محمد أبوالفضل بدران
محمد أبوالفضل بدران


يوميات الأخبار

الصعيد بعيداً عن المزارات السياحية

د.محمد أبوالفضل بدران

الأربعاء، 24 فبراير 2021 - 07:48 م

عندما كنا صغارا كانت البِسلة المتوارثة تحل لنا مشكلات الحسد والخوف والمرض

هل تحتاج مصر فى ظروفها الحالية افتعال أزمات ومشكلات وإثارة نعرات بين الشمال والجنوب؟ إن أبجديات ما يتعلمه أى مذيع أن يحافظ على نسيج الوطن الواحد وأن يبتعد عن المناطق الشائكة التى تفرق أبناء الوطن وأن يعمل على زيادة الوعى لدى الناس وأن يكون محبوبا، لكن بعض الإعلاميين ينسون دورهم ويتعالون على الناس متناسين أنهم يتقاضون مرتباتهم ومكافآتهم من هؤلاء الناس الذين ودّوا أن ينفصلوا عنهم كِبْرا وكأنهم ليسوا من طينة هؤلاء الناس.. يأتى أحدهم ليتحدث عن الجنوب والصعيد وكأنهم دولة أخرى فى حاجة إلى "مينا" ابن سوهاج الذى وَحّد القطرين.. ونسىِ هذا المستذيع أن ما يوجد فى أبعد قرية فى صعيد مصر هو ما يوجد فى أدنى قرية بالدلتا أو المحافظات الحدودية، وأن القرى لم تعد منغلقة على نفسها بل صارت تعيش العولمة بإيجابياتها وسلبياتها، وأن محاولة التفرقة وبث الفتنة بين الصعيد ووجه بحرى جريمة يجب أن يحاكم مقترفها لأن الوطن لا يحتمل أمثال هؤلاء، ولا يتقدم برؤى انهزامية تقضى على الأخضر واليابس. ولعل مرجع الصورة الذهنية السلبية عن الصعيد يعود إلى بعض المسلسلات والأفلام التى تُرضى بعض المشاهدين الذين تكونت لديهم صورة الصعيد المتخلف الغبى من تجار الآثار والأسلحة وزارعى المخدرات، وكأن الصعيدى يتعاطى المخدرات ويبيع الآثار ويقتل بالأسلحة أبناء عمومته يوميا؛ هذه الصورة النمطية التى ترسخت فى الذهنية الجمعية عن الصعايدة أسهم فيها- للأسف- بعض الصعايدة أيضا حتى يسيروا مع الموجة الغالبة، ولعل من الطريف أن 90٪ من النكت على الصعايدة يؤلفها صعايدة! وكم أود أن يتصدى علماء الاجتماع وعلم النفس والإعلام لهذه الظواهر التى أوجدت طبقية ذهنية بين أفراد المجتمع فيلجأ الصعايدة للدفاع عن أنفسهم أمام كل حادثة وأمام كل دَعِي..حبذا لو قامت الجامعات بدراسة هذا التغييب البحثى عن مشكلات التفرقة والعنصرية بين أفراد المجتمع الواحد أسبابًا وكيفية معالجتها، وأن يأخذوا هؤلاء الإعلاميين فى دورات علمية حتى يناقشوا ويستمعوا للوقوف على الحقيقة وأن يأخذوهم فى رحلات إلى محافظات مصر بالقطار العادى وليس بالطائرات وأن ينزلوا بعيدا عن المزارات السياحية والفنادق الفخمة بل فى القرى والنجوع ليقفوا على مشكلات الناس الحقيقية وعلى أرض مصر بكل ما فيها من جمال ومن سلبيات فهم ليسوا فى حاجة إلى مرشد سياحى وإنما مرشد وطنى يعلمهم احترام هذا الشعب بكل محافظاته وبكل وألوانه وأديانه ومذاهبه،وربما كانت هذه الحوادث المفتعلة جرس إنذار إلى إبعاد هؤلاء من الإعلام لأن دور الإعلام مساندة الدولة لكننا أُصبنا ببعض الإعلاميين الذين فى حاجة لدولةتساندهم فصار الميزان مختلا لأن هؤلاء لن ينفعوا الدولة بل يضرونها،لأن المواطن لن يصدقهم حتى لو عرضوا أشياء حقيقية وهناك طفرة إيجابية ملحوظة فى قنواتنا التليفزيونية (ماسبيرو) أداء وصورة لكنها تحتاج إلى وجوه جديدة.
    بَركَات الِبسْلة
ربما جاءت لفظة البِسْلة (بكسر الباء وتسكين السين) مِن البسملة؛ وفى مادة بَسَل نجد بسل البطل فى المعركة أى أظهر شجاعة، ما علاقة هذا بالبِسْلة وطقوسها فى صعيد مصر؟ عندما كنا صغارا كانت البِسلة المتوارثة تحل لنا مشكلات الحسد والخوف والمرض فإذا ما جرى كلب عضّاض خلف أحدنا ونجا منه أو لم ينج منه فإن الأم تأخذ طفلها إلى مكان "الَخلْعة" أى مكان الخوف وترش فوق رأسه وهو جالس البِسْلة المكونة من حبوب (بذور) مخلوطة يصل عددها إلى أربعين نوعا من البذور والحِنة والملح وقد تكون مصحوبة بالبخور فى حالة المرض مع أدعية تقال من الأم أو الأخت الكبرى وهى تلفّ حول الصبى، كانت هذه البسلة طقسا لطرد الخوف من الصبى مع شُرب الحلبة الباردة، فإذا ما جئت لأمك أوْجدتك واشتكيت من ظهور عفريت لك فى الطريق أو جان (وهذا كله من مخيلة الصبى ونتيجة التراث الشعبى الذى يُملأ به عقل الطفل) هنا تكون البِسلة، وعندما يصفَر وجه الطفل لمرض أوحسد أو خوف فإن البسلة، تكون مصحوبة بأدعية منها:"رقيتكْ، واسترقيتكْ.الحِنّة فرحةْ عيالكمْ، والدقيق زادكُمْ، والملح حِياقكمْ، رقتيك واسترقيتك ؛ يا مَلح يا ملوحْ، خُد النّكد وروحْ،، الشمس طلعت، خَروجْ خروجْ، زى ما خرج الحمام من البروجْ، زى ما خرج سيدنا داوود، ضربناك بالرصاصْ عدّيت البحر الغطاسْ، ولا ليك جتّه ولا راسْ، من عين اللى شاف ولدي، ماصلاش على النبي، خروجْ خروجْ، خروج خروجْ" ولا أدرى حتى اليوم لمن كانت توجّه كلماتها.كانت أمى رحمها الله ترددها وهى ترش البسلة وكأنها تلقى قصيدة، وقد توارثت أختى هذا الطقس الجميل.
والملاحظ هنا أن مكونات البسلة تختلف من محافظة لأخرى، فهناك بسلة لُقَم الحِبال السبعة، واللقمة هنا معناها الربطة الدائرية بحبل على بوص (عيدان) الذرة الناشفة المكون منها سباتة يستظلون بها من هجير الصيف فى الصعيد، يُحضرون سبعة لُقم من السباتة ثم يشعلون فيها النار والطفل يخطو عليها مع قراءة التعاويذ مثل المعوذتين، وإلقاء الملح وما يحدثه من "طرشقة"جميلة،وهناك بسلة تتكون من سبعة أرغفة من بيوت مختلفة شريطة أن يكون لهذا البيت ولد يسمى محمد تبركا بالاسم العظيم  للرسول الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهناك بسلة من سبعة بذور كالحِلبة والجلبان والقمح والشعير والفول والأذرة والعدس وهذا الخليط يكوّن شكلا جماليا ونثره فوق رأس الطفل لا تمحوه الذاكرة ويتضح قداسة الرقم 7 وارتباطه الدينى بالسبع المثانى وسبع سموات وسبع أرضين، والحِنة وارتباطها بالفرح والبهجة ورائحتها ذكية، والملح وما يشير إلى إطفاء نار الغيرة والحسد فى عيون الحاقدين وما تزال أختى تبسّل لأطفالنا ونحن ننظر لها ولطقوسها مبهورين.
    الكتب والمذكرات الجامعية
من آفات التعليم الجامعى المذكرات الجامعية وهى مذكرات يبيعها أعضاء هيئة التدريس للطلاب لأنها تجعل الطالب رهين وريقات يوزعها الدكتور دون أن يجعله باحثا عن المعرفة والعلم فى الكتب والمراجع والمصادر الورقية والإلكترونية، ويرى أساتذة الجامعات أنها مصدر دخل إضافى يعينهم على تحمل تكاليف الحياة وهذا كلام حق من الممكن تحقيقه من خلال شراء الجامعة حقوق التأليف والملكية الفكرية من الأساتذة وإتاحة هذه الكتب كمصادر بالمكتبة مع تحسين دخول أعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم وموظفى الجامعات حتى يقوم أعضاء هيئة التدريس بدورهم الريادى فى التنوير والتعليم، لقد انتهى عصر المذكرات والملازم إلى عصر المعرفة وهذا حق الطالب الذى ينبغى أن ينافس خريجى الجامعات الأخرى.
    المستشار أبوالمجد عيسى:وداعا
برحيل المستشار ابوالمجد عيسى رئيس محكمة الاستئناف السابق يفقد القُضاةُ شيخَهم الجليل الذى كان رمز العدل فى أحكامه التى صاغها بلغة الأديب بلاغةً وفصاحة وكان مثلا لشموخ القاضى فى شجاعة أحكامه العادلة وحِكمة كلماته الموزونة وكأنه ورث حِكمة القُضاة أسلافه فكان أنموذج القاضى جوهرا ومظهرا ؛وكم أود لو جُمعتْ أحكامه ومناقشاته الرسائل الجامعية لتُدرّس فى الجامعات فى دروس البلاغة والقضاء، فقد كنت أقرأ أحكامه فأراها نصا أدبيا تعلوه الحكمة ويجلوه البيان، وأقول لأبنائه :ما مات من كانت هذه سيرته وما مات من أنجبكمْ، وأقول لتلاميذه: ما مات من علمكم، فأنتم امتداد طيب لما غرس فيكم من قولة الحق وإرساء العدالة.
    فى النهايات تتجلى البدايات
لم يبق من قرطبةغير شاهد قديم :
"بأربعٍ فاقت الأمصارَ قرطبةٌ
منهنّ قنطرةُ الوادى وجامعُهـا
هاتان ثِنْتَانِ والزّهراء ثالثـــةٌ
والعلمُ أعظمُ شيء وهْو رابعها"
لم يبق غير الشعروكفّ مَن صاغَهُ
بَنانُ ولاّدة مُلامسٌ بَنَانه
يتناجيان،تهمس فى أذنه :
"أغارُ عليكَ من عيْنى ومنّى
ومنكَ ومن زمانك والمكانِِ
ولو أنى خَبَأْتُكَ فى عيـونى
إلى يوم القيـــامةِ ماكفاني"
فيهمس فى أذنها:
"إن غبتِ لم ألق إنساناً يؤانسنى
وإن حضرتِ فكلّ الناس قد حضرَ"
لم يبق فى قرطبةغير شاهدٍ قديم
-وَارَوْهُ بين ساحةٍ مهجورةٍ - لشاعرٍ وشاعرة.
سأبيعُ أوراقَ القصيدة ِللعَدَمْ !
فلامينكو
أتمشّى فى ساحةِ الرملةِ
كانت الفتياتُ يرقصنَ
دكّتِ الفتياتُ الأرضَ بأقدامهنَّ
ودكت جماجمَ ابنِ الخطيبِ ونزهةَ المشتاقِ وابنَ زياد
وكنتُ الوحيدَ الطريدْ !
ينـزّ الثرى ويخرجُ دم، وتعلو الجماجم ُفى ساحة النصرِ
يختلط الرقص ُبالدم والأوراق
تُذْكى النارُ أوراقَ الفتوحات
يا ابن العربى : لماذا لم تدوّنْ بسِفْرِكَ هذا الفناء
تسيحُ البلاد ويأتيك رَهْطُ الملائك ألم يخبروك بما سوفَ يأتى ؟
لماذا كتمتَ ؟ فيصرخُ فيّ :
"أدينُ بدين الحبّ أنَّى توجهتْ
ركائبه، فالحبّ دينى وإيماني"
تضرم النار بسّامَ الجزيرةِ، عمدةَ ابنِ رشيق، أقوالَ القصيدة
ترقص الفتيات وسط الدماء ووسط الحريق
يضيء الحريقُ ظلامَك غرناطةُ !ويبقى الفناءْ !
"لو أستطيعُ
أن أملأ الأنهارَ من عذابي
لارتفعتْ مياهُ النهرِ للسماء"

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة