د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يوميات الأخبار

عنـــدما تمــــوت الأخــــــلاق

الأخبار

الخميس، 25 مارس 2021 - 07:50 م

 

فضولى العلمى دفعنى إلى أن أعرف أين بات هذان الرجلان فى المدينة؟ وقد جاءا بخبر خطير، ورسالة كاذبة، وكفر صريح؟ 

السبت:
 قد يموت حىّ، ويخلف الله بخير منه، فتصح عبارة المادحين: «خير خلف لخير سلف» ولكن إذا مات خلق من الأخلاق فهيهات أن يخلفه غيره بخير؛ فموت الأخلاق نذير شؤم يقينى؛ فما ينبغى لخلق عظيم أن يموت أبداً، وغنى عن الذكر قول شوقى:

فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ومن تلك الأخلاق التى ماتت شر ميتة أن تغضب على إنسان فى موقف من المواقف، ثم لا يؤدى بك غضبك عليه إلى أن تنسفه نسفاً، وتدمره تدميراً، بلْ تضعه الموضع الذى هو له أهل، لا يحملك غضبك عليه أن تقول: هو ليس أهلاً لأى شيء.

والدليل على ذلك أن عثمان بن عفان رضى الله عنه  غضب على مولى له اسمه حُمران بن أبان، كان فى سبى عين التمر التى غزاها خالد بن الوليد فى أول خلافة عمر بن الخطاب، اشترى لعثمان، وكان يكتب بين يديه، وغضب عثمان على حُمران يومًا ما، فأخرجه إلى البصرة، أى سافر حُمران من المدينة التى استقر فيها عيشه، ورتب فيها شئون حياته، ونفى إلى البصرة، فانظر إلى العبارة التالية «فكان عينًا له بها» أى كان حُمران المغضوب عليه عيناً لعثمان بالبصرة، ولا يتولى تلك المسئولية إلا أمين مبصر بصير، والسؤال: كيف يكون المغضوب عليه عيناً لك، ترى به ما لا تستطيع رؤيته بعينى رأسك، وتأمن ما ينقله إليك من أنباء وأخبار. وتعمل بمقتضاها!!

إنه الخلق الذى مات عن يقين، والدليل على ذلك ما تراه فينا واقعاً، يشهد بموت هذا الخلق، أنّ من غضب على أحد طرده شر طردة، ونفاه، وحبسه، إن كان يملك ذلك، ولا يوليه عملاً له أبدًا لا سيما أن يكون عينًا له، إنه يقول فيه ما يقول الأئمة فى الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام.
يقول: إنه رجس من عمل الشيطان، وفاسد من أصل فسدة، ومنافق من منبت كفرة، لا حسنة فيه، ولا مزية، إنه الغضب الناسف لكل بناء، المدمر لكل شىء، وبموت هذا الخلق أنتشر السواد حتى عم آفاق الحياة، إنك تسمع الرجل المغضوب عليه لأتفه الأسباب إذا ذكر اسمه فى مجلس الغاضب كاد الغاضب يموت بسكتة قلبية، فإن استطاع أن يقول هو، أو يقول محبره الذين هم على شاكلته: بربك وحياة أبيك وأمك يا شيخ ما تجيب سيرته، أنت عارف أن سيدنا لما بيسمع اسمه إيه اللى بيحصل له، والنبى يا شيخ، نتوسل إليك، كده برضه، شفت اللى حصل لعمنا، يا جماعة اتقوا الله، الرجلكده ح يضيع منا حتى يقول من ذكر اسمه: أنا آسف، الله يقطعه ويقطع سيرته، والله لأمسح اسمه بأستيكة زفرة.
 ولأنى صاحب كتاب (الإسلام دين المعادلة) وقد ذكرت موقف طرف من طرفى تلك المعادلة وهو عثمان رضى الله عنه الذى غضب على حُمران؛ فأخرجه إلى البصرة، وجعله عيناً له كان لزاماً عليّ أن أتحدث عن الطرف الثانى، وهو حُمران فقد استجاب لطلب سيده وسافر إلى البصرة، لم يحمله هذا الغضب على أن يقول لعثمان: لن أكون عينًا لك، فكيف أنفعك وقد سببت لى ضررًا بنقلى ولكن قدّر غضب سيده ودفع ثمنه؛ فارتحل، ثم استأنف من جديد طاعته له وامتثل، وكان نعم العين التى تبصر لصاحبها، وصاحب الفضل عليها فلا الغاضب بتر المغضوب عليه ونفاه من حياته ولا المغضوب عليه أبى أن يكون مصدر نفع لمغضبه وهذا من تتمة الخلق الذى مات، وعليه رحمة الله وقد أدركت هذا الخلق من قديم، ومعنى هذا أنه كان فى احتضاره فلم يكن قد مات تمامًا، فقد كان الرجل يغضب من الرجل شريكه فى مزرعة أو تجارة فإذا حدث بينهما خلاف قال له بالحرف الواحد: (فضُنا من هذه الشراكة وخلينا إخوات) أى أنه لم «يعلن فى وجهه كما نرى الآن أنه بسبب فساد الشراكة بينهما لم يعد يعرفه ولا كلام بينهما ولا صلة ولا مودة ولأن الله أمرنا بأن نقيم الشهادة وليس فقط أن نشهد أقول كانت عبارة (خلينا أخوات) من باب الذوق فى الحوار، ولم تكن أخوة حقيقية. وقد اختفت العبارة والحمد لله بموت هذا الخلق، ويبدو أن المقول له كان يفهم هذه العبارة على أنها من ذوق الحوار؛ فقد سمعته يقول له: يا عم لا إخوات ولا يحزنون، ويرد عليه الأول وكأنه كان ينتظر هذا الرد: (والله براحتك) أى أنه كان يقول آمين؛ مما يدل على انعدام العلاقات وقطعها بالكلية لفساد أمر من الأمور أو غضبة قد تكون عارضة ولكن العارضة فى زماننا أصبحت أساساً راسخًا وليست مجرد شيء عابر قد ينتهى برضا الغاضب وعودة الأمور كما كانت بل وأصفى.

 من نوادر السيرة العطرة

 الأحد:
 قرأت فى السيرة النبوية العطرة أن مسيلمة الكذاب الذى ادعى النبوة فى زمان النبى صلى الله عليه وسلم - قد أرسل رجلين من قبله إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونطق أحدهما بفحوى رسالة الكذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخبره أن مسيلمة يقول: هو نبى مثله- صلى الله عليه وسلم، ويسأله أن يقسم الملك بينهما؛ فنظر -صلى الله عليه وسلم- إلى رسول الكذاب الثانى وسأله عن رأيه، فصرح بموافقته وعدم اعتراضه: فقال عليه الصلاة والسلام وكان فى يده سواك والله لا أعطيه مثل هذا، ولولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما، وانتهت القصة لكن فضولى العلمى دفعنى إلى أن أعرف أين بات هذان الرجلان فى المدينة؟ وقد جاءا بخبر خطير، ورسالة كاذبة، وكفر صريح؟ وهديت إلى الجواب الذى رأيته فى الروض الأنف للسهيلى أن هذين الرجلين نزلا على امرأة فى المدينة كانت زوجة لمسيلمة، وطلقها منذ عشرين سنة، ولا جواب إلا لأن هذا الخلق كان ما زال حيا.

إن الطلاق لم يكن على هذا النحو الذى عرفناه بعد موت الخلق، فقد كان كالعلاقة بين شريكين تنتهى الشركة، وتبقى معانى الأخوة، فالزواج قد انتهى بالطلاق ولكن المودة باقية، أو كما يقول أهل البلد ما زال للعيش والملح أثر؛ فمن جاء من طرف من كان بيننا وبينه عيش وملح أكرمناه وأدينا الواجب نحوه على قدر ما نستطيع، فلما مات هذا الخلق صرنا نجد أن من طلق صار عدواً لدوداً لمن طلقه لا يحمل له مودة، ولا يذكر له حسنة، ولا يحب أن يرى أحداً من طرفه، بل إن الأمر قد تجاوز ذلك، فكل العلاقات السيئة تنشأ بين الأزواج قبل الطلاق إذا شم أحدهما أنها الغضبة الأخيرة، وأن الحياة محال أن تستمر؛ فتبدأ الزوابع والأعاصير، وتهب ريح الغضب وهما ما زالا تحت سقف واحد وكأنهما يستعجلان المفارقة بهذا السواد الذى كان بالأمس بياضا، وتسرد العيوب وتتضخم الشحناء ولم يعلما أن العودة المحتملة إذا عادت بعد كل هذا السوء، فهيهات أن تعود المياه لمجاريها التى كانت إن بقى فينا شعور بالحياة وإلا عادت بعد كل هذا السوء كما كانت أو أجمل؛ لأننا فقدنا إحساسنا بالكرامة، لا لأن صدورنا متسعة للتسامح؛ فأى تسامح هذا الذى يغشانا وقد لعن عشرتنا، وصرخ فى وجوهنا صوت من كان يقول لنا بالأمس: أحبك وأذوب فيك عشقاً، ليقول اليوم: كانت زيجة يعلم بيها ربنا، ففقد الإحساس بالحياة من آثار هذا الخلق الذى مات، أى من آثار انعدامه بالكلية وكأن احترام بعضنا بعضا قائم ما قامت العلاقة بيننا، فإذا انقطعت انقطع معها كل خير، وتولد إثرها كل شر، ويؤكد ما ذكرت أنى أدركت احتضار هذا الخلق قبل أن يموت ما كان من الفلاحة القديمة التى كانت تزور أمى -رحمهما الله -، كانت أرملة اعتكفت على يتيم لها تربيه حتى بلغ أشده، وتزوجت برجل معروف لدى أهل القرية بأن خلقه فى أنفه، وأنه لا يعرف لغة اللسان وإنما لغته وكزة باليد، أو رمية بالحجر أو ضربة بالفأس.وتخيلت المسكينة أنها قادرة على العيش معه؛ لأن بوسعها أن تحتويه لأنها كانت مضرب المثل فى الهدوء والسكينة والنبل والطيب والتسامح الملفت للنظر، وكما شاع الخبر بالزواج شاع أيضاً بالطلاق ولم تمكث فى دارة أكثر من سنة وسألتها أمى رحمة الله عليها وقالت: أوعى تزعلى نفسك؛ كله بشرع الله، ربنا شرع الجواز ياختى وشرع الطلاق، وكأنها فهمت أن أمى تسألها عن سبب الطلاق بطريقة غير مباشرة، فقالت لها: والله يا ست أم فتحى، ده راجل محترم ولقمته حلال، وجد أوى، بس يا عين أمه أخلاقه ضيقة شوية، وأنا بقى مستحملتش لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وانتهى الموقف الذى لم يغب عن ذاكرتى يومًا لأنه يذكرنى بشاهد العروض الذى أدرسه لطلاب الجامعة:

وإذا همو ذكروا الإساءة أكثروا الحسنات

فالحسنات فى عبارتها كثيرة، والسيئة فى عبارتها واحدة، وهى قولها: أخلاقه ضيقة شوية، فإذا قارنا هذه العبارة بما صرنا نسمعه من نحو (قُطع وقطعت سيرته، وعيشته وأخلاقه، ودينه ـ هو عنده دين، الله لا يكسبه دنيا ولا آخرة، المفترى الظالم ويا غيظى، ويا سوادى، وبلغة سوهاج: يا مُري) إلى آخر هذا الوابل الذى لا تذكر فيه حسنه واحدة عرفنا أن هذا الخلق قد مات، ولم تعد فيه بقية من حياة.

 شيء من التدبر

الاثنين:

وقد تدبرت بعض آيات القرآن الكريم ووجدت أن هذا الخلق صاحب ثأر علينا كبير وأن القضاء عليه من الجرائم الكبرى، التى يراها من لا دراية له بالحياة شيئاً يسيرا، وقد رأيت أن الله تعالى ينبهنا إلى أن نستفيد ممن وقع عليه كرهنا، وتساقط عليه غضبنا يقول الله تعالى: «وقد نزلّ عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويستهزئ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره» النساء الآية .140

أى أننا معشر المسلمين إذا سمعنا غيرنا يسخر من قرآن ربنا تجنبناهم فى هذه الساعة فقط، ثم نعود إليهم؛ لتتحقق مصلحتنا معهم، وهذا عين ما ذكره المفسر الكبير أبو السعود فى تفسيره (إرشاد العقل السليم) لم يقل ربنا إذا سمعتم غيركم يسخر بآياتى ويستهزئ بها فاقتلوهم أو تجنبوهم إلى الأبد، وإنما قال تجنبوهم فى هذه الساعة، لكن لا تخسروهم بالكلية، فهناك بلا شك مصالح مشتركة بينكم وفى سورة النساء أيضا يقول الله تعالى فى شأن الزوجات: «فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيراً كثيراً» فلم يقل ربنا فإن كرهتموهن فطلقهن وإنما نبهنا إلى ما تستمر به الحياة رغم الكره بأن هذه المكروهة قد تكون مدبرة لبيت بملاليم، وتكون عفيفة شريفة لا تجلب فقراً بإسراف ولا عاراً بسوء خلقها، فهل شاعت هذه الآية وسط الملايين الذين يطلقون فى كل يوم بحثاً عن وهم الحب الذى هو دمار، ونهانا ربنا عن أن يحملنا بغضنا على الظلم، فقال فى سورة المائدة «ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله» فحين مات الخلق، وصار الكره دافعاً إلى خسارة مكروه، فيه من المنافع ما ينبغى أن نفيد منه كان لابد للحياة أن تتغير ملامحها فتضيق النفس، ومعها تضيق الأرض رغم اتساعها، وإذا حدث ذلك هلك الإنسان وإن رأيناه يتحرك لكن شتان ما بين حركة تنبعث منها رائحة الحياة وبين حركة ليس فيها من الحياة شيء سوى صورة متحركة، وعلى المهتمين بالخطاب الدينى أن يتناولوا هذا الموضوع بجد وعناية ؛لآن الخلق فى هذا الدين بمثابة الأرواح التى فى الأجساد، إن وجدت فالحياة وإن سلبت فالهلاك.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة