عمرو الخياط
عمرو الخياط


نقطة فوق حرف ساخن

«غثاء السيل»

عمرو الخياط

الجمعة، 19 فبراير 2021 - 08:28 م

 

فى الآية (٢٥) من سورة التوبة يقول المولى عز وجل: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)، وفِى الآية (٦٥) من سورة الأنفال يقول تعالى: (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً)، آيات من الذكر الحكيم تتحدث صراحة عن أهمية القيمة الحقيقية للفرد وقدرته على العطاء والإنتاج والإنجاز، وتنفى نفيًا تامًا أهمية القيمة العددية لأشخاص غير مؤهلين للقيام بأدوار حيوية فى مجتمعاتهم.

بل إن الآيات تتحدث بصيغة مباشرة محددة عن قدرة الفرد المؤهل على إتمام دوره المجتمعى الذى تعجز عنه مجموعات كثيفة لا تملك أى قدرات أو مهارات فتتحول إلى كتلة من الأعباء على مجتمعاتها ودولها ولا تزيدها إلا خبالاً.

صيغة قرآنية محددة وشديدة التكثيف لوصف القيمة الذاتية للفرد الذى تم إعداده إعدادًا جيدًا لأداء دوره فى خدمة مجتمعه، بينما تنفى نفس الآيات أى اعتبار للقيمة العددية لأشخاص لايمتلكون أى مهارات فيتحولون إلى أعباء بشرية لا تنتج إلا مزيدًا من الجهل والفقر والتخلف.

نستكمل التحليق فى رحاب القرآن الكريم لنتوقف عند قوله تعالى فى الآية (٥) من سورة مريم: (فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِياًّ)، ولم تقل أولياء بل اكتفت الآية بالحديث المحدد بصيغة الفرد وعن قيمته فى المفهوم القرآنى إذا كان  قويًا مؤهلًا، فى مواجهة مجموعات بشرية ليس لمدلولها العددى أى انعكاس على قيمة عطائها أو إنتاجها لمجتمعاتها وأوطانها.

هنا نجد أنفسنا أمام تصوير إلهى عكسته آيات محددة ومباشرة وضعت اعتباراً للقيمة الفردية يعلو على القيمة العددية لأفراد المجتمع الذين يمكن أن يتحولوا إلى تكتلات سكانية استهلاكية غير منتجة، تستمر فى التضخم إلى أن تتحول إلى تمركزات لإفراز الجهل والفقر والمرض.

إذا ما أسقطنا هذا الشرح الإلهى لقيمة الفرد التى تقدر بحجم قدرته على الإنجاز والعطاء لمجتمعه سنجد أنفسنا أمام حكمة إلهية جليلة وتكليف شرعى بضرورة وحتمية أن تكون القدرة على التكاثر مرهونة بقدرة مماثلة على إعداد من سينتج عن هذا التكاثر، من أجل تقديمه قيمة منتجة للمجتمع وليس عبئا جديدًا.

نتحدث مباشرة عن الأزمة المزمنة التى عرفت باسم "الانفجار السكانى"، وهو تعبير دقيق عن حالة إرهاب جماعى واجتماعى لم تعد تنتج أجيالا قادرة على العطاء وتقديم الخدمة لمجتمعاتها، بل أصبحت تفرز شظايا بشرية انتشرت فى ربوع الدولة المصرية وتحولت بمرور السنوات إلى ألغام سكانية قابلة للانفجار فى أى وقت.

في المقابل تجد جماعات التطرّف تدعو للتكاثر والتناسل وهى مدركة أن الزيادة السكانية التى تفوق حجم قدرات الدولة حتما ستؤدى إلى مزيد من الأزمات، وهو هدف إرهابى إستراتيجى لتلك الجماعات التى تسعى لإفقار وتجهيل الأجيال المصرية من أجل ضمان الاستمرار فى الحفاظ على البيئة الصالحة لعمليات التجنيد المستدامة التى تعتمد على نشأة أجيال فى ظروف قاسية تجعلها أكثر استجابة وقابلية للسقوط فى براثن التجنيد، وأكثر سخطاً على دولها وأنظمتها التى لم تتمكن من توفير حياة كريمة لها.

مع التطور التكنولوجى باتت حجج وأدلة الداعين للتكاثر والتناسل باعتبارهما استجابة لدعوة نبوية، باتت واهية لأن قدرة العقل البشرى الذى تم تأهيله علميًا بسبب نشأته فى مجتمع امتلك قدرات بناء الإنسان، أدت إلى تطور سريع فى صناعة الآلة التى زادت من فرص الاستغناء عن العنصر البشرى.

ومع الاعتبار بحقيقة دامغة بأن النص القرآنى لا يمكن أن يتعارض مع القول النبوى فإن الدعوة المنسوبة للنبى الكريم "صلى الله عليه وسلم" بالتكاثر والتناسل، لا يمكن أن تكون دعوة للزيادة العددية العشوائية التى ستؤدى إلى فرد ضعيف غير قادر على إفادة مجتمعه، ولن تؤدى إلا إلى تخليق كتل بشرية ليس لها دور إلا تعطيل وإلهاء مجتمعاتها عن التقدم، لنجد أنفسنا أمام معنى واضح يحيلنا إلى الآية الأولى من سورة التكاثر فى قوله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) إلى آخر السورة التى استخدمت مفردات لغوية قرآنية شديدة الوضوح عندما تحدثت عن مفهوم التكاثر باعتباره من الممكن ان يكون وسيلة للإلهاء والتعطيل.

وفى مواجهة جماعات التطرّف والإرهاب التى تدعو إلى التكاثر العددى باعتباره أحد مظاهر إعداد القوة فى مواجهة من يتم تكفيره واستباحة قتاله، فإن الواقع يقول إن العقل البشرى الذى حصل على نصيبه من العلم والرعاية استطاع تصنيع طائرة بدون طيار أصبحت ذراعًا طويلة لحسم المعارك دون تدخل بشرى، بينما مازال البعض يعتقد أن الحياة تلقى بالا لمن يتنقل على ظهور البغال فى أفغانستان معتقدًا أنه فى مأمن من رصد الأقمار الصناعية لتحركه الذى أصبح مثارًا للسخرية والشفقة ثم النسيان.

المفارقة هنا أن العقل البشرى وصل إلى محطات من التقدم ساهمت فى حفظ النفس البشرية باعتبارها أحد أهم مقاصد الشريعة الإسلامية، بينما تستمر دعوات التكاثر العشوائى متخفية خلف فهم سطحى لنصوص دينية، مازالت تدعو للتكاثر العشوائى المنتج لمزيد من ضحايا الفقر والمرض ولمزيد من مجموعات "غثاء السيل" التى تمتهن القيمة البشرية والإنسانية وتتعامل معها كالقطعان.

فإذا كنا نتكلم عن خطر الإرهاب فإن الزيادة السكانية هى المنبع الأساسى والمورد الحقيقى لضحايا هذا الإرهاب ممن تم تجنيدهم تحت وطأة العوز والفقر والجهل والمرض، وإذا تحدثنا عن حقوق الإنسان فإن الأزمة السكانية هى الباب الواسع لامتهان هذا الإنسان وانتقاص حقوقه.

وإذا تكلمنا عن العدالة الاجتماعية فإن الانفجار السكانى هو النموذج العملى للظلم الاجتماعى الذى سيقع على الجميع بعدما تفقد الدولة قدرتها على التوزيع العادل للثروة وللتنمية.

مأساة الزيادة السكانية التى قُتلَت بحثًا وإعلامًا لم تعد قضية داخل ملفات بل تحولت إلى حرب تهدد البشرية وتزيد من فرص التصارع والاقتتال.

عندما تدعو مصر وقيادتها إلى مواجهة هذا الخطر فإنها تدعو لتجفيف منابع الإرهاب، كما تدعو لميثاق إنسانى عالمى للحفاظ على حقوق الإنسان.

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة