضامرة،‭ ‬وتمور‭ ‬أصواتهم‭ ‬التي‭ ‬تزداد‭ ‬خفوتًا‭ ‬مع‭ ‬تقدم‭ ‬الأيام،‭ ‬حتى‭ ‬كاد‭ ‬ينساهم‭ ‬الناس‭.‬

وقف‭ ‬كثيرون‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬هذا‭ ‬الحقل‭ ‬الوسيع،‭ ‬وكنت‭ ‬أمر‭ ‬بهم‭ ‬وأنا‭ ‬ذاهب‭ ‬إلى‭ ‬حقلنا‭ ‬الضيق،‭ ‬فإذا‭ ‬وجوههم‭ ‬تتبدل‭ ‬في‭ ‬ناظريَّ،‭ ‬وتصير‭ ‬وجوه‭ ‬الذين‭ ‬سافروا،‭ ‬كل‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعلم،‭ ‬وقت‭ ‬أن‭ ‬كانوا‭ ‬يتقاسمون‭ ‬الضحكات‭ ‬العابرة،‭ ‬ويجهزون‭ ‬ظهورهم‭ ‬للانحناء‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬الممتدة،‭ ‬بينما‭ ‬الشمس‭ ‬الحارقة‭ ‬تلسع‭ ‬رؤوسهم،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬وقتها‭ ‬مشغولة‭ ‬بالمصائر‭.‬

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة