المصرى أفندى يتوسط التابعى وصاروخان وهما يحملان لافتة « آخر ساعة »
المصرى أفندى يتوسط التابعى وصاروخان وهما يحملان لافتة « آخر ساعة »


الصراع على «المصري أفندي».. بين التابعى وروز اليوسف وصاروخان

عاطف النمر

الأربعاء، 24 فبراير 2021 - 08:24 م

 

 

فى 7 مارس 1932، ظهرت على صفحات "روز اليوسف" شخصية "المصرى أفندى " الكاريكاتورية بطربوشه ونظارته السميكة، والسبحة فى يده، وقد لعبت هذه الشخصية الكاريكاتورية دورًا هائلاً فى السياسة المصرية على مدى سنين طويلة، ودخلت فى مواجهات ومعارك وصدامات مع الزعماء والساسة، انتهت فى كثير من النيابات والمحاكم والسجون، فكيف ولدت شخصية " المصرى أفندى " الكاريكاتورية التى جسدتها ريشة الرسام الأرمنى " صاروخان " الذى لم يكن يعرف شيئًا عن الشخصيات السياسية، ولا يعرف من العربية سوى بضع كلمات ؟!

لم تكن شخصية "المصرى أفندى" الكاريكاتورية ابتكارًا، وإنما كانت اقتباساً من صورة للرسام الإنجليزى ستروب منشورة فى "الدايلى اكسبريس"، وكانت الصورة لرجل قصير يضع على رأسه قبعة ويمسك فى يده مظلة، فجرى تمصير الصورة، رفعوا القبعة من فوق رأسه، ووضعوا مكانها الطربوش، ورفعوا المظلة من يده، ووضعوا مكانها المسبحة، ولم يكن صاروخان هو صاحب الاقتباس، وإنما الذى فعلها هو الأستاذ محمد التابعى والسيدة روز اليوسف، وكانت مهمة صاروخان الرسم فقط، فرسم " المصرى أفندى" حسب التصور الذى أوضحه له التابعى وروزاليوسف، وكان التابعى يضطر فى كثير من الأحيان إلى الوقوف أمام صاروخان ويمثل له المشهد المطلوب بحركة اليدين وملامح الوجه !

كان لقاء صاروخان بالتابعى نقطة تحول فى حياة صاروخان، كان التابعى وقتها رئيساً لتحرير مجلة "روز اليوسف"، وكان اللقاء صدفة فى ورشة الحفار الأرمنى بربريان التى يصنع فيها الإكليشيهات، وكان صاروخان ضحية شاب مصرى من المنصورة قابله فى مدينة فيينا عاصمة النمسا، وأوهمه أنه صاحب جريدة كبيرة فى مصر واتفق معه على أن يعمل رسامًا فى جريدته بمرتب كبير، وصدق صاروخان الطيب القلب هذا النصاب وركب الباخرة إلى الإسكندرية، ثم ركب القطار إلى القاهرة، وأخذ يبحث عن الشاب صاحب الجريدة الكبيرة حتى اكتشف الحقيقة، وعاش فى القاهرة حياة قاسية يبحث عن عمل، فكان لقاؤه بالتابعى فى ورشة الحفار الأرمنى بربريان هو نقطة التحول فى حياته، وكانت " روز اليوسف " تنشر صورًا كاريكاتورية على غلافها، فطلب صاروخان من التابعى أن يتيح له فرصة العمل فى "روز اليوسف "، وقال التابعى إنهم لا يعينون رسامين فى المجلة ولكنهم يشترون منهم الرسم بالقطعة، فأخذ صاروخان يتردد على المجلة ويعرض الكاريكاتير فيختارون منه أو يرفضونه، وذات يوم سأله التابعى : " لماذا لا ترسم الكاريكاتير السياسى ؟ "، ورد صاروخان : " كيف ؟ "، وأجابته السيدة روز اليوسف مع التابعى فى نفس واحد : " سنريك كيف ترسم الكاريكاتير السياسى".

وتروى السيدة روز اليوسف فى مذكراتها عن صاروخان وبداية عمله فى المجلة، وشخصية " المصرى أفندى " فتقول : " كانت مجلة " الكشكول " هى التى تناصبنا العداء فى ذلك الوقت، وكانت تتميز علينا بشيء واحد هو الرسم الكاريكاتورى، الذى كان يرسمه لها الرسام الإسبانى " سانتس " الذى كان يرسم لنا بعض رسومه أيضاً، ولكن ارتباطه بالكشكول كان يحول دون أن يتفرغ لإجابة مطالبنا، وأخذنا نفكر فى رسام يمكن أن يملأ هذا الفراغ ، وتذكرت أخيرًا ذلك الرجل الأرمنى القصيرالذى كان يصعد خمساً وتسعين درجة ليصل إلى مقر المجلة القديم، وقد حمل فى يده نكتة قام برسمها، وكنا ننظر إلى النكتة فنجدها قديمة، أو لا تعجبنا، فيعود هابطاً السلم الطويل، وأرسلت فى استدعاء صاروخان، الذى كان لا يعرف شيئًا عن الشخصيات السياسية المصرية، ولا يعرف العربية إلا لمامًا، فأحضرنا له نماذج من رسوم " سانتس " للشخصيات المصرية، وكان التابعى يفقد أعصابه عشر مرات قبل أن يفهمه فكرة صورة واحدة، ثم يرسمها هو على عكس ما نريد، فيعيد المحاولة حتى أصبح صاروخان بعد مجهودات جبارة رسامًا كاريكاتوريًا كبيرًا.

وتقول السيدة روز اليوسف : " كانت مجلة " الكشكول " ترسم شخصية "جحا " وتوظفها سياسيًا، وأردنا أن تكون لنا شخصية أخرى، تنطق فى الكاريكاتير برأى المجلة، وكانت لدينا مجموعة كاريكاتورية من الصحف الأجنبية وجدنا فيها - أنا والأستاذ التابعى - شخصية رجل يشبه "المصرى أفندى" يلبس قبعة ويحمل فى يده مظلة، فاقتبسنا شخصيته بعد أن ألبسناه " الطربوش "ووضعنا فى يده " المسبحة " وبدأ صاروخان يرسم " المصرى أفندى " الذى ظهر لأول مرة على صفحات المجلة عام 1932، ومازلت أذكر لصاروخان كلمة سخيفة، فقد حدث بعد عدة سنوات أن خرج الأستاذ التابعى من مجلة روز اليوسف وأخذ معه معظم محررى المجلة، ووقع صاروخان فى حيرة..هل يبقى أم يخرج ؟.. كان يوقع معى فى الصباح عقدا، ويوقع مع التابعى فى المساء عقدا آخر، ثم استقر على البقاء مع التابعى، وحدثه فى ذلك بعض أصدقائى وسألوه :كيف تترك المجلة التى لمع فيها ؟ فقال : " يا خبيبى كل اللى كانوا فيها طلعوا.. وأنا خايف ( روز اليوسف ) تموت ! ولم تمت روز اليوسف طبعا، وقد مضت عشرون سنة، على خروج صاروخان قبل أن يعود إلىّ ويرانى ثانية ليطلب منى شهادة بأنه كان يعمل عندى، كى يحصل على الجنسية المصرية، وأعطيته الشهادة المطلوبة بقلب لا حزازة فيه "، وعندما خرج صاروخان من روز اليوسف إلى "أخر ساعة " أراد أن ينقل معه شخصية " المصرى أفندى "، وثار خلاف بينه وبين السيدة روز اليوسف التى أصرت على أن تبقى هذه الشخصية الكاريكاتورية لمجلة " روزاليوسف "، ووصل الخلاف إلى حد التفكير فى الالتجاء إلى القضاء للفصل فى أيهما أحق بنسب " المصرى أفندى "، لصاحب الفكرة الذى "اقتبس " ؟ أم لصاروخان الذى رسم ؟.. وكلف صاروخان محاميا إنجليزيا لرفع القضية، ولكن السيدة روزاليوسف أخرجت له نص محضر تحقيق أجرته النيابة عندما استدعت صاروخان ذات مرة لسؤاله بخصوص (نكتة) سياسية رسم فيها المصرى أفندى، وكانت السيدة روز اليوسف قد ذهبت معه لحضور التحقيق، وسألته النيابة : " من صاحب فكرة هذا الرسم ؟ "، فقال صاروخان : " السيدة روز اليوسف "، وسألته النيابة : " وشخصية المصرى أفندى ؟ "، فقال صاروخان : " برضه بتاعهم.. وأنا بارسم اللى يقولوه ! "، وعندما فوجئ محامى صاروخان بهذا التحقيق تراجع عن القضية ولم يرفعها.ويذكر مصطفى أمين أن صاروخان كان يرسم الكاريكاتير ويضع الأستاذ التابعى النكت تحتها، وكان يتقاضى 50 قرشا ثمنا للرسم، ثم أصبح صاروخان يرسم الكاريكاتير السياسى، واستطاع أن يقتلع الرسام الأسبانى "سانتس "من عرشه، وأصبحت رسوم صاروخان حديث مصر، كانت رسومه تسخر من الزعماء، وتهزأ من الطغاة ورؤساء الوزارات، ثم انتقلت رسوم صاروخان من روزاليوسف إلى آخر ساعة وإلى أخبار اليوم، واستمر يبدع فى فنه وسخريته، وقرر صاروخان أن يهاجر إلى الاتحاد السوفيتى مع الأرمن الذين دعوا إلى هناك، وعبثا حاولت إقناعه أن يبقى فى مصر، واقتنع أن يكلف صديقا له أن يسافر إلى هناك مع المهاجرين، فإذا سُرّ بالحياة فى الاتحاد السوفيتى أيام ستالين كتب له خطابا بالحبر الأحمر، أما إذا كانت حياة المهاجرين الأرمن سيئة هناك، فيكتب إليه بالحبر الأسود، وبعد شهور تلقى صاروخان خطابا من قريبه يقول فيه إن الأرمن سعداء كل السعادة بإقامتهم، وإن كل الذين هاجروا يأسفون أنهم لم يسافروا منذ سنوات طويلة فى الجنة، وأنهم يعيشون فى نعيم مقيم، وفى نهاية الخطاب حاشية صغيرة مكتوبة فيها : " نأسف للكتابة بالحبرالأسود لأن الحبرالأحمر قد نفد "، وفهم صاروخان وبقى فى مصر التى اعتبرها وطنه الثانى.
سعيد أبو العينين
« آخر ساعة » - 22 مايو 1996

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة