ياسر رزق
ياسر رزق


ورقة وقلم

الاسم بطل.. واللقب شهيد

ياسر رزق

السبت، 13 مارس 2021 - 06:28 م

معركتنا‭ ‬بعد‭ ‬دحر‭ ‬الإرهاب،‭ ‬هى‭ ‬معركة‭ ‬الوطنية‭ ‬المصرية‭ ‬ضد‭ ‬فكر‭ ‬الإخوان‭ ‬والوعى‭ ‬ضد‭ ‬التطرف،‭ ‬وهنا‭ ‬يأتى‭ ‬دور‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬لمكافحة‭ ‬الإرهاب‭ ‬والتطرف

لا أذكر على وجه الدقة متى سمعت كلمة "شهيد" لأول مرة. لكنى أظن أنها كانت فى وقت ما من حرب الاستنزاف.

سمعتها مقرونة باسم الطيار شومان، عريس جارتنا الجميلة، كانا يستعدان للزفاف، لكنه زُفًّ إلى السماء حيث ما عند الله لا يخطر على قلب بشر.

كنت صغيراً جداً لحد أنى تعجبت، كيف يفرح الذين يفارقهم عزيز ويفارقونه لرحيله، وكيف فى نفس الوقت تدمع عيونهم وتدمى قلوبهم سنوات وسنوات لفراقه؟!

بعد أعوام قليلة، وفى أعقاب نصر أكتوبر، وعقب وقف إطلاق النار، تعجبت أكثر حين وجدت أهل الحى من المهجرين أمثال أسرتى أبناء مدن القناة فى مدينة الزقازيق، يهنئون أسر الشهداء بأكثر مما يباركون لأسر العائدين بسلام، ووجدت المكلومات من أمهات الشهداء يقدمن لجيرانهن الكعك، بينما تصدح أجهزة الكاسيت −وكانت حدثاً جديداً وصيحة فى ذلك الوقت− بأغنية "أم البطل" للفنانة شريفة فاضل، وكانت ومازالت أغنية رائعة الكلمات، تشدو بها الفنانة العظيمة بنبرات بديعة يكاد يشرخها البكاء، فقد كانت هى أيضاً أم بطل شهيد هو الطيار السيد بدير نجل الفنان الكبير السيد بدير، الذى استشهد أثناء الاستنزاف.

***

كان لى قريب من بعيد من ضباط الصاعقة، جاء لزيارتنا بعد عودته من الحرب. جلسنا نستمع إليه وهو يروى لنا أنه شاهد على أرض سيناء رجالاً بيضاً طوالا يرتدون ملابس بيضاء، يحفزونه وزملاءه على التقدم. وحينما سألوهم من أنتم؟.. قالوا لهم: إننا إخوانكم من شهداء 67!

ارتج جسدى الصغير، وارتعشت وأنا أسمع ما قيل من فرط الرهبة، لكن بعدها قال لى كبار فى العائلة: "إن هذه تخيلات، ربما داهمت قريبنا ضابط الصاعقة، بسبب الصيام وشمس الصحراء فوق رمال سيناء"!

ثم قيل لى: إنهم قد ماتوا، ورحلوا إلى السماء، فكيف يعودون إلى الأرض يشجعون المقاتلين الأحياء، أو يقاتلون معهم كما روى مقاتلون آخرون عائدون؟!

لكن بعد قرابة خمسين عاماً، أجدنى أصدق تماما ما قاله لى ضابط الصاعقة المظفر!

فلم نعهده كذاباً، ولا أظنه كان يلاحق فى خياله سراباً من الأوهام.

ثم إن الشهداء أحياء عند ربهم، يرزقهم، ويسخرهم فيما يشاء، يطلون على أحبائهم حينما يريدون، ويقاتلون مع جند الله بأمره، يراهم الرفاق أو يكونون معهم جنداً غير مرئيين، يتوقون لأن يقتلوا عشر مرات، لينالوا الشهادة من جديد، وينعموا فى كل مرة بمشهد استقبال الشهداء فى الملكوت الأعلى، مثلما حدثنا سيد الخلق.

***

فيما بعد، سمعت روايات من قادة كبار وقيادات وضباط قاتلوا فى حرب رمضان عن رفاقهم الذين استشهدوا.

تقريباً كلهم كان عندهم علم يقينى بأن الشهادة ستكون من نصيبهم، بل إن أحد هؤلاء، وكان هو الآخر طياراً مقاتلاً قال لزميله الملازم طيار طارق دنيا قبل إحدى الطلعات، تركت لك كذا من الطعام لتتناوله بعد عودتك من هذه الطلعة. عاد طارق ولم يعد زميله، ووجد الطيار الشاب طبق الحلوى الذى طلبه زميله خصيصاً يوضع أمامه على مائدة الإفطار.

كلهم كانت تنطق وجوههم بوسامة رجال، يزيدها بهاء إشراقة نور تطل من محياهم، وكانت أخلاقهم من صدق وإخلاص ورجولة متأصلة هى أبرز سماتهم.

كل حين أستعيد كلمات صديق قديم، كان ملازماً فى حرب أكتوبر هو الملازم صلاح فتحى، وكان من رجال الاستطلاع الإلكترونى، وهو يروى لى كيف التقطت أذناه إشارة من مقاتل طيار بطل هو الرائد صبحى الشيخ، يتلو فيها الآية القرآنية: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى"، ثم ينطلق بطائرته المصابة نحو دشم طائرات العدو، وقبل صوت الانفجار، نطق البطل بالشهادتين بصوت رائع مهيب، وصفه صديقى بأنه قادم من مكان آخر، لعله الجنة!

***

سيد شهداء الجيش، هو الفريق أول عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة أثناء حرب الاستنزاف.

نال الحسنى التى اختارها له ربه يوم ٩ مارس عام ١٩٦٩، فى موقع المعدية "نمرة 6" شمال شرق الإسماعيلية.

انفجرت بجواره دانة مدفع، فرغت الهواء، فأدت إلى وفاته من وقع الانفجار.

كان يمكن لرئيس الأركان أن يتابع استعدادات قواته من مقر قيادة الجيش الثانى جنوب غرب الإسماعيلية، أو أن يتفقد وحدة خلف الخطوط الأمامية.

لكنه آثر أن يكون وسط رجاله فى أقرب نقطة فى الجبهة تواجه قوات العدو، وهى "نمرة 6"، التى لا تفصلها عن مدافع العدو وقناصته على الساتر الترابى شرق قناة السويس سوى ١٨٠ متراً هى عرض صفحة القناة.

إنها الشجاعة والقدوة وعدم الاكتراث بالموت فى سبيل الوطن.

ذلك اليوم، اختير ليكون يوماً للشهيد نحيى ذكراه فى كل عام.

***

فقدنا فى حروبنا منذ عام ١٩٤٨ وحتى ١٩٧٣، نحو مائة ألف شهيد من العسكريين والمدنيين.

فى حرب أكتوبر، فقدنا أكثر من خمسة آلاف شهيد، منهم ١٧٤ شهيداً فقط فى عملية العبور بعد ظهر يوم السادس من أكتوبر، بعدما كانت التقديرات تقول إن العدد سيتجاوز ١٢٠ ألفاً.

أما حربنا لدحر الإرهاب، ضد الكفار التكفيريين، فهى أطول حرب متصلة خضناها فى تاريخنا المعاصر.

فبينما استغرقت حرب الاستنزاف ثلاث سنوات، وحرب أكتوبر 22 يوماً، طالت هذه الحرب إلى نحو سبع سنوات.

تلك الحرب هى الأصعب، لأنها لم تكن ضد جيش نظامى، ترصده، وتتسلل إلى مواقعه، وتعاينها، وتهاجمه بقواتك الجوية والبرية والبحرية، وتلحق به الهزيمة باستخدام تكتيكات القتال الحديثة.

لكننا كنا نجابه ميليشيات غير منظمة فى تشكيلات عسكرية، فهى تعمل كعناقيد العنب، تعتمد على الإغارة والتفخيخ والتفجير، انطلاقا من كهوف ومخابىء وأوكار، فيما يعرف بالحرب "غير المتوازية".

دفعنا ثمناً هائلاً من أرواح ودماء رجال الجيش والشرطة، واستطعنا تدمير الجهاز العصبى لتنظيمات الإرهاب، وبنيتها الأساسية والعسكرية، ودحر ميليشياتها، أى أننا بأى معايير استطعنا تحقيق النصر على الإرهاب، لكن الإرهابيين ليسوا مقاتلين وإنما هم مجرمون.

والحرب تتوقف، لكن الجريمة لا تنتهى..!

***

احتفال هذا العام بيوم الشهيد، كان له مذاق مختلف.

فى هذا العام.. كرم الرئيس السيسى أسماء شهداء فى حرب الاستنزاف، وفى حرب أكتوبر، وفى الحرب ضد الإرهاب، من رجال القوات المسلحة، فى إشارة لأن كل شهداء مصر هم حلقات فخر فى سلسلة ثمينة من قيم البسالة والتضحية والفداء من أجل الوطن فى كل الحروب ضد أعداء مصر، مثلما اعتاد أن يكرم شهداء الشرطة فى عيدهم من كل عام.

وللمرة الأولى فى يوم الشهيد، كرم الرئيس شهداء "الأوفرول الأبيض" من الأطباء وعناصر الرعاية الصحية الذين ضحوا بأرواحهم أثناء عنايتهم بمصابى فيروس "كورونا".

لفت انتباهى فى هذا الاحتفال عدة ملاحظات:

أولها: الروح المعنوية العالية لمصابى حربنا ضد الإرهاب الذين فقدوا بعض أطرافهم من أذرع وأرجل، وبعض حواسهم كالسمع والبصر، وبرغم ذلك فقد كان يملؤهم الرضا بما قدموه للوطن، والإصرار على القتال مع زملائهم برغم إصاباتهم الجسيمة.

وثانيها: علاقة الأخوة وامتزاج الدم بين الشهيد الرائد سعيد والمصاب جورج، وأسرتيهما، وهى العلاقة التى عجزت جماعة الغدر والخيانة وحلفاؤها عن فصمها بكل ما ارتكبته من جرائم فى حق بيوت الله واستهداف المصلين المسيحيين والمسلمين.

وثالثها: مشاعر السكينة والطمأنينة فى قلوب أسر الشهداء، الذين، لا يبخلون على بلادهم بأرواح حبات قلوبهم رغم الوحشة ولوعة الفراق.

أما نجل الشهيد مصطفى عبيدو، فقد أظهر رغم صغر سنه، شجاعة ورجولة مبكرة، حين أبدى رغبته فى الالتحاق بالكلية الحربية حين يكبر، وارتدى الزى العسكرى فى الاحتفال، وعلى غير التقاليد العسكرية، بادره المشير الرئيس السيسى القائد الأعلى بتقديم التحية العسكرية له عرفانا بتضحية والده وبروح الرجال التى أبداها هذا الطفل الصغير الذى بدا كأب لأخته "لجين" الأصغر منه مباشرة.

***

كنت أقول دائماً ومازلت أرى أن الأداة العسكرية الأمنية، كانت الأكثر فعالية فى مجابهة التنظيمات الإرهابية، وكانت رأس الحربة فى تحقيق النصر على الإرهاب، الذى يتحقق عندما نتمكن من كسر إرادتهم وتحطيم مسعاهم لبسط سيطرتهم على سيناء.

ونحن فى الحقيقة لم نكن نحارب مجرد عصابات تكفيرية متطرفة.

بل كنا نحارب تنظيمات منضوية تحت لواء تنظيم "داعش"، مثلما قال الجنرال كينيث ماكينزى قائد القيادة المركزية الأمريكية خلال زيارته لمصر الشهر الماضى، الذى أشار إلى أن القوات المصرية جابهت هذا التحدى بحزم وذكاء شديدين وأصبح لها اليد العليا.

كانت مصر إذن، وما سبق أن قال الرئيس عبدالفتاح السيسى، تحارب الإرهاب بمفردها نيابة عن العالم، وتقاتل تنظيمات وميليشيات جىء بها من مناطق شتى فى سوريا وغيرها، لتبسط هيمنتها على سيناء بالإرهاب، بعدما عجز غيرها عن ذلك بالحرب، وتنقض على الدولة المصرية عبر الترويع والقتل، بعدما فشلت فى ضربها عن طريق وكلائها بالسياسة واقتناص السلطة..!

***

لكنى الآن، وبعدما شارفنا على تحقيق النصر العسكرى على جماعات الإرهاب، أرى أن هناك أدواراً لجهات أخرى وأدوات أخرى غير الأداة العسكرية الأمنية، آن الأوان لها لكى تتصدر المجابهة الشاملة فى المعركة ضد التطرف والإرهاب.

وأعنى تحديداً.. التعليم، والثقافة، والشباب، والإعلام.. بجانب المؤسسة الدينية.

فحينما يمتد التعليم، وتنتشر الثقافة، ويستنير الشباب، وينهض الإعلام، وتعلو قيم التسامح، ينحسر التطرف ويتقوقع وتنسد روافده، ومن ثم تنقطع كل الطرق المؤدية للإرهاب.

معركتنا إذن، هى معركة الوعى فى مواجهة التطرف.

معركة الوطنية المصرية ضد فكر الإخوان الخيانى.

ولعلى أقترح أن يتصدى المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب والتطرف، لمهمته الرئيسية فى تقديرى، بعدما نجحت أجهزة الدفاع والأمن والمعلومات فى دورها على أكمل وجه فى توجيه ضربات إلى قلب الإرهاب، وهى مكافحة التطرف عبر خطة شاملة، يعكف عليها خبراء فى مجالات الثقافة والتعليم والشباب والإعلام والأزهر والكنيسة، تتجاوز العبارات الإنشائية، وتدلف مباشرة إلى وضع برامج واقعية فعالة ومجدية وموقوتة بأزمنة محددة، لنشر الوعى وسد منابع التطرف.

وليس هناك الآن أعذار للتعلل بأن الفقر هو مفتاح التطرف، بعد أن باشرت الدولة مشروعات تنموية لا نظير لها ولم يسبق لها مثيل فى تنمية سيناء وتطوير القرى الفقيرة، بل وقرى مصر بأكملها والنهوض بصعيد مصر.

ثم إن تلك المقولة محل نظر وجدل، لأن قادة الإرهاب مثل أسامة بن لادن ومحمد الظواهرى وغيرهم من كبار الأثرياء وأبناء أسر ميسورة، كما أن أئمة التطرف من قيادات جماعة الإخوان من أصحاب الملايين والمؤسسات المليارية..!

أتمنى أن نجد برنامجاً متكاملاً واضحاً، يضعه المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب والتطرف، وتستعين به الجهات التنفيذية ذات الصلة، يمزج بين قصور الثقافة وبيوت الشباب فى منظومة عمل واحدة، تعطى منتوجاً أعلى كفاءة فى نشر الذوق والرقى والفنون والآداب وتجذب الشباب فى القرى والمراكز وتقطع الطريق على تسلل الأفكار المتطرفة.

ولا يكفى فقط تنقية المناهج التعليمية من الأفكار الشاذة والقضايا التى لا يستقيم عليها دليل، بل أظن أن مادة التربية الوطنية، لابد من إيلاء أكبر قدر من الاهتمام بها، وأن تكون مادة امتحان لا يعبر الطالب السنة الدراسية إلا إذا نجح فيها، فليس من صالح الوطن أن يكون لدينا مهندس أو محاسب أو خريج فى أى تخصص، ينجح بتفوق فى دراسته، بينما هو غير دارس أو ضعيف فى تنشئته الوطنية.

وليس من المعقول، أن ينشغل بعض الإعلام بقضايا فرعية وهامشية تستحوذ على اهتمام وقتى وتؤجج خلافات لا معنى لها، فى وقت نحتاج فيه إلى تضافر الجهود فى معركتنا المستمرة ضد التطرف والتخلف وسعينا لتعميق وعى المواطن بحاضره ومستقبله والتحديات التى تجابهها بلاده.

***

احتفاؤنا الحقيقى بيوم شهداء مصر فى كل الحروب، يكون بعدم خذلان تضحياتهم التى لا يدانيها أى عطاء.

كل قطرة دم أريقت على هذه الأرض الطيبة، فى سبيل إعلاء راية الوطن، لابد أن نقابلها بفيض عرق وجهد وعزم على إعلاء بنيان مصر ورفع مستوى معيشة أبنائها، وصون ترابها، ودحر التطرف بكل الوسائل والتدابير.

الشهيد سوف يسعد فى عليائه حين يرى رفاقه على الأرض يحتفظون بالعلم شامخاً خفاقاً، وحين يجد دماءه تنبت ثمراً وزهراً وخيراً فى وطن يستحق كل تضحية.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة