ياسر رزق
ياسر رزق


ورقة وقلم

مؤسسات الدولة وسلطة الحكم

ياسر رزق

السبت، 06 مارس 2021 - 05:36 م

لم‭ ‬يجاف‭ ‬الرئيس‭ ‬الواقع‭ ‬عندما‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬تسلم‭ ‬مصر‭ ‬وهى‭ ‬شبه‭ ‬دولة،‭ ‬والحقيقة‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬دولة‭ ‬ذات‭ ‬مؤسسات‭ ‬متداعية‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬بناء

عندما قال الرئيس عبدالفتاح السيسى فى بواكير رئاسته إنه تسلم مصر وهى شبه دولة، تساءل البعض: كيف يقول الرئيس عن الشعب المصرى أنه شعب  حر أبى عظيم، فى حين يقول عن الدولة المصرية أنها شبه دولة؟!
هناك فرق بين الأمة والدولة.
بلا شوفينية أى بلا نزعة وطنية متطرفة، نحن أمة عظيمة، هكذا كنا وهكذا نكون.
أثبتنا هذا عبر التاريخ، فى النضال  من أجل التحرر، وفى المعارك من أجل التحرير.
وبرهنا على ذلك فى ثورتين عظيمتين خلال العقد الماضى فى يناير ٢٠١١ وفى يونيو ٢٠١٣.
لكن ثورة ٢٥ يناير كشفت أننا كنا دولة هشة مخوخة كمنسأة سليمان.
فقد تداعت غالبية مؤسسات الدولة كقطع الدومينو المتساندة، حتى حزب الأغلبية الذى تسلط على البلاد بمسميات مختلفة فى أعقاب ثورة ١٩٥٢ من هيئة التحرير إلى الحزب الوطنى ذاب كأنه بناء رملى طفولى على شاطئ بحر لطمته الأمواج وجرفته..!
***
فى أعقاب بيان الثالث من يوليو ٢٠١٣، سقطت مؤسسة الحكم، وسقط الدستور وسقط مجلس الشورى بعدما سبقه مجلس النواب بعام.
أما الأحزاب فلم يكن لها وجود حقيقى فى ظل هيمنة حزب الإخوان )الحرية والعدالة( على الحياة السياسية، بينما جبهة الانقاذ التى كانت قطب المعارضة السياسية ضد نظام المرشد، فقد تفككت بقرار غير مفهوم من قياداتها..!
كان القضاء قد وضع على نحو ما تحت هيمنة الإخوان الذين عينوا وزير عدل موالياً للجماعة ونائبا عاما خاصا بها.
كانت الشرطة فى حالة نقاهة لم تبارحها بعد فى أعقاب ما تعرضت له من ضربة عنيفة فى أيام ثورة ٢٥ يناير، وما حاق بها من تخريب للأقسام والمراكز فى نهاية حكم المرشد، فضلا عن عملية التجريف المنظمة لكوادرها ذات الكفاءة فى الأمن السياسى لاسيما المتخصصة فى مكافحة النشاط الدينى المتطرف، والتى باشرها الرئيس الإخوانى محمد مرسى منذ تولى الحكم.
أما الإعلام الرسمى من صحافة قومية ومحطات التليفزيون والإذاعة الحكومية، فقد وضع تحت ولاية مكتب الإرشاد مباشرة الذى أجرى تغييراً شاملاً فى قيادات الإعلام وأتى بغيرها من أعضاء الجماعة أو أولئك الذين عرضوا أنفسهم عليها..!
حتى المؤسسة الدينية لم تسلم من التخريب. فقد جىء بوزير للأوقاف من أعضاء الجماعة ومعه مفت للجمهورية من أتباعها. وأطل فى الصفوف الأولى للأزهر مشايخ ينتمون للفكر المتطرف. وتعرض فضيلة الإمام الأكبر لحملة منظمة من البذاءات والإساءات بهدف إجباره على الاستقالة.
أما الكنيسة، فقد حوصرت بالقول والفعل والميليشيات الإخوانية، وانطلق المخربون لحرق الكنائس فى ظاهرة لم تعرفها مصر على مدار ١٤٠٠ سنة مضت منذ غزاها عمرو بن العاص.

***
لم يصمد فى هذا البلد فيما بين الثورتين وفى أعقاب ثورة يونيو  إلا المؤسسة الصلبة العسكرية الأمنية، وأعنى الجيش والمخابرات العامة.
كان الجيش هو عمود الخيمة الذى ظل صامدا يحمى الكيان المصرى من حرب أهلية تبرق نذرها فى السماء، ومن مخاطر التفكك فى ظل مخططات أجنبية تسترت خلف مظاهرات وانتفاضات أيام ثورة يناير وما تلاها لتوجيه ضربة قاصمة لمصر الدولة الأهم فى منطقة الشرق الأوسط على اتساعها والتى تقف بوحدة شعبها وجيشها حجر عثرة أمام نقل الحدود الجديدة للشرق الأوسط الجديد من أوراق الخرائط الى تضاريس الأرض فى ظل «فوضى خلاقة» منظمة..!
إذا أضفنا إلى مشهد المؤسسات المتداعية، الحالة البائسة التى كان عليها الاقتصاد، لبدت لنا الصورة المظلمة التى رانت على الدولة المصرية حينما دلف الرئيس المنتخب عبدالفتاح السيسى من بوابات قصر الاتحادية، إلى مكتبه بالطابق الثانى غداة أدائه اليمين يوم ٨ يونيو ٢٠١٤.
لم يجاف الرئيس السيسى الواقع إذن عندما قال إنه تسلم مصر وهى شبه دولة.
إذا أردنا الحقيقة المجردة دون رتوش أو تزويق، فقد تسلم الرئيس دولة ذات مؤسسات متداعية، تحتاج إلى إعادة بناء، أو على الأقل عملية ترميم شامل..!
< < <
قبيل فتح باب الترشح للرئاسة، كان دستور ٢٠١٤ قد أجيز فى استفتاء شعبي، ليوضع العقد الاجتماعى للبلاد.
وعقب انتخاب الرئيس وتوليه المسئولية، وجد السيسى مؤسسة الرئاسة فى أسوأ حال.
ففى أعقاب ثورة يناير. أخرج من المؤسسة نخبة من الكفاءات بدعوى أنهم من رجال الرئيس مبارك، فى حين أن نظام ٢٣ يوليو استعان برجالات القصر الملكى فى ديوان الرئاسة ومنهم على سبيل المثال صلاح الشاهد كبير الأمناء.
وعندما جاء الدكتور محمد مرسى إلى «الاتحادية»، جرت عملية إفراغ أخرى للديوان من الكفاءات، وإحلال الأهل والعشيرة من أعضاء الجماعة وأقارب ومعارف مرسى مكانهم فى أهم المواقع..!
بعد ثورة ٣٠ يونيو، كان من الضرورى إخراج هؤلاء الدخلاء عديمى الخبرة ولا أقول الولاء، وإجراء إصلاح مؤقت.
لذا كانت أولى المهام أمام الرئيس الجديد عبدالفتاح السيسى هى إعادة بناء مؤسسة الرئاسة، ليس وفق القالب القديم، وإنما على أساس حداثى يواكب الدور المنوط بهذه المؤسسة فى بناء المشروع الوطنى المصري.
***
ليس الغرض هنا أن أتناول ما جرى من تغيير شامل فى وجه الحياة على أرض مصر، من مدن جديدة وطرق ومشروعات استصلاح زراعى هائلة ومحطات كهرباء حرارية ونووية  والبرنامج الشامل غير المسبوق لتطوير كل قرى مصر، وقبل ذلك مشروع ازدواج قناة السويس وغيره من إنجازات  كبري.
إنما الهدف أن نتذكر صورة الدولة المتداعية منذ سبع سنوات جرت، وكيف صار لدينا مؤسسات قوية متماسكة.
- مؤسسة الحكم يترأسها قائد صاحب رؤية ومشروع وإرادة صلبة للتنفيذ وهمة فى المتابعة لأدق التفاصيل، تعاونه مؤسسة رئاسة حديثة وحكومة كفاءات عالية المقدرة ينضم إلى صفوفها شخصيات وطنية مجتهدة يؤدون واجبهم وتخلفهم شخصيات أخرى تكمل المسيرة.
- المؤسسة التشريعية أصبحت ذات غرفتين،
مجلس النواب الذى اكتمل فصله التشريعى الأول ومدته ٥ سنوات، بعدما لعب دوراً كبيراً فى سن القوانين المكملة للدستور، وانتخب المجلس الجديد فى خريف العام الماضى ليبدأ منذ شهرين فصله التشريعى الثاني.
ومجلس الشيوخ الذى استحدثته تعديلات عام ٢٠١٩ التى أدخلت على دستور ٢٠١٤، وأعلنت نتائج انتخاب أعضائه فى سبتمبر الماضى.
- مؤسسة القضاء استعادت استقلاليتها بعدما زال حكم المرشد الذى افتأت عليها وتغول على صلاحياتها فى الإعلان الدستورى الذى صدر فى نوفمبر ٢٠١٢، وأعيد إصلاح وترميم صروح العدالة التى تعرضت للإحراق والحصار فى ثورة يناير وأثناء عهد مرسى.
- المؤسسة الدينية من أزهر وكنيسة تعمل فى توقير واحترام فى منظومة تآخ، بعدما اتخذت موقفا وطنيا يظهر عظمة مصر، حينما جلس فضيلة الإمام الأكبر وقداسة بابا الإسكندرية فى صدارة صفوف ممثلى فئات الشعب فى بيان الثالث من يوليو الذى أزال كابوس حكم الإخوان من على صدر الوطن.
- المؤسسة الإعلامية تحررت من سطوة الإخوان، وأخذت تباشر عملها لتذليل الصعاب الاقتصادية التى تعوق انطلاقتها، لاسيما فى المؤسسات القومية والإعلام الرسمي، وعليها يعول الجميع من سلطة ورأى عام فى النهوض بدورها المنشود واستعادة ريادة مصر الإعلامية فى المنطقة.
***
أما مؤسسات الدولة الصلبة، كالجيش والشرطة، وأجهزة الأمن والمعلومات، فربما لا تسعفنى هذه السطور فى الحديث عما جرى عليها من تحدىث وتطوير بعضه معلن ومعظمه يبقى فى طى الكتمان لاسيما فى شأن مؤسسة المعلومات الاستراتيجىة وأدوارها.
يكفى أن الجيش المصرى يصنف من أقوى ١٠ جيوش فى العالم، وأن الشرطة المصرية استخلصت دروس الماضى وأعادت بناء نفسها من قوى بشرية ومعدات ونظم حديثة ومنشآت راقية، لتباشر مسئولياتها الجسام فى تأمين المواطن على نفسه وأهله وممتلكاته ودرء أى مخاطر من الجرائم الجنائية وصولا إلى الجرائم الإرهابية.
يتبقى الحديث عن المؤسسة الدبلوماسية التى كانت فى ظل حكم الإخوان عاجزة عن إدارة علاقات مصر الخارجية بسبب تدخلات عصابة الجهل والعداء للوطن من قيادات الإخوان فى مهامها، واستطاعت فى غضون ٧ سنوات أن تنفذ السياسة الخارجية المصرية التى رسمها الرئيس السيسى بأدبيات جديدة وضعها، تقوم على استقلال القرار الوطنى والعلاقات المتوازنة مع كل القوى الكبرى دون استثناء والدفاع عن الحقوق العربية المشروعة واستعادة الدولة الوطنية فى الأقطار العربية التى عجزت فيما يسمى بـ«الربيع العربي»، عن الصمود فى وجه مخططات الحروب الأهلية والتفكيك.
***
ليس هذا فى حسبانى هو نهاية المطاف فى تطوير مؤسسات الدولة ولا فى تحديث الدستور.
ظنى أن انتقال مراكز قيادة مؤسسات الدولة إلى العاصمة الإدارية الجديدة فى خريف هذا العام، سيصحبه نقلة كبرى فى أدائها، فالانتقال ليس «عزالا» من مكان إلى آخر، وإنما هو قفزة فى الفكر وفى نظم العمل وفى قدرات البشر.
والمؤكد أن هذا الانتقال سيزيد منعة مؤسسات الدولة ضد أى مظاهر للفوضي، كتلك التى نفذها غوغاء عندما حاصروا مقار الحكومة والبرلمان ووزارة الداخلية، وحاولوا التقدم تجاه مبنى الأمانة العامة للقوات المسلحة، فى أوقات مختلفة من أيام ما بين الثورتين، فليس من الحصافة أن تترك مقار مؤسسات الدولة عرضة للمؤلفة جيوبهم فى تنفيذ مؤامرات تدبرها قوى معادية ربما تسعى فى وقت ما لشن هجوم مضاد فى وجه الأمة المصرية التى نجحت فى تعطيل وليس إلغاء مخطط رسم خريطة جديدة للمنطقة.
أما الدستور، فليست التعديلات الدستورية التى دعوت إليها هنا فى هذا المكان فى المقال الأول الذى نشر يوم ٢٨ ديسمبر ٢٠١٨ ضمن ٩ مقالات كتبتها عن الإصلاح السياسي، هو خاتمة الإصلاحات التى كان ينبغى أن تجرى على دستور ٢٠١٤.
وأحسب أن ثمة تعديلات ربما يجد مجلس النواب الجديد أنه حان الوقت للتفكير فيها بشأن إلغاء المادة ٢٤١ من الدستور الخاصة بالعدالة الانتقالية، التى تفتح بابا واسعا لتسلل جماعة الإخوان مجددا للحياة السياسية فى وقت ما ربما بحلول عام ٢٠٣٠ عندما تنتهى المدة الرئاسية الدستورية للرئيس السيسى إذا قرر خوض انتخابات الرئاسة المقبلة فى عام ٢٠٢٤، واختاره الشعب مجددا.
ثم إن المرحلة الانتقالية الثانية قد انتهت باعتلاء السيسى سدة الرئاسة فى عام ٢٠١٤.
أما العدالة فهى دائمة ولا يمكن أن تكون انتقالية أو مؤقتة.
وأرى أن تصميم هذه المادة وصياغتها جار على إرادة الشعب المصري، واعتقادى أنه لو كان قد جرى الاستفتاء على مواد الدستور منفصلة (مثلا) ما حازت هذه المادة على قبول الناخبين.
هناك مواد أخرى تحتاج إلى تحديث منها تلك التى تنظم العلاقة بين السلطة التنفيذية والتشريعية، والتى تنتقص من صلاحيات الرئيس فى تعيين الوزراء واعفائهم من مناصبهم فى إطار النظام الرئاسي.
هذا مجرد رأى مواطن متابع وصحفى منشغل بقضايا بلده.
واستعيد هنا عبارة مهمة قالها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كلمته يوم ٢٠ فبراير عبر الفيديو كونفرانس خلال الاجتماع التحضيرى لرؤساء المحاكم والمجالس الدستورية الأفريقية.
فقد قال الرئيس: إن دساتير بلادنا هى وثائق قانونية حية ترشد وتوجه جميع الجهود التشريعية والقانونية والأنشطة الاقتصادية والسياسية.
وأضاف: إنها- أى الدساتير- يجب أن تخضع دوما للمراجعة والتحديث.
وأظن كلام الرئيس لا يحتاج أى إيضاح..!
***
 لعل المؤسسة التى نتطلع لأن تشهد بناء حقيقيا لم تعرفه على مدار عقود مضت، هى المؤسسة السياسية وأعنى بها الأحزاب على وجه الخصوص، ومعها مراكز البحث والتفكير وجهات تفريخ وإعداد الكوادر السياسية.
فى رأىى المتواضع أن مصر لم تشهد أبداً تجربة ديمقراطية تباشر فيها الأحزاب المصرية دورها المتعارف عليه فى المجتمعات الليبرالية، بما فى ذلك الفترة بين ١٩٢٣ وحتى قيام ثورة يوليو، فما بين أحزاب القصر وتلك الموالية للاحتلال، كان حزب الوفد المعبر عن غالبية الأمة، ضحية للتزوير فلم يتبوأ سدة الحكم إلا أقل من ربع عدد سنوات هذه الفترة.
وفيما بعد.. ساد الحزب الواحد حتى عام ١٩٧٧ عندما انقسم الاتحاد الاشتراكى إلى ٣ منابر ثم أحزاب، ولم نشهد حتى قيام ثورة ٢٥ يناير، أى حراك حزبي.
حتى فى الفترة التى أعقبت ثورة يناير، اجتمع ترهل الأحزاب القديمة مع ضعف وهشاشة الأحزاب الجديدة، ليضعا الوطن وإرادة الناخبين لقمة سائغة فى أفواه جماعة الإخوان وحليفاتها من الأحزاب السلفية..!
للإنصاف.. هناك دفعة جرت على طريق إنشاء حزبين كبيرين كبداية لأحزاب كبرى أخرى هما حزب مستقبل وطن والحزب الجمهوري.. غير أن فكرة الائتلاف ما بين الأحزاب ذات البرامج والتوجهات المتقاربة، تظل محل اعتبار إذا أردنا حياة حزبية أكثر ثراء.
وأملى أن يحقق البرلمان الحالى بمجلسيه خطوات ملموسة على هذا الطريق.
أما مراكز تفريخ الكوادر السياسية والتنفيذية، فهناك تجربتان ناجحتان لا يمكن إنكارهما وأقصد تنسيقية شباب السياسيين والأحزاب التى برز منها شبان من رموز ثورتى ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، وكذلك البرنامج الرئاسى لتأهيل الكوادر، الذى أفرز قيادات تنفيذية شابة مؤهلة على مستوى نواب الوزراء ونواب المحافظين.

 الإصلاح السياسى عملية مستمرة، بدأت بإعادة بناء مؤسسات الدولة وفى مقدمتها مؤسسة الحكم بعد وضع الدستور الجديد، ولن تنتهى بتعديلات على الدستور ولا بانتخاب البرلمان بمجلسيه، والبناء السياسى متواصل ولم يتوقف.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة