كتب: سمير الفيل
كتب: سمير الفيل


البستان

السريالى الذى فهم الواقع

بوابة أخبار اليوم

الإثنين، 22 فبراير 2021 - 01:58 م

برحيل الكاتب المصرى محمد حافظ رجب، طويت صفحة مجيدة من صفحات التجديد القصصى العربى ناهيك عن المساحة التى شغلها فى بسط تجربته الأصيلة حيث الضرب بسهم وافر فى مناطق لم تطرق فى ديوان السرد المصرى الحديث. وحتى لا يكون كلامى مكررا فسوف أدون هنا بعض ملاحظاتى الشخصية عن عالمه وأيضا لقاءان جريا معه فى زمنين متباعدين.
(1)
فى أواخر الستينيات من القرن الماضى مرق فى سماء القص المصرى شهاب يمثل محاولة مضنية ودؤوبة لتغيير شكل الكتابة فى البلاد. كان بائع الفول السودانى واللب قد توصل إلى طرائق ترميزية للتجريب القصصى، من مكمنه قرب البحر، بالتحديد فى الإسكندرية المدينة العريقة فى زمن كانت مصر تتلفت حولها محاولة أن تقدم نماذج للحداثة فى فنون الكتابة لتخرج عن الأنماط السائدة. كان من أبرز المساهمين فى تلك التجربة محمد حافظ رجب المولود فى العام 1935، وقد تلقف نقاد العاصمة الفتى الغض، وافتتن بعضهم بتجربته، واستدعوه للقاهرة، واقترب كثيرا من السلطة الثقافية غير أنه اكتشف بنفسه أنه لا يصلح للعيش والسكن بالعاصمة المزدحمة فعاد أدراجه لمدينته.
(2)
من مكانى فى دمياط قرأت للكاتب الجديد، وبالفعل كان سباقا فى تجربته التى حاول من خلالها إعادة تنضيد العلاقات النصية، وقدم طرفا من عوالم شيقة، ونماذج لأبطال مغدورين، يكافحون لالتقاط لقمتهم الشريفة.
لم يدخل رواد القصة الكبار فى حالة جدل أو خصام مع الوافد الجديد لكنهم بالقدر نفسه لم يتفهموا تمرده مع اللغة والحدث والشخصيات فتعمقت الهوة بين الطرفين. 
(3)
 فى سنة 1974 جرت محاولة لتشكيل اتحاد كتاب، يرتبط بشكل أو آخر بالسلطة ودولاب الحكومة، فى مقابل ذلك كان ثمة توجه مختلف يحاول طرح طريق بديل بأن يكون الاتحاد حرا، مستقبلا، وهو اتجاه دعمه اليسار المصرى وقد شهدت بنفسى زيارة لجمعية كتاب الغد بمقرها بالقاهرة للحوار مع أدباء دمياط حول هذا المسار فى مقابل هذا أرسلت الدولة كتابا ليطرحوا وجهة النظر الحكومية وكان ممن وصلوا دمياط لمناقشة كتابها الشاعر كمال عمار.
وجاء يوسف السباعى وزير الثقافة المصرى لافتتاح المبنى الجديد لقصر الثقافة بدمياط فاقترح الأدباء عقد جلسة مع الوزير، واختاروا من بينهم الشاعر السيد النماس لعرض أطروحتهم التى قابلها الوزير بتشدد كبير وحدث الصدام بين الطرفين ولم يسفر اللقاء عن تقريب وجهات النظر.
(4)
 فى هذا الجو المحموم، رشحت كمدرس لحضور دورة للرياضيات الحديثة والعلوم بمدرسة نبوية موسى بالشاطبى، وقد حملتنى الجماعة الأدبية مهمة الاتصال برموزها، والتنسيق فى هذا الصدد. وقد صادف هذا حضور يوسف السباعى لقصر ثقافة الحرية.
 توصلت إلى محمد حافظ رجب وكان يعمل بالمتحف الرومانى وعرضت عليه تبنى أطروحتنا وعرضها على الوزير فكان رده على أن موقفه حساس مع هذا الوزير بالذات ومن الأفضل أن أقوم بعرض المقترح بنفسى.
بالفعل، جاءت الجلسة بالدور الأول من المبنى وطرحت على يوسف السباعى فكرة اتحاد الكتاب المستقل فكان رده قاسيا، وصرح أن هذه هى رؤية اليسار وحده. وكانت هناك شاعرة حاضرة أكدت كلامه، وقالت إن حضور اليسار تعدى مصر فوجدتهم فى مؤتمر بالعراق. وصاحبة هذا الكلام شاعرة اسمها فلورى عبدالملك.
(5)
 بقيت طوال دورة التدريب أحضر ندوات قصر ثقافة الحرية فتعرفت عن قرب على عبدالمنعم الأنصارى وعبدالعليم عيسى ومحمد مكيوى، وكان أحمد السمرة يلقى دروسا عن الشعر كما حضرت ندوات قيمة عن الأدب العبرى للدكتور حسن ظاظا. كذلك كانت تربطنى صداقة بأبناء جيلى، ومنهم: أحمد فضل شبلول، جابر بسيونى، مصطفى نصر، رجب سعد السيد، وكنت أنتهز الفرصة للقاء محمد حافظ رجب، وكان قليل الكلام ويشرد كثيرا خلال مناقشتى معه.
كانت إقامتى طول هذه الفترة فى مسكن أعد بمدارس النور والأمل بجناكليس بالقرب من متحف محمود سعيد. 
(6)
 مضت سنوات طويلة، والرجل بعيد عن الحركة الأدبية حتى جاءتنى دعوة من الإسكندرية لمؤتمر للقصة التجريبية، (ربما سنة 2003)، وقررت أن أكتب دراسة مطولة عن مجموعتين للكاتب: «الكرة ورأس الرجل» و«مخلوقات براد الشاى المغلي» أيضا كتبت قليلا عن مجموعة ثالثة هى «حماصة وقهقهات الحمير» والمجموعة الأخيرة لم تلفت نظرى كالمجموعتين السابقتين.
وقد كانت صداقتى قوية بالروائى القاص أحمد حميدة، فاقترح على زيارة محمد حافظ رجب فى منزله، وبالفعل استقبلنا بترحاب كبير، وذكرته بيوم حضورى الإسكندرية ولقائى به، فاسترجع الموقف ولاحظت أنه يعامل حميدة بقدر كبير من الود والمحبة.
(7)
 لى أن أعود لدراستى المطولة عن محمد حافظ رجب فأقتطع فقرة أنهى بها شهادتى، وفيها أقول عن تجربته اللافتة والمؤثرة:
«قد يظن القارىء أن محمد حافظ رجب ينفض يديه تماما من الواقع، ويقع فى أحبولة  التخييل المطلق -وهذا غير صحيح البتة- فقدرة  الكاتب تنتج من إدراكه لعناصر الواقع، والكشف عن علاقاته غير السوية، وعجنها على مهل لتتشكل بعد ذلك فتجمع بين الجوهرى والعابر، بين العالم المعيش والأنموذج المثالى، وأخيرا بين العينى والمتخيل.
كانت الحياة  مرتبكة فى مصر عبر سنوات الستينات، برغم الصعود الثورى، إلا أن رهافة المبدع أدركت الخلل مبكرا، لذا فإن فحص الواقع استدعى الولوج إلى المناطق المسكوت عنها، ولقد تأكد القاص من حدوث ذلك الشرخ بين ما يقال فى الصحف وأجهزة الإعلام الأخرى، وبين ما يراه من تفسخ  تنهار معه القيم الأصيلة للمجتمع الذى يرقب تجاوز مشاكله والتخلص من الأطر الضيقة التى طالما قيدته. تنطوى قصصه على مفارقة تستحق التريث عندها قليلا، وبالرغم من أن البناء كله تخييلى بحت، إلا أن عناصره الأولى، ومادته الخام الأساسية من عناصر واقعية.
إنه يحذف ويضيف، يكبر ويصغر، لكنه لا يهمل الواقع بكل التفاصيل،  فنجد «محطة الرمل» مسرح أحداث العديد من أعماله، وتجد «ترعة المحمودية»، و«سوق المسلة» وفى كل الأحوال ثمة امتزاج كامل يجمع النقائض. إن التواصل مع نصوص الكاتب تتأتى من قدرته على تركيب علاقات إنسانية  بشكل جديد تماما، وبصورة غير جزئية. إن مفهوم الإبداع لديه اتسع بحيث قدم رؤية سريالية لواقع يفهمه ويعيه، واقع يدرك مخاطره والثغرات التى يتسلل منها الخصوم لتحقيق مكاسبهم الصغيرة، دون أن يقع فى شرك الغموض الأسود. 
فلقد حدثت تغيرات كثيرة فى الواقع، أمكنه أن يرصدها ويقدمها فى شكل فنى متماسك، قادر على طرح الدلالة. وبهذا التصور فإن الواقع هو نقطة وثوب لطرح ما يود قوله فى سبيكة فنية انصهرت فيها العناصر جميعها».

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة