ياسر رزق
ياسر رزق


«اتفاق القاهرة».. وخواطر عمرها ربع قرن

ياسر رزق

السبت، 13 فبراير 2021 - 06:57 م

أثناء‭ ‬وجودى‭ ‬فى‭ ‬غزة‭ ‬عام‭ ‬‮69‬‭ ‬لتغطية‭ ‬أول‭ ‬انتخابات‭.. ‬قال‭ ‬لى‭ ‬وزير‭ ‬فلسطينى‭ ‬تعقيبًا‭ ‬على‭ ‬انتقاد‭ ‬عامل‭ ‬بسيط‭: ‬‮"‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الشعب‭ ‬الذى‭ ‬نحكمه،‭ ‬إنه‭ ‬أكثر‭ ‬وعيا‭ ‬من‭ ‬قياداته‮"‬‭.‬

                                                      - فتح وحماس و ١٢ فصيلاً فلسطينياً شاركوا فى حوار القاهرة يومى الإثنين والثلاثاء الماضيين

منذ أقل من شهرين، كنت فى مكتب مسئول مصرى رفيع المستوى، أستمع إلى رؤيته فى بعض القضايا والملفات. تطرق النقاش إلى الجهود المصرية الرامية لتحقيق المصالحة الوطنية بين الفصائل الفلسطينية.

وسألت المسئول رفيع المستوى: إلى أى مدى تبدو المساعى المصرية الحثيثة على طريق الوصول إلى اتفاق على أطر تؤدى إلى إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية فلسطينية فى طريقها للنجاح، خاصة أنها تأتى بعد ١٥ عاماً من آخر عملية انتخابية، وبعد انقسام أو بالأحرى تقسيم بين شطرى دولة لم تنشأ بعد على الأرض، وبعد تقاتل وتناحر وخلافات داخلية عميقة، جاءت على هوى الجانب الإسرائيلى وحدت به إلى الادعاء بأنه لا يوجد شريك فلسطينى للتفاوض معه؟!

بدا المسئول رفيع المستوى متفائلاً باللقاءات العديدة التى عقدت فى الفترة الأخيرة برعاية مصرية. وشرح لى باقتضاب كيف تم تذليل عقبات رئيسية تعترض المصالحة المنشودة، وكانت الثقة بادية عليه فى إمكان الوصول قريباً إلى اتفاق قد لا يحقق لكل طرف ما يريده بالكامل، وإنما بالقطع، سوف يحقق مصلحة القضية الفلسطينية وشعب فلسطين الصابر المناضل كاملة.

                                                                                         ***

منذ أقل من شهر، بالتحديد يوم ١٧ يناير الماضى.. سافر الوزير عباس كامل رئيس المخابرات العامة إلى رام الله فى الضفة الغربية، حيث مقر مكتب الرئيس الفلسطينى محمود عباس )أبومازن(، ونقل له رسالة عاجلة من الرئيس عبدالفتاح السيسى، تضمنت التأكيد على ثبات الموقف المصرى إزاء التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، وحرص مصر على تكثيف جهودها للمساهمة فى إنجاح العملية الانتخابية الفلسطينية.

خلال هذه الزيارة المهمة، أصدر الرئيس أبومازن مرسوماً بتحديد موعد الانتخابات بحيث تجرى الانتخابات التشريعية )المجلس التشريعى الفلسطينى( يوم ٢٢ مايو المقبل، والانتخابات الرئاسية يوم ٣١ يوليو أى بعد أقل من ٦ شهور، على أن تجرى انتخابات المجلس الوطنى "البرلمان" الذى يضم فلسطينيى الداخل والخارج فى ٣١ أغسطس المقبل.

كانت الزيارة المهمة ناجحة تماما، وحققت كل أهدافها.

ووجه أبومازن شكره العميق للجهود التى بذلها ويبذلها الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى سبق أن وصفه منذ 7 سنوات، بأن بزوغه فى أعقاب ثورة ٣٠ يونيو هو معجزة لمصر، وبأنه بطل من أبطال الأمة العربية.

                                                               ***

كان المسئول المصرى رفيع المستوى محقاً فى تفاؤله.

بعد أقل من ٢٠ يوماً على مهمة الوزير عباس كامل فى رام الله، والتى جاءت تتويجاً لاتصالات مكثفة ولقاءات عديدة وجهود مضنية، بذلها وقيادات ورجال المخابرات العامة مع الأشقاء الفلسطينيين، انعقد لقاء القاهرة يومى الاثنين والثلاثاء الماضيين، بين قيادات حركتى فتح وحماس و١٢ فصيلاً فلسطينياً آخر من بينها حركة الجهاد الإسلامى وشخصيات مستقلة، برعاية مصرية.

على مدار اليومين، حسمت الفصائل آليات إجراء الانتخابات وفق التوقيتات التى تضمنها مرسوم الرئيس أبومازن، وأزالت العقبات أمام تنفيذها.

وطلبت من الرئيس السيسى توجيه الجهات المعنية فى مصر بمتابعة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، والمشاركة الفعالة فى الرقابة على الانتخابات الفلسطينية بكل مراحلها.

ثمة نقاط عديدة مهمة تضمنها اتفاق القاهرة للحوار الوطنى الفلسطينى، من بينها الالتزام بجدول الانتخابات المحدد، وضمان حرية الرأى والتعبير وإتاحة فرص متكافئة فى الإعلام لكل القوائم الانتخابية، تشكيل محكمة للنظر فى قضايا الانتخابات يصدر مرسوم بتشكيلها من جانب الرئيس الفلسطينى، أن تتولى الشرطة الفلسطينية دون غيرها عملية تأمين الانتخابات، إطلاق الحريات العامة التى كفلها القانون والإفراج عن كل المعتقلين على خلفية انتماء لفصائل أو فى قضايا رأى.

على أن أهم بنود الاتفاق فى رأيى هو أن تجرى الانتخابات التشريعية والرئاسية فى الضفة وغزة وكذلك القدس، ولعل فى ذلك أبلغ رد عملى على قرار إدارة ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، وقرار الكونجرس الأمريكى منذ أسبوع بالإبقاء على السفارة الأمريكية فى القدس.

                                                             ***

اتفاق القاهرة، أعاد إلى مخيلتى ذكريات عطرة عشتها فى غزة والضفة فى قلب الأحداث عقب اتفاق أوسلو الذى وقع عام ١٩٩٤ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وتضمن الانسحاب من غزة وأريحا أولا، ثم الانسحاب من باقى مدن الضفة وفق ترتيبات أمنية قسمت الأراضى الفلسطينية بالضفة إلى ٣ فئات، وتمخض الاتفاق عن تأسيس أول سلطة وطنية داخل الأراضى الفلسطينية.

توارت تلك الذكريات التى أعتبرها من أجمل ما عشت فى مشوارى الصحفى، وراء ركام من الاعتداءات الإسرائيلية الوحشية، والخروقات المتواصلة لكل الاتفاقات، والانتهاكات لكل التعهدات والتفاهمات التى جرت على مدار أكثر من عقدين.

حتى جاء الاقتتال الفلسطينى الفلسطينى فى غزة، فى أعقاب الانتخابات التشريعية التى جرت عام ٢٠٠٦، وأسفرت عن فوز حماس بنسبة ٤٤٫٤٥٪ وفتح بنسبة ٤١٫٤٣٪ من أصوات الناخبين.

لست أنكأ جراحاً، عسى أن يسمح لها اتفاق القاهرة بأن تندمل، أو أن تحتم الأجواء الدولية والإقليمية غير المواتية للقضية الفلسطينية بألا نضع ملحاً يعيد أوجاع الجراح.

لا أرغب فى الخوض فى مسألة من الذى تسبب فى الانقسام والقسمة والتقسيم. ولعل أجواء الذكريات عندى وعند غيرى مكللة بنتائج اتفاق القاهرة تفتح آفاقاً أخرى أرحب وأكثر إشراقاً..!

                                                            ***

قدر لى أن أكون شاهداً على يوم دخول الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات إلى غزة لأول مرة بعد اتفاق أوسلو يوم الأول من يوليو عام ١٩٩٤، بعد ٢٧ عاماً قضاها فى المنفى إثر عدوان يونيو ١٩٦٧.

كان مقرراً أن يصطحب الرئيس (الأسبق) حسنى مبارك، الزعيم عرفات من القاهرة إلى مطار العريش لكى يودعه هناك وهو فى طريقه إلى غزة التى تقع حدودها على مسافة أقل من ٥٠ كيلومتراً.

لكن مبارك آثر أن يرافق عرفات إلى معبر رفح عند حدود مصر مع قطاع غزة.

كنت أرافق ركب الرئيسين، وأدون بقلمى تفاصيل الرحلة.

عند معبر رفح.. نازعتنى شرور الصحافة، وقررت أن أقفز فى موكب سيارات عرفات، وكدت أتعرض لإطلاق نار لخرقى للإجراءات المرعية، لكن بعض رفاق الزعيم الفلسطينى سمحوا لى بأن استقل السيارة معهم، وأخوض مغامرتى الصحفية.

المسافة بين رفح وقلب غزة فى حدود ٤٠ كيلومتراً، قطعها الركب فى ٤ ساعات تقريباً، وسط حشود جماهيرية هائلة ترحب بقدوم عرفات، الذى كانت دموعه تغلب ابتسامته الواسعة، فى مشهد غير مسبوق شارك فيه بدون مبالغة جُل سكان القطاع.

صعدت إلى فندق "القدس"، حيث كان مقر عرفات المؤقت، والتقيت معه وعدد من الإعلاميين المصريين الذين جاءوا إلى غزة قبلها بيومين. وكان لقاء صحفياً عامراً بالمودة وبالمعلومات أيضاً.

لم يكن فى غزة إلا فندق آخر اسمه فندق "آدم"، ولم يكن بالفندق مكان حتى فى الأروقة.

أمضيت ليلتى على أحد الأرصفة، افترش "الأسفلت"، والتحف "سويترى" وأتوسد "بلوفر" كنت أرتديه. وأعانتنى درجة الحرارة غير الباردة فى ليل شهر يوليو، على أن أتحمل المبيت فى العراء.

فى الصباح الباكر.. التقيت صديقى الأكبر الكاتب الكبير محمد بركات (رئيس تحرير الأخبار ورئيس مجلس الإدارة فيما بعد) الذى سبقنى إلى غزة بيومين، وأكملنا مهمتنا الصحفية. وعدنا معاً بالسيارة إلى العريش، حيث سطرنا ما كنا نختزن من معلومات فى رسالة صحفية مطولة لجريدة "الأخبار".

                                                            ***

منذ ٢٥ عاماً بالضبط.. عدت إلى غزة ومنها إلى الضفة بتكليف من أستاذى وأبى الثانى الكاتب الكبير جلال دويدار رئيس التحرير فى ذلك الوقت لتغطية أول انتخابات رئاسية وتشريعية تجرى على الأرض الفلسطينية.

ذهبت إلى غزة، قبيل أيام معدودة من إجراء الانتخابات التى كان مقرراً أن تتم فى نفس اليوم المحدد ٢٠ يناير ١٩٩٦.

فى غزة.. قابلت أبومازن وكان أمينا لسر منظمة التحرير الفلسطينية أى الرجل الثانى فى القيادة الفلسطينية، وقابلت عديداً من قيادات الحركات الفلسطينية ووزراء السلطة.

وحضرت عشرات السرادقات الانتخابية وتعرفت على وجوه جديدة وشابة يفخر بها أى فلسطينى، والتقيت هناك بزميلىّ المرحوم طارق حسن مدير مكتب الأهرام فى غزة حينئذ، والمحرر الشاب محمد عبدالله بجريدة "الشباب" الذى أصبح رئيساً لتحريرها فيما بعد.

من غزة سافرت إلى رام الله، والتقيت الزعيم عرفات، ومنها إلى مدينة البيرة القريبة حيث التقيت بمنافسته السيدة سميحة خليل المعروفة بـ "أم خليل"، وكانت جدة فى الثمانين من عمرها، واللطيف أننى حينما سألت حفيدها الشاب صغير السن عمن سيعطى صوته، فأجابنى دون تردد: "أبوعمار.. طبعا"..!

طفت بمدن الضفة.. الخليل، قلقيلية، بيت لحم وغيرها.

وعشت أسبوعاً.. تتملكنى مشاعر بهجة بأن أرى أخيراً أشقائى الفلسطينيين الذين جاورت العديد من أسرهم فى مهجرنا بمدينة الزقازيق، حين أجبروا على مغادرة وطنهم إليها عقب حرب ١٩٦٧، وأجبرت أسرتى على هجران مدينتنا الإسماعيلية إثر ذلك العدوان.

ولست بعيداً عن العبارات الرنانة، حقيقة الروابط التى تجمعنا، ومشاعر التقدير التى يكنها الفلسطينيون لتضحيات أشقائهم المصريين التى بلغت مائة ألف شهيد، بينما إجمالى الشهداء الفلسطينيين أقل بكثير من تضحيات الأسر المصرية فى كل الحروب.

أسفرت الانتخابات التشريعية حينذاك عام ١٩٩٦ عن حصول حركة فتح على ٥٥ مقعداً من بين ٨٨ مقعداً فى المجلس التشريعى.

وحصل الزعيم عرفات على نسبة ٨٨٫٢٪ من الأصوات، مقابل ١١٫٨٪ لمنافسته السيدة سميحة خليل وكانت نسبة عالية جداً بالقياس لخبرات الجدة المرشحة بالسياسة والنضال..!

أذكر حين كنت أزور لجنة انتخابية فى مدرسة بغزة، وكان معى وزير العدل فريح أبومدين، أن الوزير أبدى ملاحظة فى شأن تواضع منظر المكاتب والمقاعد البلاستيكية. وسمعه أحد الفراشين، فرد عليه قائلا: "يا أخى.. تواضعوا قليلاً، هل تسخر من فقرنا؟!.. لقد عشنا ما يقرب من ٣٠ عاما تحت ذل الاحتلال"!

نظر لى حينئذ الوزير الفلسطينى وهو يبتسم خجلاً وقال لى: "انظر.. هذا هو الشعب الذى يراد لنا أن نحكمه.. إنه أكثر وعياً من قياداته"..!

                                                              ***

خلال شهر مارس المقبل.. تعقد الفصائل الفلسطينية اجتماعا لها بالعاصمة المصرية، وفقاً لاتفاق القاهرة بحضور رئاسة المجلس الوطنى ولجنة الانتخابات المركزية، للتوافق على أسس وآليات استكمال تشكيل المجلس الذى سيتم إكماله بالانتخاب حيثما أمكن وبالتوافق حيث لا يمكن، بما يضمن مشاركة الكل الفلسطينى فى منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى.

منذ يومين.. اتصل الرئيس السيسى بالرئيس أبومازن وأكد له استمرار مصر فى جهودها الدءوبة بالتنسيق مع الأشقاء الفلسطينيين والشركاء الدوليين لبلورة رؤية واضحة لدفع جهود السلام من أجل حل القضية الفلسطينية.

ورد أبومازن مؤكدا تقديره لجهود مصر ودورها التاريخى الثابت والمستمر من أجل ايجاد حل عادل وشامل للقضية.

الطريق مازال طويلاً لكن التفاؤل يظلله فى أعقاب اتفاق القاهرة.. المصالحة هى الخطوة الأولى، والانتخابات هى الخطوة الثانية، واستمرار النضال من أجل استعادة الحق وإقامة الدولة هو كل الخطوات على ذلك الطريق العسير.

وتظل مصر فى كل الأوقات، هى السند والداعم لقضايا أمتها، وبالأخص قضيتنا الفلسطينية.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة