سمير الجمل
سمير الجمل


يوميات الأخبار

تحت العمامة.. «علامة»!

الأخبار

الإثنين، 22 مارس 2021 - 08:03 م

سمير الجمل

هؤلاء فقراء المال والبيئة الذين أصبحوا أغنى الأغنياء فى قلوب الناس وسجلات التاريخ.. فعلوا لأنهم تصالحوا مع الله

المبتهل الطنطاوى لايقدر بحال أن يرفض طلبا للرئيس لكنه بملابسه الأزهرية لايعرف كيف ستكون ردود أفعال الناس عليه.. فى هذه الخلطة غير المسبوقة وقد خفف عليه بليغ المسألة عندما اختار له الشاعر الصوفى عبدالفتاح مصطفى لكى يعد له الابتهالات التى جاءت بديعة:
مولاى إنى ببايك
قد بسطت يدي
من لى ألوذ به إلاك ياسندي
اقوم بالليل والأسحار ساجية
أدعو وهمس دعائى بالدموع ندي
بنور وجهك انى عائذ وجل
ومن يعذ.. بك لن يشقى إلى الأبد
مهما لقيت من الدنيا وعارضها
فأنت لى شغل عما برى جسدى
تحلو مرارة عيشى فى رضاك
وما أطيق سخطا على عيش من الرغد
وكانت الاشارة المتفق عليها من خلف زجاج الاستديو.. اذا انسجم النقشبندى وتوحد مع الكلام واللحن أن يخلع العمامة.. وفعلها بقوة.. وكانت هذه الابتهالات التى تهز القلوب والمشاعر ومازادت الجبة والقفطان والعمامة إلا جمالا ووقارا..
فى الاستراحة.. يحكى بليغ للنقشبندى كيف أن الجزء الأكبر من تاريخ الفن والأدب اعتمد فى العشرينات والثلاثينات وصولا الى الخمسينات على المشايخ أو أرباب الكتاتيب الذين استهلوا مشوار الحياة مع شيخ الكتاب يحفظون القرآن الكريم على يديه.. وقد كان هذا هو حال ابنة الشيخ ابراهيم البلتاجى المنشد والمداح.. الذى استقطب ابنته الصغيرة لكى تكون مع اخيها جوقة التخت أو الكورال.. حتى تقدمت وأصبحت هى «البريمو».. وتضع العقال على رأسها وتخفى جسدها الصغير فى بالطو.. حتى انها بفضل حفظ كتاب الله وحبها للإنشاد نجحت فى تأليف بعض ما كانت تقدمه:
صلى يارب وسلم
على النبى بدر التمام
ياحبيبى يامحمد انت مصباح الظلام
انت سر الله حقا والمظلل بالغمام
أنت نور أنت بدر أنت كهف للأنام
والبنت ذات العقال هى من قرأت عيون الشعر العربي. وقدمت القصائد الفصيحة سهلة ميسورة لعامة الشعب وهى التى كانت تفخر دائما وأبدا بأنها علمت نفسها بنفسها حتى قالوا عنها ابنة الشيخ ابراهيم البلتاجى.. بلا مدرسة أصبحت هى نفسها جامعة كبرى اسمها «أم كلثوم».
المجدد الأول للموسيقى الشرقية سيد درويش هو الشيخ والمعلم الذى تفتح على يديه مدارك ابنة طماى الزهايرة هو الشيخ «ابو العلا محمد».. وخذ عندك سلسال المشايخ.. زكريا احمد ومحمد القصبجي.. وملحنها الاستثنائى رياض السنباطى تخرج أيضا من مدرسة المدائح والإنشاد وكان والده شيخا للابتهالات.
وعندما جاءت ابنة السنبلاوين الى القاهرة تعرضت لحروب لا أول لها ولا آخر. وكان أول من ساندها ووقف بجوارها الفيلسوف الأديب ابن الاكابر مصطفى عبدالرازق الذى أصبح فيما بعد شيخا للأزهر الشريف.
وعندما قررت ابنة فصيح القرآن الكريم والقارئ الأول النموذج الشيخ الحصرى أن تغنى بعد حماس الرئيس السادات لها مع جيهان السيدة الأولى التى لم تكن ترحب بوجود «الست» بجوارها بكل شعبيتها بحثوا وفتشوا وأرادوا مغنية من مدرسة المشايخ ايضا.. وكانت ابنة الحصرى الذى لم يقبل أو يستسيغ أن تغنى «أفراج» «هكذا كان اسمها قبل تغييره».. هنا أخذا وذهب الى شيخ الازهر عبدالحليم محمود يسأله النصيحة أو الفتوى .. وكان جوابه
ـ ياشيخ محمود الغناء شأن الكثير فى حياتنا.. حلاله حلال.. وحرامه حرام.. اتركها وتوكل على الله.. وتركها لتصبح «ياسمين الخيام» واحدة من المغردات فى سماء الغناء المحلق فى الأفاق.
ومعظم اكابر قراء القرآن الكريم عرفوا المقامات الموسيقية وبهروا العالم الذى لايعرف العربية وهم يستمعون اليهم.
والأزهرى كامل الشناوى أحد أئمة الشعر والصحافة هو الذى كتب لاتكذبى.. وقال «عدت يايوم مولدى».. وكتب وساهم فى الحياة الثقافية ولم ينتقص كل هذا من قامته وقيمته.
وهل الأزهر نفسه بكل جلاله غاب لحظة عن الوطن.. الم تخرج من جنباته ثورة 1919.. وخطب على منبره القسيس مثلما خطب الشيخ فى الكنيسة.. واجتمع الكل على صوت مصر وعشقها الأبدى.
(فى السوربون)
الكثير من مشايخ الأزهر الشريف درسوا فى أعرق الجامعات الفرنسية وعلى رأسها السوربون.. عبدالحليم محمود وقبله مصطفى عبدالرازق.. والشيخ الإمام أحمد الطيب.. وسبقهم إلى أوروبا الإمام محمد عبده.. وكانت دعواهم الإسلام الوسطى المعتدل المتسامح.. فجمعوا بين الاحتشام والتمدين. وصانوا الدين وحافظوا عليه بلا تشدد أو مغالاة.. وأخذوا نصيبهم من الدنيا بما يرضى الله.
وكان هذا مفتاح السر فى حياة أم كلثوم التى بهرت الدنيا بعصاميتها ووطنيتها.. وقد حاربت غناء الخلاعة.. بالجاد والمحترم والبليغ.. ولم يكن غريبا أن تهمس إلى الكاتب الصحفى الكبير مصطفى أمين أنها تود لو سجلت القرآن الكريم كاملا بصوتها.. ولما طرحت هذه الرغبة على شركة للاسطوانات حسبت لها أن تحصد من هذا العمل ما يصل إلى المليون جنيه.. وهو رقم خرافى فى الأربعينيات والخمسينيات.. وطلبت من الأستاذ نجيب الهلالى المحامى أن يوثق الأوراق والعقود بحيث يخصص هذا المبلغ الكبير فى صندوق لمساعدة طلاب الجامعة الفقراء.
ولكنها وهى فى القمة أرادت أن تدخل البيوت من أبوابها.. وذهبت تسأل شيخ الأزهر الشريف وتستأذنه ورفض أن تسجل كتاب الله كاملا.. وأن كانت قد قرأت بعض آيات فى فيلم «سلامة» وهذا ما شجعها على خطوتها التى كانت تهدف منها الخير والبركة.
ولم تكابر أو تعاند أو تناطح الأزهر فى رأيه.. واستجابت وانتهى أمر المشروع.. لكن علاقتها بالقرآن الكريم كانت حاضرة معها أناء الليل وأطراف النهار.. تقرأه يوميا فى السراء والضراء وقبل كل عمل يكون الابتهال إلى الله.
«رب اشرح لى صدرى ويسر لى أمرى وأحلل عقدة من لسانى يفقهوا قولى».
رحمة ربنا وسعت كل شىء.. لم تحرم علينا.. إلا ما يضر ويفسد ويهوى بنا..
المشايخ الأكابر جمعوا الأناقة والشياكة فى الملبس والسلوك.. وهو نفس الأزهرى العظيم «طه حسين» فاقد البصر.. الذى علم الملايين كيف تكون البصيرة أقوى وأعظم.. بانوراما الثاقبة العلوية..
وعلى قدر أهل العزم تأتى العزائم
وتأتى على قدر الكرام الكرائم
فصالحهم على الحياة كلها.. وفتح لهم أبواب أسرارها ومكامن الروعة والإبداع والابتكار.. وخفة الظل والجدية فى إناء واحد.. وانظر إلى سيد مكاوى العصامى الذى ظل قابضا على شرقيته فى موسيقاه وهى فى ذات الوقت لا تتجاهل التجديد والتطور باعتبارهما من سفن الحياة وهو أيضا لم يتجاوز فى تعليمه سوى الكتاَّب وحفظ الكتاب الكريم.. ثم دراسة الموسيقى.. وكان شيخا وابن شيخ.. حتى الذى لم يدرس دراسة أزهرية من صغره ثم اتجه إلى دراسة الشريعة والعلوم الإسلامية.. وكان شيخا بلا عمامة.. خاض بنا بحار الأنوار القلبية.. وهو الذى قال على حنجرة سعاد محمد:
كم ناشد المختار ربه
فى هدى إنسان أحبه
لكن وحى الله جاء
إنك لا تهدى الأحبة
والله يهدى من يشاء
إنه عبدالفتاح مصطفى الذى قال على صوت محمد قنديل:
سحب رمشه ورد الباب
كحيل الأهداب
نسيت أعمل لقلبى حجاب
كحيل والكحل من بابل
وامتى عيونا تتقابل ولو بعتاب
غزال أنفاسه تتنسم عبير والخطوة تتقسم نغم
وشفايفه تتبسم ولا العناب
نسيت أعمل لقلبى حجاب
وهل سمعت عن بلبل القرآن الشيخ محمد رفعت وقد تعرض لحملة شرسة عندما فكر فى تسجيل كتاب الله على اسطوانات واعتبرها البعض "بدعة" وضاعت فرصة جمع تراث الرجل بسبب هؤلاء ولم يصلنا منه إلا القليل النادر.
رفعت كان بيته صالونا يجتمع فيه القسيس والراهب والافرنجى والبلدى وكان يعشق موسيقى بيتهوفن وموتزارت وأم كلثوم.. وقال عنه عبدالوهاب: حين يقرأ القرآن أصبح خادما تحت قدميه إنه الطفل الذى فقد البصر وهو إبن العامين.. ولما اتجه الى القرآن العظيم.. تحولت الدنيا الى عين عليه وعين له يرى بها ما لا يراه غيره.. من المبصرين.
واذا كان التطهر هو أهم أهداف الفن كما يقول الفيلسوف اليونانى "أرسطو".. فإن التعالى بالاحساس الدينى فوق الاشكال الظاهرية للعبادة.. وصولا الى عميق العلاقة بين الانسان وربه.. وما المدهش بعد ذلك ان يرتبط الفن بالدين.. لكن عن أى فن نتحدث.. وعن أى مظاهر "التدين" نحكي.. تلك هى المشكلة؟!

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة