توغل هيمنجواى
توغل هيمنجواى


على خطى همينجواى فى كوبا

أخبار الأدب

الأحد، 28 فبراير 2021 - 05:36 م

 

هايدى عبد اللطيف

أمبوس موندوس.. بين عالمين
استيقظت صباح ثانى نهاراتى فى هافانا، أفكر فى صاحب «العجوز  والبحر»، أمر يحدث كثيرًا، أن أصحو فى منتصف نومى لأدون جملًا تتردد فى رأسى عن تغطية صحفية أكتبها، وأحيانًا تأملات أخرى لا أجد مساحة لمشاركتها سوى مواقع التواصل الاجتماعى خصوصًا «فيسبوك». أمسكت مفكرتى الصغيرة التى أضعها بجوارى وشرعت فى كتابتها وأحضرت مقالات من حقيبة يدى، كنت قد طبعتها قبل سفرى، عن أماكنه المفضلة فى هافانا، لأعيد قراءتها.
 لا أعرف لماذا قمت من نومى وهو يسيطر على تفكيرى، فهل كنت أحلم به مثلًا وهو مَن أيقظنى، عادة أتذكر ما أراه فى منامى، مع ذلك لا يمكننى استرجاع ما رأيته ليلتها. فهل زارنى فى أحلامى مرتديًا بنطلونه القصير بينما نصفه العلوى عارٍ إلا من زغب شعر صدره الأبيض، كما تشاهده فى صوره، ممسكًا بكتاب أو بالكأس فى يده ويجلس على كرسيه الأبيض فى شرفة بيته يدعونى لزيارته.
كنت أنوى فى ذلك اليوم استكمال جولتى فى وسط المدينة لأتعرف أكثر إلى هافانا، وأزور أهم متاحفها ومصنع السيجار الشهير بارتاجاس، وأجلت زيارة بيت هيمنجواى الواقع فى أحد ضواحيها وبقية المزارات المرتبطة به ليوم آخر، بل اتفقت مع صاحب الشقة التى أسكنها، أن يرسل لى سيارة لتصحبنى إلى فينكا. وبالرغم من نومى متأخرةَ فى الليلة السابقة، صحوت فى الخامسة صباحًا، مشغولة به، فأعددت قهوتى وجلست فى الشرفة أتنسم هواءها البارد القادم من جهة الماليكون فى أحد صباحات أواخر فبراير. أمسكت إحدى المقالات التى طبعتها قبل سفرى لأعيد قراءتها خلال الرحلة، وكانت حول فندق «أمبوس موندوس»، ويعنى بالإسبانية « كلا العالمين» فى إشارة إلى العالم القديم (أوروبا وآسيا وأفريقيا) والعالم الجديد (الأمريكتين). وتأسس فى العام 1924 أى قبل أربع سنوات من زيارة هيمنجواى الأولى لكوبا، وكان فى ذلك الوقت واحدًا من أفخم وأرقى فنادق العاصمة القديمة.  كانت المقالة تتحدث عن غرفته رقم 511، وكيف حولتها إدارة الفندق إلى متحف مصغر يخلد ذكرى إقامة الكاتب الأمريكى فيها. ورغم أن الغرفة لا تفتح للزيارة قبل التاسعة صباحًا، كما أبلغونى فى اليوم السابق، قررت الذهاب مبكرًا لأكون أول من يدخلها قبل أى سائح آخر، لأحظى بزيارة منفردة لها وبوقت خاص مع صاحبها، فلم أكن أرغب فى تكرار ما حدث معى فى لابوديجيتا، وهذا ما حدث بالفعل.
 وصلت الفندق فى الثامنة إلا الربع، وسألت فى مكتب الاستقبال عن كيفية الصعود إليها، فطلبوا منى الانتظار حتى يحين موعد فتح الغرفة للجمهور، حينها قررت استخدام المفتاح السحرى وهو عملى بالصحافة، وشرحت لهم أننى صحفية مصرية أكتب مقالًا عن هيمنجواى، وأعترف أننى حتى تلك اللحظة لم أكن أنوى الكتابة عن رحلتى، وكانت زياراتى لكل ما يتعلق به، إرضاءً لفضولى كقارئة له قبل أن تكون مهمة عمل، ولكننى أعرف أن الصحافة هى السلطة الرابعة والكلمة التى تفتح الكثير من الأبواب حتى فى هافانا. وبالفعل تم الاتصال بالموظفة المسوؤلة عن الغرفة التى جاءت لتصحبنى بعد أن دفعت قيمة تذكرة الزيارة وهى 5 كوك. صعدتٌ مع السيدة الشقراء فى المصعد القديم الذى يعمل منذ بناء الفندق فى العشرينيات، فكل شيء فى كوبا قديم لكن تتم صيانته ليحافظ على شكله وجودة أدائه.
وصلنا إلى الطابق الخامس، وفى الحائط المواجه للمصعد، تقرأ بالإسبانية (فى هذه الغرفة أقام الروائى إرنست هيمنجواى خلال عقد الثلاثينيات)، كُتبت الجملة على لوحة خشبية، تحتها نحت بارز لوجهه ولحيته الشهيرة، وإلى جوارهما صورة أخرى له مع إحدى قططه، ثم مستطيل خشبى كبير، يضم صورته وهو يكتب على طاولة ممسكًا بالقلم فى يده، وأسفلها ثُبتت آلة كاتبة حقيقية على القطعة الخشبية ذاتها. وفى الزاوية أقصى اليمين تقع الغرفة 511 التى دُوِنَ رقمها على مربع صغير من الخشب، وضع إلى يسار الباب.
كانت الموظفة الشقراء واسمها إسبيرانثا التى تعنى بالإسبانية أمل، تتحدث عن صاحب الغرفة عند وصوله لأول مرة إلى ميناء هافانا، وكنت وحدى معها ولم يكن أحدُ غيرى، كأن الدعوة لهذه الزيارة جاءتنى من صاحب الغرفة لتمنحنى أملًا جديدًا فى تحقيق حلم قديم بالكتابة عن رحلاتي.  فى تلك اللحظة، وهى تفتح الباب، هبت نسمة باردة من النافذة المفتوحة باتجاه الميناء، فهل كانت روحه ترحب بى فى « كلا العالمين»؟!
أمام الباب تقع خزانة الملابس، لكننى لم أنتبه لوجودها إلا لاحقًا، فقد اتجهنا مباشرة إلى داخل الغرفة، كما أننى كنت مأخوذة بفكرة أننى أقف فى حضرة المكان الذى قضى فيه الكاتب الأمريكى نحو سبع سنوات غير متصلة. تملكنى شعور يجمع بين السعادة والرهبة، والرغبة فى التشبع كلية بما أعيشه، ثم غمرنى ضوء النوافذ الثلاث الكبيرة المفتوحة وأشعة الشمس التى تملأ المكان، حينها أدركت أن هناك شيئًا ما اختلف فى رحلتى، وقررت أن أسجل بهاتفى كل ما تقوله إسبيرانثا بالإسبانية ليكون نواة مقال عن هيمنجواى فى كوبا، وبدأت فى التقاط الصور.
تحوى الغرفة ثلاث نوافذ، واحدة إلى اليمين واثنتان فى المواجهة، أما ناحية اليسار فيوجد السرير والحمام. وقفنا إلى يمين المدخل بجوار خزانة زجاجية تضم أرففها مؤلفات هيمنجواى جميعها تقريبًا، «العجوز والبحر»، «ثلوج كليمنجارو»، «عبر النهر ونحو الأشجار»، «الموت بعد الظهر» أن تملك وألا تملك»، ومجموعتين من القصص القصيرة وغيرها. واللافت أن نسخ الكتب المتوفرة كلها تبدو قديمة، ربما من الطبعات الأولى لأعماله، وبلغات متنوعة من بينها الروسية والفنلندية. وأعلى الخزانة، استقر نموذج مصغر دقيق الصنع لقاربه «بيلار».
تحدثت إسبيرانثا عن كيفية عثوره على هذا الفندق بالمصادفة خلال زيارته الأولى فى عام 1928، حيث كان يتجول فى المدينة القديمة ونال إعجابه؛ لأن غرفه تطل على المدينة القديمة والميناء معًا. وعندما تكررت زياراته إلى كوبا بعدها بأربع سنوات، كان دائمًا يقيم فى تلك الغرفة التى تحوى أفضل إطلالة. وفيها كتب أجزاء من ثلاثة كتب، هى» الموت بعد الظهر» و»تلال أفريقيا الخضراء» و»أن تملك وألا تملك»، وذلك خلال سنوات الثلاثينيات وحتى انتقاله إلى فينكا بيهيا. وأضافت أن  أغراضه الشخصية المعروضة فى الغرفة تمت استعارتها من بيته هناك، من بينها الآلة الكاتبة والملابس الموجودة فى الخزانة واللوحات التى تزين جدران الغرفة، وهى نسخ غير أصلية من مقتنياته الفنية، التى ضمت أعمال الفنانين خوان ميروه وبابلو بيكاسو وخوان جريس وأندريه ماسون وبول كلى، وقد اصطحبت أرملته مارى ويلش معظمها إلى الولايات المتحدة، وأبقت فى فينكا عددًا قليلًا من اللوحات الأصلية من بينها رسم على السيراميك لبيكاسو، إضافة إلى أربعة من أعمال روبيرتو دومينجو، ولوحة للرسام الهولندى راؤول هينكس، وأخرى للفنزويلى لوبيز مينديث.
أوضحت إسبيرانثا أن الفندق فى كل عام يختار جانبًا من جوانب حياة هيمنجواى، لتسليط الضوء عليه، ففى العام السابق كانت هناك مجموعة مرتبطة بفوزه بجائزة نوبل، وهذا العام تم اختيار جزء من مجموعته الفنية، مضيفة أن اللوحات المعروضة على حوائط الغرفة، وهى متفاوتة الأحجام، جميعها تنتمى للمدرسة الإنطباعية (التاثيرية) التى كان الروائى الأمريكى معجبًا بأعمال فنانيها، وكتب فى إحدى مقالاته أن تلك الحركة كان لها تأثير كبير على كتاباته. وقد كانت هذه اللوحات جميعا تزين جدران ملحق الضيوف فى فينكا لكن بسبب خضوع الملحق حاليًا لبعض أعمال الترميم، فقد تم نقلها إلى الفندق لتعرض فيه خلال هذه الفترة.
يلى الخزانة على اليمين مكتب صغير أمامه كرسى خشبى بظهر من لحاء القصب المجدول، بجواره نافذة كبيرة صممت لتبدو كأنها شرفة، فهى بارتفاع الحائط، الجزء العلوى منها نافذة والسفلى هو حاجز قصير على هيئة قضبان اسطوانية. وتطل النافذة على ساحة الأسلحة (بلاثا دى أرماس)، حيث يظهر من بعيد خليج هافانا وضفته الأخرى وهى شبه جزيرة كازابلانكا بتلالها الخضراء.
تتوسط الغرفة طاولة متوسطة الحجم، تستقر عليها آلة كاتبة عتيقة محفوظة فى صندوق زجاجي. وأمام الطاولة كرسى بظهر ومقعدة من لحاء القصب المجدول، والمعروف أن هيمنجواى كان يكتب واقفًا لأنه لا يستطيع الجلوس طويلًا نتيجة لإصابته فى ساقه خلال الحرب العالمية الأولى، كما ذكرت إسبيرانثا وهى تلفت نظرى لساق الطاولة الحلزونية الشكل، التى تتيح له التحكم فى ارتفاع الطاولة لتتناسب مع طوله أو مع رغبته فى الكتابة جالسًا أو واقفًا. كانت الآلة الكاتبة تحوى ورقة طُبع نصفها وكأنها تنتظر صاحبها لكى يكمل الكتابة، فقد حرص الفندق على أن يمنح زوار المكان فرصة أن يعيشوا داخل عالم كاتبهم المفضل.
 لاحظت بعد عودتى عند تكبير إحدى الصور التى التقطتُها، أن الكلمات المطبوعة فى الورقة التى يخرج نصفها من الآلة الكاتبة، كتبت عنه وليست من كتاباته. كانت باللغة الإسبانية، ترجمة لجزء من حواره مع جورج بليمبتون المنشور فى دورية باريس ريفيو، العدد 18، ربيع 1958، وبجوار الآلة الكاتبة ورقة مطبوعة لغلاف ذلك العدد يجعلك تظن للوهلة الأولى أنها الدورية ذاتها.
على يمين الطاولة، وفى الجدار الواقع بين النافذة الأولى والنافذتين الأُخريين، توجد خزانة من الخشب البنى الداكن عليها تمثال لوجه هيمنجواى وصورتان له فى إطارين ذهبيين، لم تكن صوره فى الفندق لكنها من بيته فى فينكا بيهيا كما أوضحت لى إسبيرانثا عندما سألتها.
أعلى الصور ، على الجدار مرآة تعكس السرير المواجه لها، ويقع فى الجانب الأيسر من الغرفة، وقد وضع أمامه حبل من المخمل الأحمر، يحجز الدخول أو الاقتراب. يغطى السرير مفرش باللون البرتقالى الباهت يتوسطه عدد قديم من مجلة «بارى ماتش» الفرنسية، على غلافها صورة هيمنجواى، وبجانبها دفتر بغلاف من الجلد البنى المتهالك دونت عليه بالإسبانية « العجوز والبحر» فيما يوحى بأنها مخطوطة الرواية، وأسفلهما صفحات مطبوعة للموضوع المنشور عن هيمنجواى داخل المجلة، فيها صورته جالسًا وخلفه لوحة مرسومة له فى شبابه، تظهره وسيمًا كنجوم هوليوود فى الثلاثينيات بشعره الأسود وشاربه الرفيع، وقد رسمها صديقه الفنان التشكيلى الأمريكى والدو بيرس وتحمل عنوان «إلى إرنست واسمه المستعار طفل بلزاك»، وعلى الجدار المجاور للسرير علقت نسخة من تلك اللوحة.
لم يكن السرير كبيرًا بل بالكاد يكفى شخصين، مصنوع من الخشب البنى الداكن وبجانبه طاولتان باللون ذاته، وضع على إحداهما هاتف عتيق الطراز، أسود بالقرص الدوار، وعلى الطاولة الثانية إطار ذهبى يضم صورته جالسا مع ثلاثة أشخاص، نرى اثنان يوليانا ظهريهما بينما هو فى الصدارة يتحدث إلى شاب صغير يرتدى جاكيت أبيض، ويعلوه فى الصورة على الجدار رأس ظبى محنط، (عندما زرت فينكا فيما بعد اكتشفت عند مراجعة الصورة أنها مأخوذة فى بيته هناك، وغالبًا يتحدث هيمنجواى مع رينيه فياريال رئيس الخدم).
روت لى إسبيرانثا أن هذا ليس السرير الأصلى الذى كان الأديب الأمريكى ينام عليه فى فترات إقامته فى الفندق، بل نسخة طبق الأصل، لأن الفندق ظل يؤجر الغرفة حتى منتصف التسعينيات تقريبًا. وفى العام 1997 افتتحت للزيارة بعد ترميمها وتجديد الحمام، لكن بقية المحتويات ظلت هى الأصلية التى كانت مفروشة أثناء وجوده فيها، مع استعارة بعض مقتنياته من بيته، مثل ملابسه المحفوظة فى الخزانة خلف واجهة زجاجية لحفظها وحمايتها من الأتربة ومن أيدى العابثين.  وتجد على أرضية الخزانة حذاء مقاس 46 يناسب الروائى ضخم البنية فقد كان يرتدى مقاسات كبيرة من الأحذية، إلى جواره حقيبة سفر لوى فويتون تشبه الصندوق، وهى موديلات حقائب السفر فى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. وفى الأعلى عُلِقَتْ سترة صيد باللون الكاكى، بجانبها صديرى من قماش الصوف بأقلام عريضة وربطة عنق باللون الأزرق تحوى وردات صفراء صغيرة بإطار لونه أحمر، وإلى جوارهما سترة من ماركة أبركرومبى أند فيتش، العلامة الأمريكية الأصلية التى يعود تاريخها إلى عام 1892 أى سبع سنوات قبل ميلاد هيمنجواى، والمعروفة بتصاميمها لملابس الرحلات والصيد. فقد كان هيمنجواى يتسم بالأناقة والذوق الرفيع سواء فى الملابس أو المقتنيات ويشترى دومًا الأفضل.
حكت إسبيرانثا الكثير ولكن حكاياتها لم تُرِضْ فضولى فى التعرف على الكيفية التى كان يقضى يومه بها فى هافانا؟ وقفت أنظر من النافذة باتجاه الخليج والميناء، وأتخيله واقفًا يطل على ساحة الأسلحة والمنظر بأكمله. وخلال كتابة هذا الفصل، وجدت إجابة هيمنجواى عن سؤالى، عبر مقاله المنشور فى العدد الأول من مجلة «إسكواير» (سبتمبر 1933)، تحت عنوان « مارلين المورو، رسالة من كوبا».
يتناول هيمنجواى فى رسالته تفاصيل يومه فى هافانا، وكيف يقضيه منذ الصباح الباكر، ويصف المنظر ذاته الذى رأيته، قائلًا: « تطل الغرف الواقعة فى الركن الشمالى الشرقى من فندق « أمبوس موندوس « فى هافانا على الكاتدرائية القديمة، شمالًا ومدخل الميناء، والبحر، وإلى الشرق على شبه جزيرة كازابلانكا، وعلى أسطح جميع المنازل الواقعة بينهم وعلى المرفأ باتساعه. إذا كنت تنام وقدماك باتجاه الشرق، قد يكون ذلك مخالفًا لمبادئ بعض العقائد، ستشرق الشمس، القادمة من ناحية كازابلانكا، وتدخل من نافذتك المفتوحة لتلقى بأشعتها على وجهك وتوقظك بغض النظر عما كنت تفعله خلال الليلة الفائتة. إذا لم تختر الاستيقاظ يمكنك الاستدارة نحو الجانب الآخر من السرير، أو التدحرج بعيدًا عن مصدر الأشعة. لكن ذلك لن يفيد طويلًا لأن الشمس ستزداد قوتها وسيكون الشيء الوحيد المفيد هو غلق مصراع النافذة.
وعندما تقف لغلق المصراع، وتنظر إلى الميناء وتشاهد ذلك العلم المرفوع فوق الحصن، مستقيمًا وموجها نحوك. ثم تطل عبر النافذة الشمالية فيما ورا قلعة المورو وتشاهد أشعة الشمس وبريق الصباح الناعم يتلألا، تدرك أن الرياح التجارية قد أتت مبكرة. تأخذ حمامًا وتسحب سروالًا كاكيًا قديمًا وقميصًا، وتلتقط حذاءً جافًا بينما تضع الآخر فى النافذة ليصير جافًا فى الليلة التالية. تمشى إلى المصعد وتنزل إلى أسفل، تأخذ الجريدة من مكتب الاستقبال وتذهب إلى المقهى الموجود فى الزاوية لتتناول الإفطار.»
كنت أقرأ تلك السطور وأتذكر وقوفى بالنافذة الشمالية لأتنسم هواء البحر وأشاهد المنظر الذى كان يراه هيمنجواى كل صباح، كان وصفه دقيقًا فقد رأيت الشمس وهى تلقى بأشعتها على سريره، والقلعة والعلم الذى يرفرف أعلاها، لكننى لم أتمكن من مشاهدة الكاتدرائية التى ذكرها، فقد كان هناك مبنى يحجبها. وقد سألت اسبيرانثا حينها عنه، حيث يختلف طرازه المعمارى الحديث عن بقية ما حوله من أبنية فى هافانا القديمة التى بنيت فى القرن السادس عشر. فأشارت إلى أنها جامعة سان خيرونيمو، ويبدو أنه فى وقت كتابة هيمنجواى لمقاله فى العام 1933 لم يكن مبنى الجامعة الذى يطل عليه الفندق موجودًا. وأتذكر أننى استوضحت منها حينها هل كان هذا البناء بنفس شكله فى زمن إقامة الكاتب الشهير به، فقالت مؤكدة أنها من أقدم الجامعات فى كوبا، لكننى عندما قرأت سطوره ووصفه، عدت وبحثت فى تاريخ الجامعة اكتشفت أنها كانت كنيسة وديرَا للرهبان للدومنيكان بُنيت فى عام 1578، باسم دير سان خوان دى ليتران، وفى عام 1728، أسس الرهبان جامعة فى الدير الذى تم تجديده فيما كان يعرف بمنطقة سان خيرونيمو دى لا هابانا، وفى عام 1841 حرم الرهبان الدومنيكان من حيازة ممتلكاتهم وأوقف نشاط الجامعة التى انتقلت لاحقًا إلى إدارة الحكومة الإسبانية وسُميت باسم الجامعة الملكية الباباوية حتى عام 1902 ثم انتقلت إلى موقع آخر وهدم البناء. وخلال السنوات اللاحقة استخدمت الأرض ومبانيها استخدامات متنوعة حتى بيعت فى 1916 لرجل أعمال بغرض بناء مركز تجارى ضخم فى شارع أوبيسبو بعد أن تم هدم جزء كبير منها لتوسعة الشارع. ظلت الأرض والمبانى مهجورة ومهدمة حتى نهايات العام 1957 عندما اتخذ باتيستا قرارًا بإعادة بنائها كجامعة كما كانت. بما يؤكد أن هذا المبنى الحديث الطراز لم يكن موجودًا فى وقت هيمنجواي.
بعد أن انتهينا من مشاهدة جميع محتويات الغرفة، اصطحبتنى إسبيرانثا إلى الطابق السادس حيث يقع سطح الفندق الذى يضم شرفة واسعة ومطعمًا كبيرًا، قالت إسبيرانثا أن هيمنجواى كان يتناول طعامه به أحيانا. ومن فوق أشارت إلى مبنى بسقف أحمر، كان فيما مضى مقرًا لسفارة الولايات المتحدة فى كوبا قبل قيام الثورة، وأنه يحوى اليوم متحفًا ومكتبة. عرفتنى إسبيرانثا إلى العاملين فى المكان، لم يكن أى منهم معاصرًا للروائى المعروف بالطبع لكنها قدمتنى لهم بوصفى صحفية مصرية أكتب مقالًا عن الروائى الأمريكى الشهير.
ودعت إسبيرانثا، واستكملت جولتى على السطح لأشاهد المنظر الذى يقع بالضبط فوق غرفته، وأتذكر أننى بدءًا من تلك اللحظة، صرتُ أود رؤية هافانا بعينيه، وكما رآها، وهذا ما حاولته فى كل مكان زرته أو صورة التقطتها بهاتفى أو ما قرأته لاحقًا من كتب ومقالات.
يتيح السطح إطلالةً أوسع للمشهد الذى كان يفتح هيمنجواى عليه عينيه فى الصباح كما وصفه بدقة فى مقال مجلة إسكواير. انتهيت من التصوير، ثم نزلت إلى بهو الفندق، وعدت إلى تأمُلِ صور هيمنجواى، فبعد أن قضيت نحو ساعة فى رفقته، زاد شغفى به ورغبتى فى ملاحقته. وبمجرد ما لمست قدماى البلاطات الحجربة لشارع أوبيسبو، عاود الهاتف الداخلى إلحاحه، يدعونى لأسير على خطاه، وكأن روحه تسير معى، أو أن شبحه قد اختارنى أنا الصحفية المصرية القادمة من الكويت ليكشف لى خفايا وحكايات 30 عامًا من حياته فى كوبا.
 اتجهت يسارًا فى شارع أوبيسبو، كنت فعليًا أود السير فى أثر خطواته، ومشيت حتى نهايته فوجدتنى عند مطعم وحانة «فلوريديتا». كانت التاسعة صباحًا والمكان مغلق فقررت العودة فى الطريق ذاته إلى الفندق.  فجأة شعرت بأننى أملك هافانا، أعرفها منذ سنوات، رغم أننى وصلتها قبلها بيوم واحد، كنت أسير فيها بخطى واثقة، تدل طريقها وليس كسائحة تائهة تستكشف الشوارع، وكأن طيفه معى يصحبنى ويدلنى، إلى كل مكان أحبه، وكل شارع سار فيه، ولاحقًا إلى بيته فى فينكا بيهيا، لأقضى بقية أيامى فى هافانا معه. عند ناصية شارع أوبيسبو بجوار الجامعة، تركت الفندق خلفى ومشيت إلى ساحة الكاتدرائية، وفجأة للمرة الثانية، ربما بدافع الشغف الذى كان يتراكم بداخلى تدريجيا، بدلت خططى لهذا اليوم، وقررت أن أقضى مزيدًا من الوقت فى معية الأديب الشهير والاقتراب منه أكثر، فقررت الذهاب مباشرة إلى بيته.
عبرت ساحة الكاتدرائية، التى تشبه الساحات الإسبانية الأثرية، بتصميمها المربع ومبانيها المنخفضة بعقودها وأعمدتها والأقواس التى تعلو البوائك المميزة لهذا الطراز المعمارى، وحجارة أرضيتها العتيقة. كانت مقاهى الساحة ومطاعمها جميعها لا تزال مغلقة، فاستكملت سيرى فى شارع سان إجناثيو، حتى خرجت من هافانا القديمة نحو الطريق الرئيس بحثًا عن وسيلة مواصلات يمكن أن تقلنى إلى فينكا بيهيا.  
وصلت إلى محطة الحافلات العامة، التى ذكرتنى كثيرًا بمثيلاتها فى القاهرة، عاصمة بلادى، حيث لن تجد لافتة تشير إلى أنها محطة، أو دكة خشبية ليرتاح الناس عندها أو حتى لوحة دونت عليها تفاصيل وأرقام الحافلات، لكنك ستعرفها من تجمع المواطنين، ومن تلك السيارات الضخمة المصطفة أمام الجموع أو التى تأتى مكتظة بالركاب، ينزلون منها فيسارع الواقفون للصعود مكانهم لكنها سرعان ما تمتلئ، فيضطر البقية لانتظار التالية، مشهد اعتدت رؤيته فى القاهرة. فكثير من ملامح كوبا يشبه بعض بلادنا العربية، بل إن كورنيشها الشهير المعروف باسم الماليكون، يكاد يطابق كورنيش مدينة الإسكندرية قبل تجديده، وحتى طريق السيارات يشبه الطريق المحاذى للكورنيش فى الإسكندرية، فهو طريق ذو اتجاهين بدون حاجز يفصل بين صفوف السيارات الآتية والذاهبة.
اقتربت من الجموع الواقفة أبحث عمن أسأله عن رقم حافلة التى يمكن أن تقلنى إلى سان فرانسيسكو دى باولا حيث يوجد بيت هيمنجواى، أو ميكروباص (حافلة صغيرة) مما يسمى الكولكتيبو وتعنى سيارة الأجرة الجماعية.
لمحت فتاة شابة فى مطلع العشرينيات، تضع سماعات هاتفها فى أذنيها، فاقتربت منها وألقيت عليها التحية بالإسبانية، ثم سألتها عن رقم حافلة، لاحظت خلال وقوفى أنه مكتوب عليها كوهيمَر القريبة من فينكا بيهيا. كانت الفتاة لطيفة للغاية، وشرحت لى أنها لن تساعدنى فى الوصول إلى غايتى، ونصحتنى بأن أستقل سيارة أجرة خاصة على أن أتفاوض مع سائقها على السعر قبل الركوب، محددة لى سعرا تقريبيًا يناسب مسافة الرحلة ذهابًا وإيابًا.
أشارت الفتاة إلى المكان الذى يمكن أن أستقل منه سيارة الأجرة أو الكولكتيبو إذا كنت أصر على ركوب مواصلاتهم العامة. لكننى آثرت الحل الأول، وفعلت مثل رفيق رحلتى فى هافانا، فكما قرأت لاحقًا ذهب هيمنجواى إلى فينكا فى المرة الأولى بسيارة أجرة، قبل أن يستقر فى الجزيرة ويمتلك سياراته الخاصة. أشرت إلى واحدة صفراء من ماركة لادا الروسية، وهى من الماركات المنتشرة فى هافانا كما القاهرة أيضًا، يقودها سائق عجوز تغلب الطيبة على ملامح وجهه، سألته إذا كان يقلنى إلى فينكا بيهيا ويعيدنى، وعن سعر المشوار، وبعد الفصال على الأجرة، الأمر الذى يبرع فيه المصريون، اتفقنا على سعر مناسب لإمكانياتي.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة