الرافعي والعقاد
الرافعي والعقاد


في ذكرى رحيله.. معركة «العقاد» مع «الرافعي» الأعنف في تاريخ الأدب العربي 

نادية البنا

الجمعة، 12 مارس 2021 - 03:39 ص

«إنّه لَيتفق لِهذا الكاتب من أساليب البيانِ ما لا يتفقُ مِثلُه لكاتب من كُتّاب العربية في صَدر أيامها»، ذلك كان رأي العقاد في أدب الرافعي عام 1917، في خصومة هي الأعنف والأشد في تاريخ الأدب العربي.


بداية الخصومة


نشبت الخصومة بين قطبي الأدب والفكر، الكاتب والمفكر الكبير الراحل عباس محمود العقاد، الذي يوافق اليوم ١٢ مارس ذكرى وفاته، مع الكاتب والمفكر الكبير الراحل مصطفى صادق الرافعي، منذ صدور كتاب "الديوان" للعقاد والمازني عام ١٩٢١، والذي وجه فيه العقاد للرافعي نقدًا واسعًا.


واستؤنفت المعركة بصدور كتاب "إعجاز القرآن" للرافعي، الذي سبق وأن امتدحه سعد باشا زغلول في "مسجد وصيف"، إذ يقول عنه: "كأنّه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم"، ولا شك أن هذا القول قد أشعل النار في قلب العقاد تجاه الرافعي لاسيما وأنه كاتب الوفد الأول، وله على سعد مكارم كثيرة.

   
وحينما التقى الرافعي العقاد صدفة، في مقر المقتطف، كان العقاد على غير طبيعته، متجهم الوجه عبوسًا، ولم يلبس الرافعي أن ينهي سؤاله عن رأيه في الكتاب، حتى فتح العقاد نارًا على الرافعي أشعلت بينهما الصراع الدائم. 


شكك العقاد في الكتاب وامتد حديثه ليطول القرآن ذاته وإعجازه، حيث دار جزء من الموقف على هذا النحو كما يرويه العريان في كتابه "حياة الرّافعي"، حيث قال الرافعي للعقاد، وكان الحديث يدور بينهما على الورق لأن الرافعي ضعيف السمع: "أنت تجحد فضل كتابي، فهل تراك أحسن رأيًا من سعد؟"، قال العقاد: "وما سعد وما رأي سعد؟" قال الرافعي، وقد قبض يده على ورقة العقاد: "أفتراك تصرح برأيك هذا في سعد، وأنت تأكل الخبز في مدحه، والتعلق بذكراه!"، رد العقاد: " ما لك أنت وسعد! إن سعدًا لم يكتب هذا الخطاب، ولكنك أنت كاتبه، ومزوره، ثم نحلته إياه لتصدر به كتابك فيروج عند الشعب". 


ومن هنا ثارت نفس الرافعي التي لم تكن ترضخ لمثل هذا إذ يقول الرافعي عن نفسه: "إنه يُخيل إلي دائمًا أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه، فأنا أبدًا في موقف الجيش تحت السلاح".

هجوم العقاد


أطلق العقاد رأيه في الرافعي فقال في الجزء الثاني من كتابه الديوان: "مصطفى أفندي الرافعي، رجلٌ ضيق الفكر، مُدرع الوجه، يركب رأسه مراكبًا يتريث دونها الحصفاء أحيانًا، وكثيرون ما يُخطئون السداد بتريثهم وطول أناتهم". 

اقرأ أيضا|البيت الفني للمسرح يكرم الفنانين من ذوي الاحتياجات الخاصة الشهر الجاري
وأتبع أيضًا في الفصل ذاته قائلًا: "إيه يا خفافيش الأدب: أغثيتم نفوسنا أغثى الله نفوسكم الضئيلة، لا هوادة بعد اليوم، السوط في اليد وجلودكم لمثل هذا الصوت خُلقت، وسنفرغ لكم أيها الثقلان"، فكان ذلك أدعى أن يجعل الرافعي يقرر وضع العقاد على السفود، أضف إلى ذلك اقتراب العقاد من مي زيادة مُلهمة الرافعي الأولى.

مقالات الرافعي


كتب الرافعي مجموعة مقالات نقدية لاذعة، جرد فيها العقاد من كل عظيم وألبسه كل مهترئ لا يستر، فألصق معظم أعماله بالسرقة الأدبية منها ما يقول الرافعي في مقاله "العقاد اللص" الذي نشر في مجلة العصور عدد شهر نوفمبر عام ١٩٢٩. 

 

قال فيه "في الثامن والعشرين من أغسطس ١٩٢٩ صدرت جريدة "الحال الأسبوعية" في القاهرة وفيها مقال عنوانه "لو..! تأثريها في تاريخ العالم"، وفي الثاني من سبتمبر صدرت مجلة "الجديد" مفتتحة بالمقال هذا عنوانه "لو" للكاتب القدير الأستاذ عباس محمود العقاد، وكلتا المقالتين مترجمة عن الأستاذ "هريتشو" مدرس التاريخ في جامعة لندن نقلًا عن مجلة "الأوتلاين" الإنجليزية". 


وتابع: "غير أن اللص الجبار، زعم لنفسه الشركة في علم أستاذ التاريخ، فساق الكتابة في أسلوب يوهم القارئ أنه هو صاحب البحث ومخترع العنوان، وأنه لم يأخذ من المؤرخ إلا ما يأخذه من "يفك قرشين"، يعطى بهما قطعة من الفضة، هي وهما سواء، فما أخذ إلا بقدر ما أعطى، وكان ذا مالٍ في قرشيه ولم يكن لصًا وهكذا يزيد العقاد على لصوص الأدب والكتابة، بما فيه من هذه الوقاحة العلمية الثقيلة التي هي سلاحه في كل ميادينه".

 
وغيره من النقد الصعب الشديد الذي لا يُحتمل، فقد تتبع الرافعي شعر العقاد معظمه بالنقد البلاغي واللغوي بغير رحمة، فقد فكك معظم أعماله، وأطاح بالعقاد أرضًا في هذا الكتاب. 


منها ما يقول في نقد أحد أبياته: "وختام قصيدة المراحيضي -لقب أطلقه الرافعي على العقاد سخرية- تغنّوا بما شاءوا، وغنيتُ بالطلى وكل يغني في الأنام بليلاه وكتب (الطلى) بالياء وهي بالألف لا غير، إذ هي بالياء معناها الرقاب، والسرقة في هذا البيت ظاهرة من قولهم: "كل يغني على ليلاه"، ولكن يبقى أن التي انقلبت فرسًا أو براقًا من قبل، انقلبت هنا امرأة اسمها (ليلى)، ألا يغور هذا العقاد الآن والقراء جميعا يبصقون على شعره؟". 


مرحلة الهدنة


ثم هدأت المعركة بين الرافعي والعقاد فترة إلى أن نُشر ديوان العقاد "وحي الأربعين" الذي لم يكن الرافعي يرغب قراءته إلا أنه ذات مساء كان جالسًا مع أحد أصدقائه، فسأله: "أي كتاب تقرأ هذه الأيام؟" فأجاب غامزًا: "وحي الأربعين"، فعزم الرافعي على قراءته ونقده بعد حين، وطلب من صديقه أن يشتريه لأجله، لأنه قد عزم منذ زمن ألا يدفع قرشًا في كتب العقاد، فقرأه الرافعي، وأملى مقاله النقدي عنه للعريان، ونشره الرافعي. 


ورد عليه العقاد مُوبخًا، في مقال بعنوان "أصنام الأدب" ينتقص فيه من الرافعي وإسماعيل مظهر، ناشر كتاب "على السفود"، غير أن العقاد لم يرد على معظم ما عابه به الرافعي، واستعاض عن الرد بالسب والشتم، ودخل للرافعي من مكان لم يكن يحسبه، فطعن في وطنيته، وأوهم قراءه أن الرافعي ما كان لينتقده لولا أنه العقاد كاتب الوفد السياسي، كان العقاد كاتب بعقل سياسي يحمل المفاجآت دائمًا، فكتب عن الرافعي مقالًا شديدًا، عنيفًا غرضه السخرية والإيلام وقطع السبيل وتدعيم الدليل في نقده.
 

انسحاب العقاد


ثم يرد العقاد، ليُعلن انسحابه من المعركة شاكرًا للذين أيدوه، فكان النصر للرافعي عند طائفة، لكنه خسر عطف الآلاف من محبي العقاد، غير أن الرافعي لم يترك العقاد وشأنه وتحين الفرصة ليرد له كيده بنفس خبثه السياسي وعندما خرج العقاد من الوفد وكتب فيه ناقدًا، استغل الرافعي الموقف وكتب في العقاد مقالًا بعنوان "أحمق الدولة" فكان المقال ذا رنين وصدى واسع .

 

هكذا كانت المعركة الأعنف في تاريخ الأدب العربي، رغم شدتها إلا إنها توضح كيف كان الكتاب على علم وبصيرة في هذه الحقبة الأدبية الفريدة التي لن تتكرر، يغوصون في بحار اللغة، ويضعون بصمتهم الفريدة، فتكون القصص الممتعة، والاستفادة العظيمة، رحم الله الأديبين.
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة