صورة تعبيرية
صورة تعبيرية


البَصير

أخبار الأدب

الثلاثاء، 09 مارس 2021 - 02:16 م

كتب/ حسام‭ ‬مصطفى‭ ‬إبراهيم

انقطع النورُ بَغتةً!
كانت الساعة الثانية صباحًا تقريبًا وأنا وحدي تمامًا في المنزل، يمكنني ببساطة أن أمدّ يدي إلى الهاتف المجاور وأضيء الكشاف، لكني لسببٍ ما.. لم أفعل.. 
مكثتُ في ظلام دامسٍ سميكٍ كاملِ الرجولةِ مُحمّلٍ بكل الاحتمالات، فاتّصلتْ اللحظةُ بلحظة فائتة عمرها أكثر من خمسة وعشرين عامًا تقريبًا، عندما تركني أبواي -مضطرَّين- وحدي في المنزل، وأقاما ليلة في المستشفى؛ أبي مريضًا وأمي مرافقة، وأنا ابن الخامسة عشرة الذي يخشى الظلام كالموت أجلس في عزِّ النهار مضيئًا كلّ أنوار الشقة، قابضًا على كشاف يد ويّأرفعه أمامي متحفزًا، محاطًا بعدد لا يُصدّق من الشموع البيضاء و«أمشاط الكبريت»، عاجزًا عن فعل أي شيء إلا العرق وانتظار الظلام! 

لم أكن أنام إلا في ضوء «الونّاسة» الصغيرة المنبعث بنعومة من الصالة، وفي أغلب الليالي،أنتظر حتى يناموا جميعًا لأوقد نور حجرتي، ثم أظل مستيقظًا حتى اللحظات الأولى من «نور ربّنا» كي لا يفوتني إغلاقه قبل أن يستيقظوا ويكتشفوا خوفي من الظلام وأنا -حسب قولهم- طول بعرض!

كنتُ أرى في الظلام نُسخًا مني تكبرني عمرًا، تظهر لي فجأة من لا مكان وتحاوطني بترتيب معين، وتظلّ تحدق فيّ بلا هدف، فقط تحدّق، بنظرات طويلة خاوية لا تنكسر ولا يتغيّر اتجاهها ولا تتطوَّر لأكثر من هذا، دون أن ينطق أحدنا بأي شيء!

في يوم المستشفى، عندما جَنَّ الليلُ وأنا مُدجّجٌ بجميع أسلحة محاربته، لم ينقطع النور، ولم أتوقف عن التحديق في «اللُمَض» وكشافي اليدوي وشموعي، كأني أطمئن على جيشي الوحيد، بينما أشعرُ بضربات قلبي تتسابق في الدويّ كلما مضت ساعة ولم تحدث المواجهة!

لقد سيطروا عليَّ حتى أصبح أثرهم فيّ يتحقق حال غيابهم كما حضورهم، ولم يعد ظهورهم إلا مجرد استكمال لحبكة الحلم الكلاسيكية وتقاليد الدراما الأرسطية لا أكثر يزداد «نهجاني» كأنّي أُعاين الموت، وتنسحب من تحت قدمي الثوابت وتختفي أمام عقلي كل قواعد المنطق التي كنت أباهي بها وأدّعي أنها تحكم كل شيء من حولي، كنتُ أتحوّل تدريجيًا إلى درويش!
ربما من أجل غروري الوليد كمراهق قرأ كتابين فتصوَّر قدرته على فهم العالم بعقله المجرّد، جاءتني الضربة من لدنه!

كنت أهذي الآن بلا شك، وألتقط أنفاسي بصعوبة أكثر فأكثر، ثم أرى ومضاتِ تُنير وتنطفئ أمامي كأنّه أنا في عوالم أخرى ربّما أو حيوات عشتُها ونسيتها وإن لم تنسها روحي، وأنا أدرك أنني بين لحظة وأخرى سوف أفقد الوعي تمامًا وأتمدد أمامهم فريسة مهيضة ليفعلوا بي ما يشاؤون، إنها مسألة وقت فقط، ولعلي في هذه اللحظة بالذات اتخذتُ قراري الجنوني المباغت، وبلا مزيدٍ من التفكير قفزت مادًا يدي في هستيريا إلى «سكّينة» الكهرباء وفصلتُ النور تمامًا عن المنزل!

كان ضجيج قلبي الآن أكثر ارتفاعًا من ضربات الطبول البدائية في مواسم الصيد المليئة بالدم والصراخ واللعنات والتعاويذ السحرية ونزيف الحيوانات والبشر منذ أكثر من مليوني عام والمواجهة محتدمة بين الإنسان مستور العورة فقط وتدفّق الحياة في جسد الثور الضخم المهيب الذي وقف قبالته يتّحداه مدافعًا عن حياته التي لا يدري لماذا يجب أن يخسرها كي يعيش غيره، وصوت أنفاسي الحارة المتسارعة كفحيح أول القطارات البخارية الأسطورية في القرن الثامن عشر التي كانت تلتهم الفحم وتنفث السم في الهواء! 

كنتُ أكثر رعبًا من أي وقت مضى في حياتي، وأشعر بالأدرينالين يتدفق في عروقي كما لو أن له ملمسًا وكتلة، فترتعش شفتاي وتصطك أسناني وينفر عِرْق ما في رقبتي كأنّ له حياة ذاتية خاصة به، دون أي تحكم مني، وأنا أتراجع بظهري أكثر لألتصق بالحائط، أي حائط، أي جسم يشاركني لحظة ملامسة ويمنحني لحظة إيناس، محرّكًا رأسي كالمروحة في كل الاتجاهات من حولي، منتظرًا نُسَخي المقيتة لكي تنفّذ خطّتها أخيرًا وتفعل بي ما كانت تريده منذ البداية...
ربما شعرتُ بالندم للحظة، وبأنني تسرّعتُ في إعلان الحرب دون داعٍ ودون أن أستعدَّ كفاية.. ربما اندهشتُ أنني سلّمت نفسي هكذا بسهولة دون قتال وأنا الذي كنت أحسبُ نفسي صلبًا صعب المراس.. ربما افتقدتُ أبي وأمي أكثر من أي وقت مضى واكتشفتُ أني لم أقض معهما ما يستحقّان من وقت..

ثم...
لم يحدث أي شيء!
لم يظهر أحدٌ؛ لا أشباهي ولا أشباه سواي، لم «يُمصمص» عظامي شبح ولم يزرع قتيلٌ سكّينه في قلبي، لم ينهش كبدي رُخٌ ولا لدغتني أفعى فمسختني خنزيرًا، ولا جرجرتني الأرواح الشريرة من قدميّ إلى مقبرة قديمة ملأى بهياكل عظمية صارخة، لم ينفتح الدولاب عن بوابة سرية تقود إلى عوالم المعذبين في الجحيم ولم تهاجمني الملابس المُعلّقة على الشماعات وتصلبني إلى جوارها ولم يهبط طابق طائر وتختطفني مخلوقات بثلاثة أصابع لإجراء تجاربها عليَّ...

لا شيء البتّة!

بل ورويدًا انتظمتْ أنفاسي أكثر كأن أحدهم أطفأ مراجل النار في أعماقي بضغطة زر، وألِفتْ عيناي الظلام وانزلقتْ عليه بنعومة حتى صاحَبَتْهُ واتصلتْ بالأشياء مباشرة بلا وسيط، فبدأتْ -ياللهول!- ترسم لها صورًا حسية مباشرة غاية في الصفاء والدقة والأَلق فأبصرتُها، ربما أوضح من ذي قبل!

والتأم سمعي بالموجودات جميعها، فميَّز بسهولة صوت صرصور الحقل، وخفقات أجنحة الذباب، و«تزييق» مفاصل باب يفتح في مكان ما، وحفيف ريشة تحملها هَبّةُ هواء عابرة في الخارج، وآهة طويلة مُفجعة من آهات «الست» تنبعث من راديو بعيد مختلطة بـ«خرفشة» استاتيكية محببة!

ولحظة بعد أخرى، كانت ذرّات جسدي تنحل وتتفكك ثم تتحد بالظلام وتتماهى معه، حتى كأنَّ أحدنا امتدادٌ حيٌ للآخر، فأنا جسمه وهو روحي، أو أنا روحه وهو التجلّي الأعم والأشمل لكينونتي، لقد أدركتُ فجأة أنني ابنُ الظلام وربيبه الذي عقّه عمره كله، وما النور إلا الضدّ الذي يُظهِره ويُجلّي قوته، لا الأصل، بل إن الظلام هو النور والنور هو الظلام، وما عشتُ ما عشتُ إلا في ظلام أحسبُه نورًا ونورٍ أُعدّه -لجهلي- ظلامًا، لقد كنتُ أعمى واليوم صرتُ بصيرًا!

وفي تلك الليلة البعيدة، خلعتُ ملابسي جميعًا ومنحتُ نفسي للظلام بالكلِّية، جسدًا وروحًا وظاهرًا وباطنًا، بلا حوائل أو حواجز أو قناعات مُسبَقة، كنتُ أريده أن يُعمِّدني ويمنحني شهادة ميلاد حقيقية جديدة.

دقّتْ ساعة الصالة الثالثة صباحًا فجأة، فأدركتُ أنني مكثتُ في الظلام ساعة كاملة دون حراك، كنتُ جالسًا على طرف فراشي قابضًا بيدي على «الفَرْش» في تشنجّ لم أفهمه، دافعًا عيوني للأمام بقوة كأنما لتخترق المجهول أمامي..
شعرتُ فجأة بحركة إلى يميني، فالتفتُّ بحدِّة، كانت هناك نُسخٌ مني تصغرني عمرًا، تظهر لي فجأة بتتابع من لا مكان، وتحاوطني بترتيب معين، وتحدّق فيَّ بلا هدف، فقط تحدّق.. بنظرات طويلة خاوية لا تنكسر ولا يتغيّر اتجاهها ولا تتطوّر لأكثر من هذا، دون أن ينطق أحدُنا بكلمة...

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة