إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

عصيان مع وقف التنفيذ!

إيهاب الحضري

الخميس، 18 مارس 2021 - 07:53 م

 

رفضتْ فتح الباب لزوجها العائد من عمله، بعد أسبوع قضاه فى مدينة بعيدة. لم تستجبْ لجيران حاولوا الوساطة، وأكدتْ أن حياة أبنائها أهم من استقبال العائد بفيروساته!

مناورة فاشلة
الجمعة:
فى تلك المرة، قررتُ أن أتحايل على الأحكام العُرفية. لم أدق الجرس كعادتي. استعملتُ المفتاح لأتسلل داخل الشقة دون أن يشعر بى أحد. بمجرد فتح الباب وجدتُ زوجتى تُهرول قادمة. يبدو أنها توقعتْ قيامى بتلك المناورة، فأسرعت لاستقبالى بمجرد سماعها صوت المفاتيح. بحسم أشارت للحذاء وقالت: برة الشقة! استسلمتُ دون مناقشة وخلعتُه. استقر بجوار أحذية أخرى ظلتْ مطرودة ليومين كاملين! تحت حراسة مشددة من مسافة لا تقل عن متر بيننا، اقتادتنى إلى الحمام كى أخلع ملابسي، وأقوم بغسل يديّ ووجهي، قبل «رشي» بشلال من الكحول. حتى هذه اللحظة ظل التعامل حاسما يكتسى بصبغة شبه رسمية. لكن بمجرد اكتمال إجراءات الحجْر الصحى ابتسمتْ زوجتى قائلة: حمد الله على السلامة! واعتبرتُ نفسى أسعد حظا من أزواج آخرين.
قبلها بأيام كنتُ قد قرأتُ خبرا، عن امرأة رفضتْ فتح الباب لزوجها العائد من عمله، بعد أسبوع قضاه فى مدينة بعيدة. لم تستجبْ لجيران حاولوا الوساطة، وأكدتْ أن حياة أبنائها أهم من استقبال العائد بفيروساته المُحتملة! وفى النهاية اضطر الرجل الطريد للإقامة عند ابن عمه. أعتقد أن هناك إشارات يُرسلها لنا القدر فى الوقت المناسب، فوقت قراءتى الخبر كنتُ أفكّر فى مؤامرة لقلب نظام البيت، والاعتراض على الأحكام العُرفية المُبالغ فيها. لكن الواقعة ردتْ إلىّ صوابي، وقررتُ التراجع عن العصيان. حمدتُ الله على نعمة السماح لى بدخول المنزل، رغم حالة رعب مُسيطرة، جعلت الكثيرين يُحوّلون منازلهم لمحميات مُغلقة.
مر عام كامل على تلك الأحداث، التى بلغت ذُروتها فى مارس الماضي. الإقبال على الكحول وقتها جعله من أبطال «السوق السوداء». زادتْ أسعار الكمامات بعد أن ظلت لزمن طويل سلعة راكدة، لا يرتديها إلا أجانب خائفون من هوائنا، ومصريون موسوسون أو مُقلّدون! سيطر الرعب على البعض وأصبح الموت هاجسا، فاختاروا العزلة بإرادتهم، قبل أن تفرضها الحكومة بالإكراه، لتواجه ممارسات ملايين المستهترين.
الآن تبدّلت الأوضاع. صحيح أن الخائفين حافظوا على شُحنة الفزع، لكن آخرين يعيشون حياتهم كما لو كانت الظروف طبيعية، بعد أن تجاوزوا مرحلة الخوف من الموت. ننساه جميعا فى ظروفنا العادية، حتى يضرب المحيطين بنا فجأة. ووسط غفلتنا يتحوّر الفيروس، ويُنتج سلالات جديدة لمقاومة حربنا اليائسة عليه. بعضنا مقتنعون بأن «كورونا» أصبح ضعيفا، رغم أنه يزداد توحشا. تقترب الإصابات من أقارب وأصدقاء بسرعة، تتّبع مبدأ العدالة الاجتماعية فلا تُفرّق بين جنس أو عُمْر، ولا تُميّز فقيرا عن غني، وتتعالى الصرخات عالميا، للمطالبة بتحقيق العدالة نفسها فى توزيع اللقاحات.
بعد عام استعدْتُ حرية الدخول دون ضوابط. زجاجة الكحول التى كانت تفرغ فى يوم باتتْ مُهملة. لا يختلف الأمر لدى الكثيرين، حيث نتهيأ جميعا لرمضان مختلف عن سابقه، نسترد فيه حميمية العزومات وإقامة التراويح والجلوس على المقاهى ليلا. وبدوره يستعد الفيروس اللعين لهجمة مُرتدة فى الموجة الثالثة، يسترد فيها هيبته المفقودة!
رمسيس.. غمرة
السبت:
تمضى السيارة وسط الزحام. تعانى من شيخوخة مُبكرة، وزادها التكدس بطئا. المسافة من رمسيس إلى غمرة، تحولتْ إلى رحلة عذاب مسائية. المخالفات سيدة الموقف، وحماقات بعض السائقين جعلت البقاء للأقوى. تكتمل المعاناة عند الاقتراب من نقطة الالتحام. «يو تيرن» يخدم القادمين من العباسية الراغبين فى الاتجاه إلى حى الظاهر. يفترض كل من يستخدمه أن له أولوية الاتجاه فجأة إلى اليمين، ليقطع شارع رمسيس اعتمادا على سطوة «الطيش» فقط. من ينجو من هذه المنطقة يستمر فى السير بسرعة السلحفاة، حتى يكتب الله له النجاة بتجاوز تقاطع شارعى رمسيس وبورسعيد، حيث تحولت «غمرة» إلى موقف عشوائى لا تجد من يواجهه.
رغم ذكرياتى غير السارة مع «ونش المرور» أشعر بافتقاده. فقد نجح فى فرض سيطرته على معظم شوارع مصر الجديدة ومدينة نصر، وبالفعل استعادتْ انسيابيتها. يكفى فقط أن يُطلق «سارينته» كى يشعر كل مستهتر بالرعب، وتقل معاناة الطرق من انسداد الشرايين. التكدس ليس أساس المشكلة، لكنها السلوكيات الخاطئة، التى تحتاج لمواجهة حاسمة ولو بـ»سارينة» خادعة!
«ما طلعش من البيضة»
فجأة تنقض علينا سيارة أكثر شبابا، تمنحها حداثة سنها كل مقومّات البطش! يلفتُ قائدها انتباهي، فتى صغير «لسه ما طلعش من البيضة». تستوقفنى هذه العبارة البلاغية. اختفتْ مع عشرات الجُمل والكلمات المنقرضة، بعد سيطرة مصطلحات جديدة، تظهر وتعيش لفترة قصيرة قبل أن تختفى سريعا، فى عصر يعتبر « الساندويتش» وجبة أساسية. انطلقت العربة الطائشة دون خسائر لحُسن الحظ. أعود لـ»السرحان» الذى أصبح منْحة، منذ توقفتُ عن قيادة السيارة بنفسي. منحنى ذلك نعمة عدم التركيز مع السلبيات المحيطة، وخفّف نسبيا من مضاعفات «حرقة الدم»، التى تزيد مُعدّلات مرضيّ السكر والضغط! تقفز العبارة البليغة إلى ذهني، وأتحسّر على أزمان كانت العامية تبتكر فيها مصطلحاتها، لتأتى مُعبّرة عن مضمونها بمنتهى الدقة.
قد لا يعرف الكثيرون أن عبارة «ما طلعش من البيضة» أقدم مما يتصورون، ففى نقش مصرى قديم يخاطب رجال الحاشية ملكهم رمسيس الثانى قائلين: «لقد وضعت خططا حينما كنت لم تزل فى البيضة فى وظيفة طفل أمير». وفى نص آخر يخاطب رمسيس مستشاريه، ومن بين ما قاله: «كنتُ لا أزال طفلا حتى أصبحتُ ملكا، ومنذ أن كنتُ لا أزال فى البيضة كان العظماء يُقبّلون الأرض أمامي، وأنا لم أزل أميرا وراثيا على العرش»!
أشعر بالأسى.. حتى منتجات البيض أصبحتْ أقل جودة، مقارنة بالماضى البعيد!
سهرة مع القانون
الثلاثاء:
يُصدر المحمول رنة. أفتحه متوقعا رسالة فأجد إشعارا من «يوتيوب». كدتُ أقفل الجهاز لكننى تراجعت. الموقع الشهير يُرشح لى مشاهدة» فيديو «لفرقة من الشباب البلجيكى يعزفون على آلات القانون أغنية «يا مسهرني». أستمتع بشجن الآلة التى تُعتبر أم الوتريات. ينقل البلجيكيون عصارة إبداع الشيخ سيد مكاوى ببراعة. أتساءل هل يمنحهم اللحن المتعة نفسها التى تنتابني، أم أنهم يكتفون بالأداء المتميز دون إحساس؟ خاصة أن الموسيقى شعور يتنامى فينا منذ الطفولة. ويرسم ملامح ذائقتنا النابعة من بيئتنا.

قبل نحو ربع قرن، حضرتُ مع صديقة رومانية حفلا موسيقيا فى مسرح الجمهورية، لم تكن الموسيقى وحدها الحاضرة. فقد كان المعادل البصرى المصاحب لها «تابلوهات» راقصة لإحدى فرق الفنون الشعبية، بدأ العرض بموسيقى لا أذكرها. عربية لكن بصبغة حديثة شبه غربية، كانتْ الصديقة تتمايل على الإيقاع بينما أستمع فى هدوء. بعدها انطلقت أنغام أغنية «حكم علينا الهوى». تبادلنا الأدوار دون اتفاق، وأخذتُ أتمايل طربا وأدندن بكلمات الأغنية، وبدتْ هى غير مُتفاعلة. واعترفتْ لى أنها تابعت انفعالاتى بدهشة، لأنها لم تشعر أن الموسيقى التى داعبتْ مشاعرى حرّكتها!
أفيق من تداعيات الأفكار على سؤال يشغلني: ما لذى دفع «يوتيوب» لترشيح هذه الفرقة تحديدا لي؟ قبلها بيوم كنتُ قد أجريتُ عملية بحث عن أغنية «إنت الحب»، استمعتُ لمقاطع منها بصوت أم كلثوم وآخرين، لكن القانون لم يكن البطل. أعرف أننا جميعا تحت رقابة المواقع، ومعظمنا يذكر حالات قام فيها بالبحث عن سلعة ما، ففوجئ بالإعلانات التى ترتبط بها تحاصره لفترة. لكن هل وصلت الرقابة لدرجة تحديد ما تهواه الذائقة؟ بعدها بساعة جاءنى إشعار جديد. يبدو أن استجابتى شجّعت مُحرّك البحث على التمادي. قررتُ التمرد لكى لا يتجرأ أكثر، لكن مناعتى انهارت أمام صورة آلة القانون. التعليق المصاحب يشير إلى أن أغنية «إنت عمري» هى البطل. أضغط الزر فتبدأ الدكتورة مايسة عبد الغنى ساحرة القانون عزفها، لأتمايل من جديد وقد نسيتُ ثورتى على الرقابة.
يجذبنى أداء الدكتورة مايسة، للحن العبقرى الذى أبدعه الرائع محمد عبد الوهاب، أتماهى مع الموسيقى، وتستحضر ذاكرتى الكلمات: «هات عينيك تسرح فى دنيتهم عينيا.. هات إيديك ترتاح للمستهم إيديا.. يا حبيبى تعالى وكفايا اللى فاتنا.. هو فاتنا يا حبيب الروح شوية؟». تتنقّل الآلة الشهيرة بين الشجن والبهجة، لتُثبت أن المتناقضيْن يُمكن أن يتلازما، بشرط أن يستطيع الشخص السيطرة على قدراته. هذا ما فعله الفارابى عندما عرض الآلة لأول مرة بعد أن اخترعها. عزف عليها فضحك الحاضرون فى مجلس سيف الدولة الحمداني، ثم اختار لحنا آخر فبكوا لمجرد تنويع النغمات!
أعشق الوتريات لأنها تمس أوتار مشاعري. كانت أمنيتى فى شبابى أن أتعلّم العزف على العود، وبدأتُ المحاولة بالفعل لكنى فشلتُ. فرحتُ عندما أعرب ابنى بعدها بسنوات عن رغبته فى تكرار التجربة ذاتها. على الفور اشتريتُ له العود المطلوب. بعد عدة حصص تراجع اهتمامه، وبدا أكثر تفاعلا مع «أغانى المهرجانات»!!

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة