محمد الباز
محمد الباز


هذا زمان البوح

حكايات الموت والحياة

بوابة أخبار اليوم

الثلاثاء، 23 فبراير 2021 - 05:53 م

د. محمد عفيفى

«هذا زمان البوح» هو عنوان لسلسلةٍ من المقالات أتعرض فيها لظاهرة البوح لدى بعض الكتاب المتفاعلين مع المجال العام، لكنهم يحِنُون إلى البوح، وربما يتمترسون وراء الرواية وأحيانًا العمل السينمائى وحتى المذكرات أو الذكريات من أجل تمرير هذا البوح.
وكمؤرخ نلاحظ دائمًا بروز هذه الظاهرة فى أوقات التحولات الكبرى فى تاريخ الأمم، سواء كانت هزائم كبرى أو انتصارات، أو حتى ثورات. وربما المثال الأكبر لدينا هو الفترة التالية على هزيمة يونيو، والتى تجلَّت مظاهرها بشكلٍ بارز بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، هى لحظات المراجعة والبوح والفضفضة، وما لا نستطيع أن نقوله عبر آليات المجال العام، ربما نستطيع البوح به عن طريق الحكى والتمترس وراء حيلة «قال الراوى يا سادة».
ومن ناحيةٍ أخرى لا تقل الهزَّات الداخلية والتحولات النفسية أهميةً عن تحولات الوطن، ودفع بعضنا إلى ظاهرة البوح، وفى تاريخنا الفكرى أمثلة على تحول بعض المفكرين من الاتجاه اليسارى إلى الاتجاه الدينى تحت وطأة محنة المرض، وذهب بعضهم إلى البوح عن هذه التجربة.

من أهم الأمثلة الأخيرة حول ظاهرة زمان البوح، تحول الكاتب السياسى الدكتور محمد الباز إلى كتابة الرواية؛ حيث صدرت مؤخرًا روايته «الزينة» عن دار بتانة، وواضح تمامًا لقارئ الرواية أن الدافع الرئيسى وراء الكتابة هو المرور بمحنة المرض والموت للأم، وهى المحنة التى مر بها الباز مؤخرًا، وهى محنة كبرى فى العقل الجمعى المصرى على مر العصور، أقصد بذلك فقد الأم.
وربما يرجع ذلك إلى مكانة الأم فى المجتمع المصري، ولذلك يرى علماء التراث غير المادى أن الأم هى حافظة التراث، ونرى ذلك ضاربًا بجذوره فى التاريخ المصري؛ هل نبدأ بأسطورة الإلهة الأم إيزيس التى تتحول إلى أم لزوجها الإله الأب أوزوريس، وتقوم بجمع أشلائه، وتصبح أيضًا مريم الأم للإله الابن حورس. ويعلم دارس تاريخ المسيحية فى مصر أن قصة مريم الأم والمسيح الطفل سهلت انتشار المسيحية بين المصريين لأنهم ربطوا بينها وبين إيزيس وحورس الطفل، ربما تنطبق الظاهرة على السيدة زينب «أم العواجز»، وسانت تريزا «أم المكروبين».
من هنا يدفع فقدان الأم محمد الباز إلى الخروج من المجال العام والدخول إلى الخاص وزمان البوح، أو ما أسماه هو «سيرة وجع». ومن عتبات النص نلمس هذه الظاهرة- زمان البوح- عبر صورة الأم على الغلاف، متحديًا كل المقولات الوهابية الزائفة المستجدة على المجتمع المصرى من أن «المرأة عورة»، ومع عتبات النص يبدأ الباز البوح: «كانت أمي... وكنت أباها»، عبارة محملة بكل التراث المصرى للأم الذى سبق الإشارة إليه. ويتجلى المعنى أكثر من حيث الأمومة فى حد ذاتها ليست فقط كرسالة إنسانية، ولكن كعبادة إلهية: «كانت تعتبر أن طلباتنا أكثر أهمية من صلاتها لربنا. وهى تصلى العصر مرة، دخل أبى وسألنا: طابخين إيه النهارده؟ بتلقائيةٍ ردت عليه وهى تصلى كما ترد عليه دائمًا: الأكل عندك جوه فى المطبخ ادخل شوف بنفسك. أكملت صلاتها، ضحكنا عليها، عاتبتنا: محدش فيكم فاهم حاجة... ربنا غفور رحيم، إنما نعمل إيه فى الراجل اللى راجع جعان من بره ده»، إنها بحق تجسيد حى للأم المصرية منذ إيزيس حتى الآن، الأم التى «تعشش مش تطفش».
وسيرًا على طريق زمان البوح لا يستنكف الباز، الأستاذ الجامعى والإعلامى الشهير، الحديث عن «أمية» أمه وعدم معرفتها للقراءة والكتابة، ومع ذلك فهى تتمتع بحكمة الأم المصرية، ورجاحة عقل الفلاحة المصرية التى تخرجت من مدرسة الحياة، يتحدث الباز عن قدرتها الفائقة على الإقناع، ويتخيل بعد وفاتها، ولقائها مع ملكَّى الحساب فى القبر، وبلغةٍ أدبية، وخيالٍ جامح، وحنين الابن يقول:
«هل غلبتهما- ملكَى الحساب- بحجتها ومنطقها وعقلها الذى كانت تحيرنا به وهى تتحدث عن كل شيء للدرجة التى كنت تعتقد معها أنها قارئة ومُطلِعَة ومثقفة؟ رغم أنها لم تكن شيئًا من كل هذا أبدًا»
فى هذا العمل الأدبى يصحبنا الباز إلى حكايات الموت والحياة، حتى نكاد نتخيل أن الموت هو الحقيقة الأزلية، ليفاجئنا بحديثه عن حكايات الحياة، لنكتشف أنها اللعبة، لعبة كل يوم، حكايات الموت والحياة، فمن كل حكاية عن الموت ينقلنا الباز إلى حكاية جديدة عن الحياة، فى توظيف جيد لأسلوب شهرزاد، ولادة الحكايات، لتجد الطرافة حتى فى حكايات الموت، التى هى أيضًا حكايات حية.
يحكى عن الأسطى عبد الراضى نعمان- أسطى القرية، هذا الرجل الذى يطلقون عليه العبقرى لأنه يستطيع إصلاح كل شيء- حكاية قبره، لقد قام هذا العبقرى بتصميم قبر خاص له، ويحكى قوله عن منزله القادم- قبره- قائلاً: «إنما يا بت بمناسبة حكاية القبر والخطوة اللى بينى وبينه دى بنيت حتة قبر عجب! مش عاجبنى أنا حكاية إنهم يدفنونى فى التراب، أنا عملت لنفسى كنبة أنام عليها، وحطيت قدامها كرسيين علشان الملايكة اللى هيحاسبونى يقعدوا عليهم، دول ضيوفي، وعيب برضه يقعدوا على الأرض وأنا نايم على الكنبة».


نحن هنا فى الحقيقة على موعد مع التراث الفرعونى للموت الذى ينتقل عبر الزمان فى مخيلة المصرى بصرف النظر عن مستوى التعليم. القبر لدى المصرى هو المنزل الثاني، من هنا كان يضع فيه كل ما يحتاجه بل كل ما يحلو له، وعلينا أن نلاحظ تحفظ المصرى على فكرة الفناء فى التراب، وتأثير فكرة التابوت وحفظ الجثة؛ فالكنبة هنا هى فى مقام التابوت، والكراسى هى لضيوف ما بعد الموت، أو الحياة الأخرى، وربما تتعارض هذه الأفكار مع التراث الإسلامى للموت، لكن يبقى الأثر المصرى القديم فى أفكار أيام ما بعد الموت، الأول والثانى والثالث، والأخمِسة الثلاث، ويوم الأربعين، وفطير الرحمة وغيرها.
والجميل فى هذا العمل الأدبى أن الباز لم ينجر- وبالتالى لم يجرنا معه- إلى أحاديث السياسة، وحتى الزمن يكاد يكون محايداً تشعر أن هذه «الحدوتة» هى قصة كل قرية فى الدلتا أو فى الصعيد، بل وربما فى قرية ما فى قارة ما من عالم الجنوب، وليس هناك إشارات واضحة عن الزمن، فالزمن يتشابه، بتشابه وقائع الصباح والمساء، والموت والحياة فى القرية المصرية. ليس هناك حديث صريح عن الزمن أو عن السياسة، إلا بحديث عرضى عن الإخوان المسلمين والصدام المبكر معهم، سواء مع شيخ المسجد، أو دار النشر التى رفضت نشر أول كتاب له لتعارضه مع «القيم الإسلامية».
كما قلت فى زمان البوح يتمترس الكاتب وراء صيغة العمل الأدبى ليفضفض عن نفسه؛ إذ يحدثنا الباز عن التحاقه بعد الثانوية العامة بكلية طب المنصورة، وعن العام الذى قضاه فيها، وكيف اكتشف أنه لم يُخلَق ليكون طبيبًا، وكيف أصر فى نهاية العام على ترك الكلية والتحويل إلى كلية الإعلام، رغم معارضة الأهل والمعارف، ليصبح هو بعد ذلك الأستاذ الجامعى والإعلامى الشهير.
نصل إلى تصنيف هذا العمل الأدبي، وأتصور أن الباز عندما بدأ الكتابة، وربما حتى بعد الانتهاء منها، لم يهتم كثيرًا بطرح هذا السؤال، وبالتالى الإجابة عليه، فالمبدع لا يهتم بمثل هذه الأسئلة، التى تسترعى عادةً انتباه النقاد. لكن يبقى أن نسأل أنفسنا: هل هناك شكل معين للعمل الروائي؟ أزعم أنه ليس هناك هذا الشكل أو هذه الأشكال، وحتى لو وضع النقاد أُطراً عامة للشكل الروائي، فإن مهمة المبدع كسر هذه الأُطر والبحث عن شكلٍ جديد.
هنا نحن أمام عمل يبدأ وكأنه سيرة ذاتية، لنكتشف أننا أمام حكايات الموت والحياة، على طريقة سرد ألف ليلة وليلة، والأسلوب الشهرزادي، لنصل إلى أنه قصة قرية مصرية، وربما قرية فى جنوب المتوسط، على أية حال نحن أمام أديب جديد لم تنجح السياسة فى أخذه من الأدب، وكان بوحه فى الأدب أعلى من السياسة.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة