جمال فهمي
جمال فهمي


من دفتر الأحوال

غرائز الناس وعقولهم

جمال فهمي

الخميس، 25 فبراير 2021 - 07:26 م

للمخرج الألمانى الكبير فريتز لانج (1890−1976) فيلم عبقرى أنجزه فى العام 1934 بعدما تمكن مثل مئات المبدعين والكتاب والعلماء الألمان من مغادرة وطنه حيث استقر فى الولايات المتحدة هاربا من بشاعة حكم هتلر ونظامه النازى، هذا الفيلم حمل اسم «هيجان» وهو مستوحى من قصة حقيقية حدثت فى وقت معاصر لإنتاجه.

 

الفيلم الذى كان أول أعمال لانج فى هوليوود، حمل رسالة واضحة، تنبه بقوة لخطورة اللعب على غرائز الجماهير والتلاعب بمشاعرها وتغييب عقولها بالزيف والتزوير، إذ يحكى حكاية مواطن مسالم لم يُعرف عنه قط أنه خاض أو تسبب فى أية مشكلة، لكنه فجأة يجد نفسه معتقلا بتهمة ثقيلة هو برىء منها، وإذ يعجز الرجل فى البداية عن إثبات هذه البراءة فإنه يواجه فى الآن نفسه غضبا شعبيا هائلا ينفجر ضده كأثر مباشر لحملة تحريض وتعبئة غوغائية و"ديماجوجية" واسعة وملحة جدا على رؤوس الناس، هذه الحملة قادها عدد قليل من فقراء الحس الإنسانى ومعدومى الضمير الذين دبجوا خطب التحريض النارية ضد هذا المتهم البريء وألقوها على مسامع بسطاء البلدة، فأشعلوا النار فى صدورهم وغيَبوا وعيهم تماما وأسكروهم بالهياج واستثاروا فيهم نزعات العنف والانتقام الأعمى، حتى أنهم فى غمرة جنون الغضب تجمعوا خارج مبنى السجن المحبوس فيه الرجل، يريدون إحراقه وإخراجه منه وقتله، من دون أن يتوقف واحد عاقل منهم لحظة واحدة ويسأل نفسه: إن كان هناك احتمال بوجود ثمة خطأ قد يرجح براءة هذا المتهم.

 

هنا يبدو الإسقاط واضحا جدا على تأثير جهاز دعاية وإعلام النازى على الجماهير الألمانية المخدوعة إلى درجة استخدامها كأداة طيعة فى يد النظام لارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية بل وضد ألمانيا وشعبها أيضا.

 

يمضى الفيلم بعد ذلك، وقد عرض حالة موت العقل تحت وطأة الغرائز المثارة بفعل فاعل، إلى استعراض كيف يهزم عقل شخص واحد، آلاف الأشخاص الذين تغيبت عقولهم وتشوه وعيهم، فيتتبع كيف أنقذ الرجل البرىء نفسه وأفلت من حال الهياج والجنون الجمعى، مستخدما عقله، فقد هرب من السجن ونفذ خططا محكمة أدت لقلب الأوضاع رأسا على عقب، فبالحيلة وحسن التدبير استطاع أن يتلاعب بكل الذين ظلموه وزجوا به فى غياهب السجن وأقحموه فى جريمة لم يقترفها، لقد جعل من ممثلى النيابة وقضاة المحكمة بل والقانون نفسه، مجرد أدوات فى يده وسخرها جميعا للحصول على حكم قضائى قضى أخيرا ببراءته.

 

صحيح أن ما فعله الرجل للوصول إلى هذه النتيجة وتلك النهاية السعيدة لقصته المحزنة، كان كله أو أغلبه تصرفات وأفعالا غير مشروعة ومخالفة للقانون الذى كان سيسخر لإنزال عقاب قاس به رغم براءته، إلا أن فريتز لانج أراد بهذه المفارقة الصارخة أن يقول صراحة من خلال حكاية الفيلم إن الظلم المسلح بالغوغائية والتزوير.. ربما أحيانا لا سبيل لرده وهزيمته وكشف الحقيقة وإقرار العدل إلا باستخدام الحيل والألاعيب غير المشروعة.. إنها باختصار، مجرد دفاع طبيعى عن النفس وفعل اضطرارى من المظلومين يكتسب مشروعيته من قسوة وخشونة الظالمين.

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة