محمد القلينى
محمد القلينى


بعد فوزه بجائزة الشارقة فرع القصة

محمد القلينى: الجائزة قد تعيد قدم كاتب يائس إلى أرض الكتابة

بوابة أخبار اليوم

الإثنين، 22 فبراير 2021 - 01:10 م

 

حوار: حسين السيد
«محمد القلينى» اسم لشاعر معروف، أضحى اليوم اسمًا لقاص صاعد.. انفجرت موهبته فجأة، فشغل الأوساط الثقافية والأدبية بما يقدم، حصد ديوانه الأول «أركض طاويا العالم تحت إبطى» جائزة أخبار الأدب ثم جائزة معرض القاهرة الدولى للكتاب، صدر ديوانه الثانى «سقط شىء من شىء» مطلع عام 2018 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم توقف لـ 3 سنوات عن إصدار أى جديد، قبل أن يعود إلى الساحة مرة أخرى، لكن من نافذة جديدة، بعد إعلان فوزه بالمركز الثانى لجائزة الشارقة للإبداع العربى فرع القصة القصيرة.. فهل هو شاعر أم قاص؟ لماذا يغيب؟ وكيف شكل ماضيه واقعه الحالى، وجعله ما هو عليه؟.. سألناه ففتح لنا أبوابًا على حياته، تحدث عن الحياة والشعر والموت والمخاوف.. عن ماضيه كمنتم للفكر السلفى، وحاضره كشاعر تختلط الحقيقة فى إجاباته بالمجاز، وتتوه الكتابة الصحفية الرصينة، بين جمله وألاعيبه الأدبية، التى يصر أن يضمنها حديثه. 
-شاعر أم قاص؟ كيف تعرف نفسك؟
لاعب الكرة يحرز أهدافا بقدمه مرة وبرأسه مرة، الشعر هو القدم، والقصة هى الرأس، تظن أننى سأقول: والكاتب هو اللاعب. لا.. الكاتب هو الشبكة التى يمكن أن تثقبها الكرة فى أى لحظة.
- أشعارك تحمل نزعة قصصية واضحة، وبعض قصصك فيها رقة شعرية تجعل فكرتها صالحة كقصيدة.. ألا تخشى من أن يقول بعض النقاد: هذه ليست قصصا؟
الفن، أى فن، ضد القواعد والقوانين، لا يمكن لأحد أن يقول: لا يكتب الشعر إلا هكذا، ولا يمكن لأحد أن يقول: لا تكتب القصة إلا هكذا. صحيح أن هناك نظريات نقدية داخل كل جنس أدبى، لكنها مجرد نظريات يمكن أن يضرب بها الكاتب عرض الحائط جانحا نحو التجريب. ثم من منهما يأتى أولا: الكتابة الإبداعية أم النظرية النقدية؟ بالتأكيد الكتابة الإبداعية تأتى أولا، ثم تأتى النظرية النقدية لتبين وتبرز ملامح هذه الكتابة، لا لتسجن كل الكتاب الذين سيأتون لاحقا داخل هذا القالب وهذا الأداء. نحن لا نكتب القصة أو الشعر وفقا للنظريات التى استقاها النقاد من تجارب كتاب سابقين، صحيح أننا يمكن أن نسير فى نفس الطريق، لكن لا يمكن أن يقبل كاتب أن يقول له أحد: هذه هى الطريق الوحيدة. الإنسان يتطور، والكتابة أيضا، لأنها كائن حي.
- أنت إذًا ضد الفصل بين الأجناس الأدبية؟
قديما وضع أرسطو فى كتابه «فن الشعر» حدودًا فاصلة بين الأجناس الأدبية، محذرًا من الخلط بين هذه الأجناس، لكن الآن، فى هذا العصر، ومع هذه التكنولوجيا التى أزالت الحدود بين الدول نفسها، ليس هناك جنس أدبى نقى بنسبة مئة فى المئة، الشعر يستفيد من تقنيات وأدوات الكتابة القصصية، والقصة تستفيد من تقنيات وأدوات الكتابة الشعرية، أنا ضد الفصل التام بين الأجناس الأدبية، وفى نفس الوقت ضد الخلط الكامل بينها، فلكل جنس أدبى أدواته وخصائصه، وعلى الجنس الذى يريد الاستفادة من أدوات وخصائص الجنس الآخر ألا يتنازل -فى سبيل ذلك- عن أدواته وخصائصه هو، بل عليه أن يحتوى أدوات وخصائص الجنس الآخر داخله.
- قلت إن الكتابة كائن حى، ويبدو من خلال متابعتى لنصوصك الشعرية والقصصية أنك تأنسن كل ما تقع عليه عيناك.
أنا أرى كل ما حولى كائنات حية، لها مشاعر وأحاسيس، السيارة كائن حى، السحابة، الرصيف، المبنى، عمود الإنارة، حتى النكتة التى تخرج من فم أحد الأصدقاء المجتمعين فى المقهى ذات ليلة شتوية كائن حى، أراها وهى تخرج من الفم عارية، مرتجفة، ومذعورة، لتختبئ بين الطاولات، وربما يدوسها حذاء متسخ. نضج نحن بالضحك، بينما تتعثر النكتة المسكينة فى أعقاب السجائر والمناديل الورقية والبصاق الجاف، كل ما حولى كائنات حية، وربما الشيء الوحيد الميت فى هذه الحياة هو الإنسان.
-القارئ لنصوصك الشعرية سيلاحظ خوفك من الموت، انشغالك به، الموت هاجس بالنسبة لك، لماذا؟ 
لا أخاف شيئا كما أخاف الموت، وكثيرا ما احتضنتنى زوجتى وأنا أهب من النوم مفزوعا، محاولة أن تهدئ جسدى الذى ترتجف كل خلية فيه، ونظراتى التى تدور فى أرجاء الغرفة كأنما أراها للمرة الأولى، وبمجرد أن يتوقف ارتجافى، تبدأ هى فى البكاء مع ترديدى للجملة التى أقولها لها فى كل مرة تهاجمنى فيها هذه النوبة القاسية: ضعى فى قبرى مطرقة كبيرة، لا تتركيهم يغلقون عليَّ القبر دون أن تكون المطرقة بالداخل. ولقد اشتريت المطرقة بالفعل، ووضعتها فوق الكومودينو بدلا من الأباجورة التقليدية، وعبثا حاولت زوجتى تنحيتها جانبا، فلا يمكن أن يغمض لى جفن إلا إذا كانت المطرقة آخر ما أراه قبل النوم، وأول ما أراه عند استيقاظى، وأقصى ما استطاعت أن تفعله هو أن تضعها داخل صندوق السرير قبيل الزيارات العائلية، على أن تعيدها إلى مكانها فوق الكومودينو عقب مغادرة الضيوف.
- ألا يحتاج ذلك إلى تدخل من طبيب ؟
ذهبت إلى عدد من الأطباء النفسيين، وكانوا يسألونني: لماذا تحتاج إلى مطرقة وأنت ميت؟ فأجيب: لأهشم بها القبر عائدا إلى سطح الأرض. هذه هى المشكلة التى تؤرق حياتي: كيف سأتنفس فى حفرة ضيقة؟ وكما فشلت زوجتى فى إقناعى سابقا، فشل الأطباء الذين زرت عياداتهم فى إفهامى أن أنفى سيتحلل، ومن ثم لن أكون فى حاجة إلى التنفس، الموتى لا يتنفسون، هكذا قالوا، لكنى ظللت رغم ذلك أستيقظ شاعرا بالاختناق، وظلت زوجتى تحتضن جسدى المرتجف، وتبكى، حتى فى الشتاء لا أضع أى غطاء فوق جسدى، لأن الغطاء يذكرنى بسقف القبر الذى سيجثم فوقى، وأكاد أختنق من التفكير، مجرد التفكير، فى أن على مقربة منى امرأة تنام ملتحفة بغطاء ثقيل، ثم إننى لا أستعمل المصاعد الضيقة كالقبور.
- لكن بالتأكيد وضع الطبيب يدك على أصل المشكلة.
لقد حدث ذات مرة، وبينما كنت أتصفح أحد المواقع الإخبارية، أن رأيت تحقيقا عن الإشاعة السخيفة التى لاحقت موت الفنان صلاح قابيل، قالوا وقتها إنه قد دفن حيا، إذ هاجمته غيبوبة السكرى فحسبوه ميتا، هكذا دفنوه، وهكذا استيقظ الرجل ليجد نفسه محشورا فى قبر ضيق مظلم، محشورا ووحيدا، لا يستطيع الحركة أو التنفس أو الهرب. أى رعب أصابه فى هذه اللحظة؟ وفجأة برقت فى ذهنى ذكرى بعيدة، انقشعت عنها الغيوم التى كانت تحجبها عنى، كنت فى السادسة أو السابعة من عمرى، وخالتى تقف بجانب أمى فى المطبخ منهمكتين فى إعداد الطعام، وإذا بهما تتسليان بحكى ما حدث للفنان فى القبر، استمعت إليهما بانتباه شديد، قالتا إن حارس المقابر قد سمع صراخا مذعورا يخترق أذنيه، فأخذ يطوف على المقابر دون أن يهتدى إلى مصدر الصراخ الذى استمر فى البداية صاخبا، ثم ما لبث أن أخذ فى الخفوت حتى تلاشى، وعندما فتح الحارس مقبرة الفنان، وجد أن الفنان قد مات بالفعل مختنقا وهو يحاول الخروج، حيث كان كفنه الأبيض ممزقا، وعلى وجهه علامات رعب لم ير مثلها من قبل.
- كيف أثر ذلك على رؤيتك الإبداعية؟
لقد نسيت هذه الشائعة السخيفة تماما بعدها، ونسيت تلك الدقائق التى شاركتُ فيها أمى وخالتى المطبخ، لكن يبدو أن اللاوعى لم ينس ما حدث، وظلت هذه الحكاية تتفاعل داخله، ودون أن أفطن إلى حقيقة ما يحدث كان اللاوعى يصدر إلى حياتى الواعية الكثير من مشاعر الخوف والقلق والرعب والاختناق. لا وعى الشاعر -أيضا- هو الذى يشكل مستقبل القصيدة، وكثيرا ما يكتب الشاعر جملة ما دون أن يعرف لماذا وضعها بهذا الشكل، أو من أين أتت أصلا، وقد يحدث أن تنقشع الغيوم، أو لا تنقشع، فيرى الشاعر أو لا يرى كيف وصلت الجملة إلى القصيدة على صورتها الحالية. 
-على ذكر الموت، هل الموت هو اليقين الأكبر بالنسبة لك؟
ربما لا يعرف الكثيرون أننى كنت سلفيًا حتى النخاع، خلال فترة الدراسة الجامعية، بل وصل بى الأمر إلى تكفير الحاكم، عملا بالآية القرآنية الكريمة: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون». إننى أحمد الله على أن رزقنى الفهم الصحيح لهذه الآية، حدث ذلك بعد موقف سأقصه عليك بعد قليل، وإلا كنت الآن من الإرهابيين الذين يقتلون الناس. كانت لحيتى بطول شبر تقريبا، لا أمتلك صورة لى باللحية، لأن التصوير -بالنسبة للسلفيين- حرام شرعا، وكنت أمشى بين الناس ناصحا مرة، ومهددا مرة، بالضبط كجماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإذا بقدمى تأخذاننى إلى الكورنيش، فأجد فتى وفتاة فى مثل سنى، يجلسان على أحد المقاعد متبادلين الابتسامات الرقيقة والنظرات العاشقة والكلام الهامس، عندها امتلأ قلبى بالغيظ، وتأججت عينى بالشرر، وكدت أن أذهب إليهما مقرعا، وأجبرهما على الانفصال والعودة من حيث أتيا، لولا أن خطر فى ذهنى سؤالان فجأة: هل سأفعل ذلك طاعة وتقربا إلى الله أم إننى حاقد على الفتى لأنه ليس فى حياتى فتاة بمثل جمال رفيقته، ليس فى حياتى فتاة أصلا؟ هل أتمنى أن أكون مكانه؟ توصلت إلى الإجابة قبل أن أقترب منهما، وإذا بغيظى يتحول إلى بكاء، لقد بكيت طوال المسافة التى قطعتها من الكورنيش إلى البيت، وكان أول ما فعلته عقب دخولى هو انتزاع اللحية من وجهى، إلى الأبد، وليس فى ذهنى غير صورة الفتى والفتاة الجميلين. الإرهاب سببه الفهم الخاطئ للدين، لقد قرأت كثيرا عقب ذلك الموقف، وامتلأ قلبى بالرحمة والمحبة تجاه كل ما يدب على الأرض، وتجاه الجماد أيضا!
- حدثنى عن الاختلاف ما بين محمد الكاتب الذى أجرى معه حديثا الآن، ومحمد السلفى الذى كاد أن يتحول إلى إرهابى كما ذكرت.
الاختلاف الأكبر يكمن فى أن الفكر السلفى -كما رأيته وعايشته بنفسي- يهتم بالقشور دون الجوهر، وأنا الآن أهتم بجوهر الشيء لا بقشرته.
- تعبر عن مشاعرك بوضوح، هذا واضح من طريقة كلامك، فهل تعبر عن مشاعر أبطال قصصك بالوضوح نفسه؟
لست مشغولا بوصف مشاعر أبطال قصصى، ولا بالتعبير عما يشعرون به داخل أنفسهم، أترك للقارئ مهمة اكتشاف هذه المشاعر بنفسه، عن طريق الحدث الذى تقوم عليه القصة، وإذا لم يستطع الحدث أن يصدر للقارئ مشاعر بطل القصة فقد فشلت.
- حدثنا عن الملامح العامة أو الخطوط العريضة لمجموعتك القصصية الحاصلة جائزة الشارقة للإبداع العربى هذا العام.
القصص بعيدة عن الواقعية، تجنح نحو الخيال، وإن كانت تتماس مع الواقع من ناحية مقولة بيكاسو: «الفن ليس الحقيقة.. الفن كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة». انطلاقا من المقولة السابقة فالقصص تسلط الضوء على الواقع بكشاف الخيال.
- لماذا الشعر والقصة معا؟
ولمَ لا؟ الكاتبة الهولندية الشابة ماريكا لوكاس رينفيلد أصدرت قبل روايتها الحاصلة على بوكر 2020 مجموعتين شعريتين، والشعراء الذين كتبوا الرواية والقصة، فى العالم العربى و الغربى، قديما وحديثا، أكثر من أن يحصوا.
- ما هى المحطة الأبرز فى حياتك ككاتب؟
أظن إنها حصول مخطوط ديوانى الأول «أركض طاويا العالم تحت إبطي» على جائزة أخبار الأدب، كنت فى بداياتى واحتجت معنويا إلى هذا الدعم، وربما لو لم أجد هذا الدعم والتشجيع ما نشرت الديوان، ولأهملت الكتابة، ثم حصول الديوان نفسه، بعد أن صار كتابا، على جائزة معرض القاهرة الدولى للكتاب فى يوبيله الذهبي.
-فزت بالعديد من الجوائز الأدبية.. فهل تكتب والجائزة نصب عينيك أم تكتب بلا تخطيط لشىء معين؟


من المفترض أن أقول: أكتب دون أن تكون الجوائز فى رأسى، فلا ينبغى أن أظهر أمام الناس ماديا يلهث وراء الأموال، لكنى أومن أن أجمل ما فيَّ هو قبحى، وأقوى ما فى الإنسان هو الضعف الذى يجعل منه إنسانا. نعم، أحيانا كثيرة أضبط نفسى وأنا أكتب قائلا إن ما أكتبه الآن سأقدمه إلى المسابقة الفلانية.
- إذا الجائزة مهمة للكاتب.. هل تعتبرها معيارًا للجودة؟
أحيانا تكون للكاتب قدم داخل الكتابة وقدم خارجها، أحيانا ييأس، بل كثيرا ما ييأس، ويفقد الرغبة فى الاستمرار، ثم تأتى الجائزة لتعيد قدميه إلى الداخل. هى مهمة من باب التشجيع والدعم، ومهمة من باب الأموال، يعيش العالم فى ظل ظروف اقتصادية صعبة، والكاتب مثله مثل الجميع عليه أن يشترى الطعام ليضعه فى فم ابنائه، الأطفال لا يشبعون عندما تضع فى أفواههم قصائد طازجة، ولا الكبار حتى، ولا يستبدل أفراد عائلتك الملابس بالمجاز، لكن الجائزة ليست معيارا للجودة، وكم من كاتب عظيم لم يحصل على شيء، محمد حافظ رجب -رحمه الله- مثلا، تعرض إلى تهميش مقصود أو غير مقصود، لا أعرف، لكنه لم يحصل على جائزة حقيقية واحدة، وسيسقط عدد كبير ممن حصلوا على تلك الجوائز من الذاكرة، لكن اسمه سيبقى خالدا.
- تبدع وتشغل الوسط الأدبى ثم تختفى لفترات طويلة..أين تذهب ولماذا تختفى؟
 الكتابة واليأس لا يفترقان أبدا، وتحتاج أحيانًا إلى الابتعاد لاستعادة عافيتك النفسية، أنت تتحدث عن الاختفاء من الفيس بوك، هذا صحيح، الفيس بوك يصدر الاكتئاب ويعطى طاقة سلبية لمرتاديه، عموما التكنولوجيا عقدت الحياة بقدر ما سهلتها.
- أنت بعيد عن القاهرة المركز الثقافى الأهم، تكتب عن بعد وتعمل بعيدا عن الدوائر الثقافية وتقضى أغلب الوقت فى العمل، كيف أثر هذا على شخصك وأدبك؟
أعتقد أن مركزية القاهرة قد تفتت تماما، هناك الآن كتاب ملء السمع والبصر يعيشون فى طنطا وأسوان والإسكندرية.. إلخ، وكتاب يعيشون فى القاهرة دون أن يسمع بهم أحد، حتى الشلل الثقافية لا تستطيع أن تحمى المنتمى إليها إذا لم يحمل أدوات الكتابة الحقيقية، لقد أزالت التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعى الحديثة الحدود بين الدول، فما بالك بالحدود داخل الدولة الواحدة.

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة