لم تمنعهم إعاقتهم عن النجاح
لم تمنعهم إعاقتهم عن النجاح


«لم تمنعهم إعاقتهم عن النجاح».. أدباء ومبدعين من رحم المعاناة

نادية البنا

الإثنين، 15 فبراير 2021 - 05:08 م

تظل محاولات المسجونين بداخلهم إهداء «إلى أولئك الذين لا يعملون، ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس»، هكذا كتب طه حسين في كتابه «مع أبي العلاء في سجنه».

 

فمن رحم المعاناة يولد الأمل، ومن باطن الغيوم السوداء ينشق شعاع النور، ومن أرحام المِحَن تأتي الِمنَح .



أبطال هذه السطور نماذج للكفاح والإصرار والتحدي، لم تقف الإعاقة حاجزاً وعائقاً أمام طريقهم نحو الإبداعِ والنجاح، فهم لم يستسلموا لإعاقتهم، بل أثبتوا أنهم قادرون على تحدّي الصعاب، ولم يعرفوا للمستحيل طريقاً، وكان هذا جليّاً من خلالِ النجاح الذي حققوه في طريق الإبداع .



«أبي العلاء المعري»

في وقت كان يُعده طبعه للعزلة، ويُهيئه للانفراد، كان بصر أبي العلاء المعري قد ذهب تمامًا، وما عاد يرى اللون الأحمر ولا غيره، وجاءه العمى فأمد عزلته وقواها، وجعل تأثيرها في حياته أشد وأعظم مما لو أتيحت له الرؤية.

لم تؤثر تلك الفاجعة في حب المعري لفن الشعر والتعلق به والبحث عن غيره من المعارف والآداب، ولما ألم من دور العلم في الشام بما كان يستطيع أن يُلم به، عاد إلى المعرة واستقر فيها وادعًا مطمئنًا، يحفظ كل ما يقع على أذنيه بأي لغة.

فروي عنه في رحلته إلى بغداد، أنه طلب أن تُعرض عليه جميع الكتب التي في خزائن بغداد، وكان لا يقرأ أحد عليه كتابًا إلا حفظ جميع ما يُقرأ عليه، وما من أحد قرأ عليه أول كتاب إلا أورده عليه حفظًا وما أخل منه بحرف.

ولما كانت صعوبة كل إعاقة مع صاحبها، هي محاولاته المستمرة لعيش حياة طبيعية، لم تتوقف محاولات المعري حتى صار كهلًا، وخلق ما يسمى سجنه الفلسفي، وعاش فيه حتى وفاته.

«خورخي لويس بورخيس»

فقد الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس بصره في سن الخمسين، ولم يكن صيته بوصفه كاتبًا ذاع كفاية ليعيل نفسه بكتابته، فبدأ عملًا جديدًا محاضرًا عامًا للأدب الإنجليزي في الجمعية الأرجنتينية، وبعدما ينهي الطلاب امتحاناتهم، كان يطلب منهم الالتقاء لساعات في المكتبة لدراسة لغة أو أدب لا يعرفونه ولا يعرفه، وخلال وقت قصير كانت لديه ذاكرة مليئة بالشعر الرثائي، والملحمي، والأنجلو ساكسوني، الذي عشق أدبه، ومعرفة عميقة بعدد من اللغات.

في محاضرته الشهيرة «سبع ليال- العمى»، والتي ألقاها في عام 1977، في مسرح كوليسيو في بوينس أيرس، وصف بورخيس عماه بأنه كان متواضعًا، وأنه ليس حالة درامية على نحو خاص، فقد بدأ الإعتام البطيء في حالته منذ بدأ يرى، واستمر بدون لحظات درامية، «إعتام بطيء استمر لأكثر من نصف قرن»، لكن اللحظة القاسية كانت عندما أعاقه فقدان بصره عن القراءة والكتابة، ولم يعد يفرق بين عناوين الكتب.

في تلك الفترة -السنوات الأولى في ظلمته- تلقى بورخيس عرضًا وصفه بـ«حسنات العمى»، بأن ينتج ثلاثين قصيدة في العام، ورأى في الشعر أنسب القوالب لتلك المرحلة، لسهولة حفظه حتى إمكانية تدوينه، فكان بورخيس يحفظ 30 أو 40 بيتًا من الشعر المرسل في ذاكرته، ويظل يكررهم، حتى يمليهم على أي زائر يأتيه، حتى ضم كتاب «في مديح الظل» ما كتبه بورخيس من شعر ونثر في الفترة من 1967 إلى 1969، واعترف بأن عنوانه يحمل بعض السخرية من حالته.

كانت تلك المجموعة سببًا في شهرته، حتى لم يعد يشعر بأن العمى كان محنة كلية، بل وسيلة أخرى بين العديد من الوسائل التي يمدنا بها القدر أو الحظ، وبعد سنوات في إحدى محاضراته، قال: «العمى ليس هو الظلام الذي يتخيله الناس، يجب أن أوضح أنني أتحدث بالنيابة عني، وعن أبي وجدتي، اللذين ماتا أعميين كلاهما؛ أعميين، ضاحكين وشجاعين، مثلما أتمنى أنا أيضا أن أموت، لقد أورثوني أشياء عديدة؛ العمى، على سبيل المثال، لكن المرء لا يرث الشجاعة وأنا أعرف أنهما كانا شجاعين».

«الصبي الشبح»

في سن الثانية عشرة، عاد مارتن بيستوريوس من مدرسته في جنوب أفريقيا إلى والدته مصابًا بالتهاب الحلق، وخلال أيام قليلة تالية فقد اهتمامه بالأكل وأصبح النوم هو كل ما يريد، حتى انتهى على كرسي متحرك، لا يستجيب لنداء أحد.

كانت آخر كلمات مارتن لوالدته قبل فقدانه النطق في المستشفى: «متى؟»، «البيت»، وهناك تم إجراء كل اختبار جسدي لمعرفة سبب المرض، والبحث في كل الأسباب النفسية التي قد تسبب تلك الحالة، واحتاج الأطباء عامًا لكي يعترفوا بأن خيارات علاج مارتن قد نفدت، وتشخيصه على أنه يعاني من مرض تنكسي في الجهاز العصبي، أسبابه مجهولة، وقيل لوالديه أن ابنهما لديه عقل طفل يبلغ من العمر ثلاثة أشهر، ومن الأفضل أن يأخذوه للبيت ويحاولون تحمله حتى يموت.

عاش مارتن أربع سنوات مع والديه فاقدًا الوعي، ولكن في سن 16 تقريبًا أصبح مدركًا لفترات زمنية قصيرة، وفي سن 19 كان واعيًا تمامًا، دون أن يتمكن من إخبار أحد بذلك، حتى عندما بدأ في استعادة قدرته على تغيير تعبيرات وجهه، ليعيش عقله الواعي حصارًا داخل جسمه لنحو ستة سنوات أخرى، شبه نفسه فيها بـ «نبات في أصيص، يكفيه الري بالماء وتركه في زاوية الغرفة»، وشبحًا، وذكرى باهتة لطفل عرفه والديه وأحبوه ذات مرة.

خلال تلك الفترة تمت رعاية جسد مارتن، جسده فقط، فلم يتخيل الوالدان أنه يشعر بالوحشة في خلافهما حول بقائه بالبيت أو وضعه في دار رعاية؛ حيث كان ضغط رعايته يؤثر على زواجهما وبقية الأسرة، وكذلك لمسة أمه الجزعة له عند تنظيفه، حتى تخليها عنه في رحلة طويلة، وإيداعه في دار رعاية حيث كان يُصفع، ويُقرص، وتلتصق به أسماء السخرية، ويُلقى على وجهه مرات بكرسيه .

كتب مارتن في سيرته الذاتية «الصبي الشبح: الهروب المعجزة لفتى محاصر داخل جسده» عن رفيقه، والوحيد الذي عرف أن هناك صبيًا يعيش داخل جسم عديم الفائدة، الله، الذي آمن مارتن بوجوده ورفقته واطمئن بهما، حتى اكتشف ممرض اعتاد أن يدلك عضلاته المتيبسة أنه واعٍ بوجوده، بعدما حدق مارتن فيه وهو يتحدث له كما كان يفعل دومًا، وبعد سلسلة من الاختبارات لتقييم ردوده على أنواع مختلفة من أجهزة الاتصال، استطاع مارتن التواصل مع العالم من خلال شاشة عليها رموز يحدق بها، حتى حصل على جهاز كمبيوتر منحه صوتًا لأول مرة منذ أكثر من عقد، وكان سعيدًا وهو يعبر عن حبه لمزيد من الملح في الطعام، أو حاجته لشرب الماء.

عاد مارتن إلى الحياة مرة أخرى كأي إنسان طبيعي ليس ذلك فقط بل قام بكتابة قصة حياته بداخل كتاب تحت عنوان «الطفل الشبح»، ثم انتقل مارتن إلى حياته الطبيعية وتزوج وهاجر إلى إنجلترا وأصبح مصمم مشهور ومطور إلى جانب نجاحه وشهرته ككاتب متميز .

يتذكر مارتن في كتابه بينما كان يحدق في نافذة السيارة في طريقه مع والده من دار الرعاية إلى المنزل، شعوره بأن لديه الكثير من الحب بداخله، ولا أحد ليعطه، وهناك كان الحب هو الجانب الوحيد المضيء في حياة مارتن بعد ذلك، حيث كتب عن حبه للفتاة التي ستصبح فيما بعد زوجته: «لقد عشت حياتي كلها كعبء على الآخرين، وهي الوحيدة التي جعلتني أشعر بالخفة».

هي التي دفعته ليصبح في سنوات قليلة زوجًا وصديقًا وصاحب عمل وكاتبًا مشهورًا يجلس على كرسيه المتحرك، ويقول من خلال حاسوبه للجمهور: «لقد جئت إليكم من ظلمة رهيبة، خرجت منها بأيادٍ حنت على روحي ومنحتني صوت، وإذا كانت هناك عقبة واحدة في طريقي للتواصل، فأنا أريد أحيانًا أن أصرخ وأحيانًا أخرى لأهمس بكلمة حب أو امتنان».

«كريستي براون»

كتب كريستي براون مرثية لائقة لتأريخ سيرته الذاتية وكفاحه لتعويض الشيء الوحيد الذي كان يفتقر إليه، جسد يطيعه، لكن لحسن الحظ، كان لديه أهم ثلاثة أشياء في العالم: عقل ذكي، وشخصية قوية، وأم محبة.

ولد براون في عام 1932 مصابًا بالشلل الدماغي، بعد تعرضه للاختناق الجزئي أثناء الولادة، وخلافًا لنصائح الأطباء، أصرت والدته على اصطحابه للمنزل لتربيته وسط أشقائه، في حين لم يكن تعليم الأطفال ذوي الإعاقة خيارًا متاحًا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وعلى الرغم من أن جسده كان عاجزًا، كان عقله في حالة مثالية، تمامًا كقدمه اليسرى؛ الجزء الوحيد من جسده الذي استطاع السيطرة عليه، وفتح فرصة أمامه ليعبر عن نفسه.

فبينما كان براون يواصل العيش ملاحظًا بيئته لبعض الوقت دون أن يكون قادرًا على تحريك جسده؛ شاهد أخته تقوم بواجبها المنزلي بقطعة من الطباشير، التقط قطعة الطباشير بقدمه وبدأ في رسم شيء ما، ليعيد الأمل لقلب والدته وتقرر أن تعلمه الأبجدية بأكملها باستخدام قدمه اليسرى، حتى بدأ يكتب ويرسم وهو على عربة الأطفال؛ الشيء الوحيد الذي ربطه بالعالم.

ظل إحساس كامن بالحزن والإحباط يسيطر على براون بالتزامن مع إدراكه تدريجيًا مدى اختلافه عن الآخرين، ومدى أهمية أن يكون «طبيعيًا» ليحبونه، حتى أنه وصف صداقته المتنامية مع فتاة عندما كان في سن المراهقة، ليدرك معها أن ما تشعر به تجاهه ليس حبًا أو صداقة أو إعجابًا، بل شفقة، لكنه ظل يقول: «إذا لم يكن بإمكاني أبدًا أن أكون مثل الآخرين، فعندئذ على الأقل سأكون مثلي وأبذل قصارى جهدي».

سجل براون مراحل نموه بوصفه كاتبًا؛ ففي البداية كانت إمكانية قراءته للكتب محدودة للغاية، وكان يقرأ فقط للروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز، حتى كانت محاولاته الأولى للكتابة جميعها تقليدًا لديكنز، فجمع براون بين تطور مدرسة ديكنز الأدبية وشجاعة فتى يحاول الكتابة عن حياته الخاصة، حتى أنه كان شجاعًا كفاية ليضيف بعض مقتطفات من هذه المحاولات المبكرة، وصادقًا بما يكفي للاعتراف بمدى سوئها.

كتب براون الرواية والمسرحية والشعر، مثل مجموعتيه الشعريتين الذاتيتين: «تعال أيقظني بهدوء»، و«موسيقى في الخلفية»، وكانت روايته الأشهر «ساقي اليسرى» هي أولى رواياته في سن الثانية والعشرين، وتم تحويلها لاحقًا إلى فيلم حاز على جائزة الأوسكار، عام 1989، وتوفي كريستي عن عمر يناهز 49 عامًا بعد الاختناق من قطع لحم الضأن على العشاء.

«فيليب فيجاند» المنحبس

يعيش مريض «متلازمة المنحبس» في حالة استيقاظ ووعي كاملين، دون قدرة على تأكيد ذلك للآخرين، بسبب دخول عضلات جسده في حالة شلل كامل، عدا عضلات العينين، إذا كان سعيد الحظ.

كانت تلك حالة فيليب فيجاند، المدير التنفيذي الوسيم لدار نشر فرنسية، والبالغ من العمر 29 عامًا، بعدما سمع انفجارًا هائلًا في طريقه للعمل، الغريب أن لا أحد بدا عليه الانزعاج من الصوت، لسبب بسيط هو أن الانفجار كان في دماغه، كان الانفجار لشريان في رقبة فيجاند، ليستيقظ من غيبوبة استمرت لشهرين، مكتشفًا إصابته بالشلل التام، في حين أن دماغه وقلبه ورئتيه ما زالوا يعملون.

شعر فيجاند أن شخصيته تلاشت فجأة في ضباب كثيف، وأن كل مشاعره ورغباته مقيدة ومكتومة داخله، وكان الأسوأ هو الشعور بالعجز التام بينما هو موجود ببساطة، وبالتدريج تقبل أن يستخدم عقله أداة يمكنه استخدامها إما لإيقافها للتراجع عن واقعه، أو لتوسعتها لمساحات لا حد لها ليمكنه ملؤها بالأوهام.

كان أخصائي أمراض النطق هو أول من أدرك أن قوى فيجاند العقلية لم تتأثر عندما أجاب على عمليات حسابية برمش عينه بالعدد الصحيح، وبعد ذلك بوقت قصير اعتمد في التواصل مع أطفاله وأصدقائه الثلاثة على جهاز يعمل بالأشعة الحمراء، يربط الأبجدية بعدد مرات رمش العين.

كتب فيجاند الجزء الأول والأطول من سيرته الذاتية بغمضة عين أمام جهازه، ليصف السنوات التسع التالية لحادثه، ويذكر تفاصيل إقامته في مختلف المستشفيات ومراكز إعادة التأهيل، والممرضين الذين تجاهلوا رمشة عينيه وعاملوه مثل «كيس من البطاطس»، وأصدقاءه الذين أصابهم الرعب من مظهره.

أما الجزء الثاني فكتبه زوجته ستيفان، تصف فيها نفس الفترة الزمنية من وجهة نظرها، وبرزت خلاله علاقتهما، وكيف تغلبا على صعوبات تطور مرضه، والعقبات التي واجهتها كي تتخذ قرارًا ببقاء زوجها بالمنزل بدلًا من المستشفى، والاستمرار في زواجهما، حتى أنهما قررا إنجاب طفلهما الثالث بعد الحادث، وإدراكها أن معظم التواصل يتعلق بالبقاء على اتصال، وليس نقل معلومات مهمة، ما جعلها ترضى لسنوات برمشة عين ليجيب عن سؤالها بنعم أو لا، وفي النهاية رغم إعاقته إلا أنه استطاع أن يسخر موهبته في الكتابة لينال شهرة واسعة ونجاحًا كبيرًا . 

اقرأ ايضا|«وقفة رجالة» يتجاوز النصف مليون جنيه في شباك التذاكر

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة