صورة ارشيفية
صورة ارشيفية


«الوِراقة والوراقين».. حكاية صناعة الكُتب قبل ظهور الطباعة وأقدم أسواقها

نادية البنا

الجمعة، 05 مارس 2021 - 10:08 ص

 

بقدر ما كان اختراع «المطبعة» الذي أخرجه العالِم الألماني يوهان جوتنبرج للعالم عام 854هـ/1450م، فتحا تقنيا غيّر وجه التاريخ الثقافي للعالَم؛ فإنه سجل أيضا بداية النهاية للمنظومة التي أبدعت أعظم ظاهرة ثقافية أهدتها الحضارة الإسلامية للإنسانية، وأنتجت أغنى تراث علمي عرفته البشرية حتى العصر الحديث؛ إنها ظاهرة "الوِراقة والوراقين".

في هذه السطور ؛ سندخل عالما كان على مدار أكثر من ألف عام نابضا بالحيوية والإبداع، وحافلا بالجدل والصخب الثقافي، ولا يخلو من الحقائق المدهشة والطريفة؛ لنرصد كيف دارت ماكينة إنتاج الكتاب في العالم الإسلامي، وكيف احترف مهنة نسخ الكتب علماء كبار وأمراء مشاهير وربات بيوت سعياً لتحصيل دخل يوفر لقمة العيش، وكيف شارك في هذه الصناعة ناسخون من أديان أخرى ساهموا في نشر الأعمال الإسلامية.

ميلاد أمة «اقرأ»

جاء الإسلام وقد عرف العرب القراءة والكتابة على نطاق ضيق، والترجمة من اللغات الأخرى في حدود أضيق؛ ولكن الدين الجديد بما تضمنه القرآن والسنة من إشادة بالعلم والعلماء كان من أول لحظة إيذانا بميلاد "أمة اقرأ"، التي ستملأ الأرض علما ومعارف وتشغل الناس ثقافة وآدابا.


فقد اكتمل جمع القرآن وتدوينه في خلافة أبي بكر الصديق (ت 13هـ) فكان ذلك إشارة لأهمية التدوين العلمي في حياة الأمة؛ ولكن القرن الأول بأجمعه ظل قرنا للرواية الشفهية لنصوص الإسلام (قرآنا وسنة) ولغته العربية، ولم يشهد حركة تدوين للمعارف المنبثقة منهما إلا في حالات محدودة.


ومع بزوغ شمس القرن الثاني الهجري (100-200هـ) الذي يُعرف بـ"عصر التدوين"؛ تفجرت ينابيع العلوم واكتملت دورة إنتاجها الشفهي، فكان لا بد من استيعابها في أطر صلبة تنقلها من الصدور إلى السطور، فتحفظها من الضياع وتجعلها قابلة للتداول بين الناس والتوارث بين الأجيال.

صناعة الكتاب


وتعزز ازدهار الكتابة والتدوين بعاملين مهمين، أولهما المكانة العالية التي حازها "كتّاب الدواوين" (وزارات الدولة وإدارتها) منذ العصر الأموي وازدادت أهميتها أيام ورثتهم العباسيين؛ وثانيهما استخدام الورق في الكتابة مع مطلع العهد العباسي، ذلك الاستخدام الذي ترسخ ببناء أول مصنع للورق ببغداد أيام هارون الرشيد في سبعينيات القرن الثاني.

وبذلك عرف الناس "صناعة الكتاب" بشقيه: "الأصيل" المؤلَّف و"الدخيل" المترجَم، ثم سرعان ما أصبحت "صناعة الكتاب" صنعة من صنائع المدنية في الحضارة الإسلامية تُدعى "الوِراقة"؛ فتخصصت فيها طائفة وافرة تسمى "الوراقين" ضمت في عضويتها كافة أطياف المجتمع الفكرية والأدبية، وطوائفه الدينية والمذهبية؛ ووُضعت لها ضوابط وأعراف، وخُصصت لها أماكن وأسواق، ونشأت في فضائها فروع وتخصصات، وتحصلت منها لأصحابها أموال وثروات.

الوراقة ونسخ القرآن

من الناحية التاريخية؛ ارتبطت "الوراقة" في بدئها ‏بوصفها مهنة باحتراف نسخ القرآن الكريم تكسُّبًا، فقد ذكر النديم (ت 384هـ) في كتابه ‘الفهرست‘ أن الناس "كانت تكتب المصاحف بأجرة"، وكان أول من عُرف بتخصصه في ذلك عمرو بن نافع مولى عمر ‏بن الخطاب‏، لكن النديم عزا إلى المؤرخ محمد بن إسحق (ت 151هـ) أن "أول من كتب المصاحف في الصدر الأول، ويوصف بحسن الخط هو خالد بن أبي الهياج"، لعمله "ورّاقا" للخليفة الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ).

ومع أواسط القرن الثاني؛ انضم إلى نسخ القرآن جمعُ الحديث النبوي، وتوثيقُ فتاوى الصحابة والتابعين، وتدوينُ لغة العرب وأشعارها؛ فظهرت "مصنفات" في شتى العلوم، ومن أوائل تلك المؤلفات -مما وصل إلينا نصُّه موّثقَ النسبة- "الموطأ" للإمام مالك بن أنس، و"الرسالة" للإمام الشافعي، و"المبسوط" للإمام محمد بن الحسن الشيباني، و"الكتاب" في النحو لسيبويه الفارسي، وقاموس "العين" للفراهيدي، و"مختارات" من أشعار العرب مثل "المفضليات" و"الأصمعيات".

وأدت كثرة طلاب العلم وازدياد انشغال العلماء بإقبالهم على التأليف إلى اتخاذ بعض الأئمة "ورّاقاً" أو ‏"كاتباً" خاصا به كما اتخذ كل شاعر "راوية" لديوانه؛ فكان مثلا حبيب بن أبي حبيب وراقا للإمام مالك (ت 179هـ)، وعُرف محمد بن سعد (ت 230هـ) بأنه "كاتب ‏‏الواقدي" المؤرخ (ت 207هـ).‏

وقد انتشرت لاحقا عادةٌ عمّت جميعَ طبقات العلماء والأدباء بل وحتى الخلفاء والأمراء، وهي اعتماد وراقِين محددين ‏كما يعتمد المؤلفون الكبار في عصرنا ناشرا معينا لطباعة كتبهم، فقد كان محمد بن أبي حاتم وراقا للإمام البخاري (ت 256هـ)، وأحمد بن محمد النِّباجي وراقا للإمام يحيى بن معين (ت 233هـ)، وورد أن الخليفة العباسي المعتمد (ت 284هـ) "كان له وراق يَكتب شعره بماء الذهب".

وقد يكون لبعضهم وراقان كما كان للواقدي ولأبي عُبيد القاسم بن سلام مؤلف كتاب "الأموال" (ت 224هـ)، ولأبي داود (ت 275هـ) صاحب "السنن" وراقان أحدهما ببغداد والثاني بالبصرة، وللجاحظ (ت 255هـ) وراقان: أبو القاسم عبد الوهاب بن عيسى وأبو يحيى زكريا بن يحيى.

ازدهار الوراقة كصناعة

وبحلول نهاية القرن الثاني؛ كانت "صناعة الوِراقة" -بتعبير ابن خلدون (ت 808هـ)- قد بلغت شأواً بعيدا في الانتشار وسلكت طريقها نحو الازدهار في القرن الثالث، بحيث تحددت فروعها بأنها شاملة "للانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكُتبية والدّواوين" مثل بيع الورق والقراطيس، وصارت لهم "دكاكين" تضمها "أسواق الوراقين"، وبعضهم عمل في مكتبات الدولة مثل "بيت الحكمة" ببغداد، و"دار العلم" بالقاهرة، و"خزانة العلوم" بقرطبة.

وقد عمل في هذه المهنة آلاف الوراقين من الرجال والنساء، ومن جميع طبقات المجتمع من كبار العلماء والأدباء وأبناء الملوك السابقين -بل والأمراء- إلى الموالي والأرقاء.

فمن مشاهير العلماء الذين عملوا وراقين تكسُّبا: الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) الذي كان "ينسخ الكتب للناس بأجرة" ليسدّ فاقته أيام طلبه العلم، والإمام النحوي القاضي المعتزلي أبو سعيد السيرافي (ت 368هـ) كان "ينسخ الكتب بالأجرة ويعيش منها".

وعُرف إمام الحنابلة في زمنه ابن مروان البغدادي (ت 403هـ) بـ"الوراق" ‏لأنه كان "ينسخ الكتب ويقتات من أجرتها"، متعففا عن هدايا السلاطين، وورد أن الإمام أبا حامد الغزالي (ت 505هـ) "كان ينسخ الكتب والمصاحف.. ويبيعها".

ومن الأمراء الذين "احترفوا" الوراقة -وهم في السلطة- السلطانُ الشهيد نور الدين زنكي (ت 569هـ) الذي كان "يأكل من عمل يده فكان ينسخ الكتب"، ومن أبناء الملوك الأمير شرف الدولة يحيى بن المعتمد بن عباد الذي مارس نسخ الكتب -بعد زوال سلطان عائلته بإشبيلية- ووُصف بأنه "مثابر على نسخ الدواوين".

نساء وراقات

وقد عملت المرأة إلى جانب الرجل في مهنة الوراقة ناسخةً أو مساعِدةً؛ ففي الأندلس يروي عبد الواحد المراكشي (ت 647هـ) عن المؤرخ الأندلسي أحمد بن سعيد ابن أبي الفياض (ت 459هـ) أنه "كان بالرَّبَض (الجانب الشرقي من قرطبة) مئة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، هذا ما في ناحية من نواحيها فكيف بجميع جهاتها؟"، وكانت ورقاء بنت ينتاب الشاعرة الطليطلية (ت بعد 540هـ) من الناسخات المُجيدات.

وفي العراق شرقا؛ ذكر أبو العلاء المعري (ت 449هـ) -في "رسالة الغفران"- الجاريةَ "توفيق السوداء التي كانت تخدم بدار العلم ببغداد" أيام البويهيين، وكان من مهمتها مساعدة الوراقين بأن تُخرِج "الكتبَ للنُّسّاخ"، ولعلها كانت تورّق أيضا.

‏وفي عام 1928م؛ حدّث الكاتب والمؤلف العراقي عبد اللطيف جلبي (ت 1945م) أنه رأى بجامع الحيدرخانة ببغداد نسخة من قاموس "الصحاح" لأبي نصر الجوهري (ت 393هـ) نسختها امرأة تدعى مريم بنت عبد القادر (القرن 6 هـ)، وكتبت في نهايتها عبارة مؤثرة هذا نصها: "أرجو من وجد فيه سهوا أن يغفر لي خطئي، لأني كنت بينما أخط بيميني كنت ‏أهز مهد ولدي بشمالي"!!

وروى المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ) أن أبا العباس بن الحطيئة الفاسي (ت 560هـ) "نسخ الكثير بالأجرة [في مصر].. وعلّم ‏زوجته وابنته الكتابة فكانتا تكتبان مثل ‏خطه سواء، فإذا شرعوا في نسخ كتاب أخذ كل واحد جزءا وكتبوه، فلا يفرِّق بين ‏خطهم إلا الحاذق".‏

يهود ومسيحيون

وكما لم تقتصر دكاكين الوراقة على انتساخ كتب الثقافة الإسلامية بل أضافت لها الكتب المترجمة؛ فإن طائفة الوراقين اتسع ‏رحبها لضم وراقين من جميع الملل والنِّحل، لا ليتخصصوا في نسخ ونشر كتب معتقداتهم وأديانهم وإنما لينسخوا أيضا بأيديهم كتب ‏الإسلام ويبيعوها!‏

ومن ذلك الحكاية التي رواها الإمام البيهقي (ت 458هـ) وخلاصتها أن أحد المثقفين اليهود كان "حسن الخط" فأسلم وروى ‏قصة إسلامه للخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ)؛ فقال: "عمَدتُ إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، ‏وأدخلتها إلى الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموْا بها فلم يشتروها؛ فعلمت أن هذا كتاب محفوظ ‏فكان هذا سبب إسلامي"‏، ولم يصلنا أن كتابته للمصحف استجلبت إنكارا من الخليفة أو من الوراقين المسلمين رغم اشتهاره بأنه يهودي!! ‏

وقد نقل النديم عن الفيلسوف المسيحي يحيى بن عدي المنطقي قوله له "نسختُ بخطي نسختين من التفسير للطبري ‏وحملتهما إلى ملوك الأطراف، وقد كتبت من كتب المتكلمين ما لا يُحصى".‏

ومن الوراقين من تخصص في نسخ الكتب الصغيرة المعدة للسفَر -وهي المسماة اليوم "كتب الجيب"- التي كانوا يدعونها "الكتب اللِّطاف" أو "النسخة السفـَرية"؛ مثل الوراق أبي الفضل ابن جليق التغلبي ‏الجشمي الذي كان في حلب "ينسخ الكتب اللطاف ‏والمتوسطة بالأجر".

كما شاعت كتابة "المصاحف اللطاف"‏ وممن تخصص فيها أبو حري الكوفي الذي "كان يكتب المصاحف اللطاف في أيام المعتصم"، وقال ابن حجر (ت 852هـ) إن إسماعيل الزُّمُكْحُلُ (ت 788هـ) "كتب من المصاحف اللطاف شيئا كثيرا".

ومع العوائق التي يفرضها إرهاق العمل اليدوي من بطء وتعثُّر فإن الوراقين تميزوا بغزارة الإنتاج وتعدد "طبعات" النشر، حتى إن الكتاب الواحد كانت تتداول منه مئات النسخ في الوقت ذاته.

ويكفي مثالا على ذلك أنه رغم ندرة كتاب" الفرق بين النبي والمتنبي" للجاحظ -حتى إنه كان ينادى بالبحث عنه في موسم الحج- فإن الحموي يقول "رأيت أنا منه نحو مئة نسخة أو أكثر"، وهناك مِن العلماء مَن "كان في خزانته ألف نسخة من صحيح البخاري" وحده!!

الكتب الأدبية الخيالية

تجاوز الوراقون نطاق الإنتاج العلمي والأدبي الواقعي إلى صناعة الكتب الأدبية الخيالية، سواء منها ما كان لغرض تعليمي يستهدف الأطفال، أو ذاك الذي سعى إلى توفير مادة خفيفة تطالَع تفكُّهاً لملء أوقات الفراغ؛ ولذلك كان للقصص والروايات كتابها المتخصصون في إبداعها.

وفي عملهم الشامل والهائل هذا؛ كان الوراقون يتبارون في سرعة الخط والقدرة على نسخ المؤلفات الكبيرة؛ وقد قدّم لنا المراكشي تقديرات ورّاقي زمانه لأحجام الكتب فقال إن "المجلد اللطيف" (الصغير) يكون بحجم ديوان المتنبي (قرابة 5350 بيتا)، و"المجلد المتوسط" يكون قَدر ديوان أبي تمّام (نحو 7300 بيت)، و"المجلد الضخم" يضم 15 ألف بيت فأكثر، ولعل ثمة "المجلد الكبير" الذي سيكون وسطا بين "المتوسط" و"الضخم".

ومن صور التباري بين الوراقين؛ أن أبا الفضل محمد بن طاهر المقدسي الظاهري (ت 507هـ) كان يقول: "كتبت صحيح البخارِي ومسلم وابن داود سبع ‏مرات بالوراقة، وكتبت سنن ابن ماجه بالوراقة عشر مرات"، وذكر النديم أن الفيلسوف المسيحي أبا زكريا يحيى بن عدي (ت 364هـ) "كان يكتب في اليوم ‏والليلة مئة ورقة".‏

وقد يُفرّق الكتاب -خاصة إن كان ضخما- على عدة وراقين طلبا لسرعة الإنجاز؛ كما حصل حين استأجر ابن أبي شيبة (ت 235هـ) عشرة وراقين لينسخوا له كتابه العظيم "المصنَّف"، ووُزّع "تاريخ ‏دمشق" (وكان 80 مجلدا) للحافظ ابن عساكر (ت 571هـ) على عشرة وراقين فأكملوا نسخه في سنتين، وهي "مدة معقولة ‏طبقا لمعايير الوراقين"؛ كما يقول المستشرق فرانز روزنتال، وكان ابن الحطيئة الفاسي كان يتقاسم نسخ الكتاب الواحد مع ‏زوجته وابنته.

التحريف والتصحيف

عُرف عن الوراقين التفاوت في جودة الخط والضبط؛ فكثيرا ما وُصف وراق بأنه "حسن الوِراقة" أو "سيئ الخط" أو "نبيل الخط ضابط متقن" أو بأنه يكتب "الخط المنسوب"، أي الخط المتناسب الأبعاد هندسيا والذي وضع قواعده شيخ الخطاطين ابن البواب البغدادي (ت 413هـ)، فمثلا قال ابن حجر إن ‏إسماعيل الزُّمُكْحُلُ المتقدم ذكره "خطه غاية فِي الحسن مرغوب ‏فيه".‏

وأثناء عملهم الدقيق؛ كثيرا ما يقع الوراقون –خاصة غير العلماء منهم- في أغلاط فاحشة في النسخ حذفا أو زيادة أو تحريفا أو تصحيفا أو نسبة للكتاب إلى غير مؤلفه، وغيرها من الأخطاء التي وقع فيها النساخ وعانى منها جهابذة المحققين لكتب التراث في زماننا، ولذلك ألف العلماء قديما كتبا في "أخبار المصحِّفين" وفي "شرح ما يقع من التحريف والتصحيف".


منتديات دكاكين الوراقين

ولم تكن دكاكين الوراقين وأسواقهم مجالا لصناعة الكتب ونشرها فقط؛ بل سرعان ما غدت منتديات تلتقي فيها رجالات العلم والثقافة والأدب، فتعقد مجالس الإفادة والإفاضة متصرفةً في ضروب الفكر ومتجولةً في دروب المعرفة، وتخوض نقاشا ونقدا وأخذا وردا.

وقد لاحظ الجاحظ رواج ما يُلقى في سوقهم من إنتاج مكتوب أيا كان، وحدثنا التوحيدي أن جماعة "إخوان الصفاء" لما أرادوا إذاعة رسائل فلسفتهم وتقديمها للرأي العام "بثّوها في الوراقين"، وذكر ابن الجوزي (ت 597هـ) أنه كان "للوراقين سوق كبيرة وهي مجالس للعلماء والشعراء" بالرصافة من بغداد.

فعلى هذه الدكاكين تردد أعلام كبار -سجلت لنا دواوين التاريخ قصصا تحكي زياراتهم لها- من أمثال: الأصمعي وأبي نواس، وأبي العيناء وأبي هفان والجاحظ، والمتنبي والأصفهاني والسيرافي والنديم، والتوحيدي وابن سيناء والمعري،‏ وياقوت الحموي وياقوت الموصلي وياقوت المستنصري، ومن الفقهاء والمحدّثين الزركشي وابن عرفة التونسي والحافظ ابن حجر العسقلاني.

الخدمات الكُتبية


لم تقتصر دكاكين الوراقة على نسخ الكتب والوثائق فقط؛ بل اتسع نطاقها ليشمل كافة الخدمات الكُتبية، بما في ذلك صناعة الورق التي بلغ عدد معاملها في فاس وحدها 104 معامل أيام المرابطين، وتجاوزت أربعمائة معمل في عهد خلفائهم الموحدين، وكذلك فن الخط وفن تجليد الكتب (في الأندلس والمغرب كان يسمى التسفير) وفن زخرفتها (التذهيب أو التزيين)، وهي فنون بلغت مستوى من الإتقان صارت به من أرقى الفنون الإنسانية الجميلة.

ومع ازدهار الوراقة؛ تطورت كذلك صناعة الأقلام والمداد وكيمياء تركيب الأحبار من مختلف الألوان، وتفننوا في ذلك حتى تمكنوا من صناعة حبر يُقرأ مكتوبه ليلا ولا يُقرأ نهارا! بل إن الصفدي يخبرنا أنه "كتَب بعضُ المغاربة إلى الملك الكامل (الأيوبي ت 635هـ) رقعة في ورقة بيضاء، إن قُرِئت في ضوء السراج كانت فضية، وإن قرئت في الشمس كانت ذهبية، وإن قرئت في الظل كانت حبرا أسود"!!

بداية النهاية

على المستوى التنظيمي؛ كان لا بد لمهنة الوراقة ككل الحرف والصناعات، من أن توّثّق أعرافها الناظمة وتدون تجاربها المتراكمة، وصار لصنعتها نقابة مهنية تُعرف بـ"مشيخة الوراقين"، كان ممن تولاها عبد الرحمن بن أحمد الحميدي الذي كان "شيخ الوراقين بمصر" في حقبة أخيرة من القرن العاشر الهجري.

وقد أمدتنا أقلام خبراء الوراقة الأقدمين بطائفة من الكتب المرشدة في تقاليد صناعتها تصحيحا بالمراجعة والمقابلة، وتحصينا بالتجليد والترميم، وتزيينا بالتذهيب والزخرفة، ولكن كثيرا منها لم يصلنا سوى عنوانه.


وبعد هذه الرحلة الزاخرة الزاهرة؛ كان لا بد لقافلة الوراقين أن تنتهي، وما كان لها أن تجد توقيتا أنسب لبدء العد التنازلي لتوقفها الإجباري من "لحظة جوتنبرج"، تمهيدا لانقطاع مسيرتها النهائي بعد مرور قرنين ونصف على تلك اللحظة.

فبعد سبعة عقود من ظهور اختراع "المطبعة"؛ طرقت الطباعةُ بابَ لغة الضاد فدخلت عالمها بكتاب "صلاة السواعي" المسيحي الذي أصبح أول كتاب يطبع بالعربية سنة 919هـ/1514م، وبتمام الألفية الهجرية سنة 1000هـ/1592م؛ ظهرت باكورة كتب التراث الإسلامي المطبوع أولا بأوروبا، "الكافية" لابن الحاجب و"الآجرومية" و"نزهة المشتاق" للإدريسي.

 

اقرأ أيضا |«أصلها محل بقالة».. قصة أشهر مكتبة وصالون ثقافي في بيروت أسسته فتاة

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة