صورة للموقع بعد اكتمال المشروع وتطوير المنطقة وبحيرة عين الصيرة
صورة للموقع بعد اكتمال المشروع وتطوير المنطقة وبحيرة عين الصيرة


أسطورة التصميم المعمارى العالمى د. الغزالى كسيبة: صرح ثقافى حضارى متفرد يمزج بين الأصالة والحداثة

آمال عثمان تكتب عن المتحف القومى للحضارة.. حدوتة مصرية عمرها أربعة عقود

آمال عثمان

الجمعة، 26 مارس 2021 - 09:38 م

من قلب العاصمة الثقافية إلى قلب العاصمة الإسلامية، من منطقة دار الأوبرا مركز الاشعاع الثقافى، إلى الفسطاط أول عاصمة إسلامية، رحلة طويلة استغرقت حوالى أربعة عقود حتى صارت الفكرة واقعاً عظيماً، وحدوتة مصرية تحتضن بين جنباته تاريخ مصر عبر العصور والأزمنة، ومشواراً ممتداً عبر سنوات، منذ كان المشروع فكرة تتبناها منظمة اليونسكو حتى أصبح تحفة معمارية رائعة، وصرحاً حضارياً وثقافياً كبيراً، يتباهى به المصريون أمام العالم أجمع، ويستعد بعد أيام قليلة لاستقبال موكب مهيب لأعظم ملوك وملكات العصر الفرعونى، الذين ضحوا من أجل الحفاظ على تراب الوطن، وحققوا انجازات على أرضه أذهلت العالم القديم والحديث.

المومياوات‭ ‬الملكية‭ ‬أيقونة‭ ‬المتحف‭ ‬وإبداع‭ ‬تنفرد‭ ‬به‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية

بدأ عشقه للفن من خلال صورة رسمها لسفينة بريطانية، كانت تحمل الجنود الإنجليز المنسحبين من بورسعيد عام 1956، وقتها كان طالبا فى المرحلة الثانوية، لكنه اختبأ فى مكان بالقرب من السفينة البريطانية، وراح يرسم كل ما تراه عينه، رغم أن تلك المغامرة كانت يمكن أن تكلفه حياته، بعدها تمنى الالتحاق بقسم عمارة السفن الذى كان قد أنشئ فى نهاية الخمسينات بهندسة الإسكندرية، لكنه رضخ لنصيحة مدرس الرسم، والتحق بكلية الفنون الجميلة قسم العمارة.

قاعة‭ ‬المومياوات‭ ‬تحاكى‭ ‬المقابر‭ ‬الفرعونية‭ ‬فى‭ ‬البر‭ ‬الغربى

مشوار ممتد لما يقرب من 60 عاما، امضاها أسطورة العمارة العالمى د. الغزالى كسيبة، فى الحياة العملية والعلمية، منذ كان معيدا فى كلية الفنون الجميلة، وحرص على أن يكون مشروع تخرجه إنقاذ معابد أسوان من الغرق فى مياه بحيرة ناصر، بعد تحويل مجرى النيل لبناء السد العالى، ثم حصوله على الدكتوراه فى نهاية الستينات، وسفره إلى عدد من الدول العربية والأوروبية، وما اكتسبه خلال تلك الأسفار من خبرات عمرانية واسعة، جعلته يتميز بفلسفته المعمارية الخاصة التى تمزج بين الخيال والجمال والدقة، وتعكس ثقافة واسعة، جعلت منه واحدا من أعلام العمارة فى العصر الحديث.

- داخل مكتبه بمتحف الحضارة كان لقائى بأسطورة العمارة د. الغزالى، فى البداية سألته: ماهى فلسفتك فى تصميم مشروع متحف الحضارة؟

قال: النظرة الأولى دفعتى للتساؤل حول علاقة المتحف بالتاريخ، أى هل المشروع يجب أن يحمل توجه تاريخى شكلا وتفصيلا، أم توجه حديث من حيث الشكل والمواد المستخدمة، وفى النهاية قررت أن يجمع المشروع بين التوجهين الأصالة والمعاصرة، ويمزج بين التاريخ والحداثة، يوحى بالقدم لأنه متحف حضارة مصر منذ ما قبل التاريخ، وحتى العصر الحديث والمعاصر، وبالتالى لا يجب أن يوحى بفترة زمنية محددة، وظل هذا المنطلق فى يقينى منذ لحظة تقدمى بالمشروع لليونسكو وحتى الأن، لذلك الشكل والمواد المستخدمة توحى بأصالة المعمار والحداثة، وكان فى ذهنى منذ البداية لمسة من معبد هرم خوفو، وهو عبارة عن كتل خرسانية لأعمدة وأعتاب دون زخارف.

- وماذا عن التصور العام لتصميم المتحف؟

الفكرة الأساسية عبارة عن مبنى للاستقبال وتجهيز الزائر للجولة والخدمات وكافتيريات وبازارات ومكاتب إدارية تخدم المتحف، ومبنى أخر يضم قاعات العرض المتحفى وخدماتها من معامل ومخازن وغيرها، ويرتبط الإثنان بممر أسطوانى معلق ولكل منهما وظيفته، كما تم عمل منطقة للأطفال على مسطح 500 متر، حتى يتمكنوا من زيارة المتحف برفقة المدرسين، طبقا لجدول زمنى محدد، وهناك أماكن ودواليب مخصصة لهم ومطاعم وكافتيريا، حيث كان هناك وعى أن يكون هذا الصرح الحضارى بمثابة جيل جديد من المتاحف، ويستهدف التربية المتحفية للأطفال، وهذه الأفكار موجودة منذ بداية المشروع والاختلاف فى المقاسات وبعض الخدمات الإضافية.

- وهل الهرم الزجاجى كان موجودا فى التصميم منذ البداية؟

الهرم الزجاجى فرضه الموقع الجديد، أما الموقع السابق بجوار الأوبرا لم يكن مناسبا، لأنه وسط العمارات والأبنية المرتفعة، ولا مجال لرؤية معالم القاهرة الأثرية، لكن إضافة الهرم فى موقع الفسطاط له شكل ووظيفة، وأصبح هناك مستويات للرؤية ويستطيع الزائر الصعود إليه لرؤية المعالم المحيطة، مع عرض "ماكيت" مجسم يجسد مراحل تطور مدينة القاهرة على امتداد التاريخ، وكل ذلك من خلال عرض علوى، وهناك تعديل أخر فرضته بحيرة عين الصيرة المطل عليها المتحف، وهذا الأمر جعلنا نقوم ببعض التعديلات حتى يتمكن الزائر من الاستمتاع برؤية البحيرة بعد تطويرها، وهذا يفسر الفترة الزمنية الطويلة التى استغرقها بناء المتحف.

- وماذا عن قاعة المومياوات هل كانت موجودة منذ بداية طرح المسابقة المعمارية؟

المومياوات الملكية منذ البداية "أيقونة" المتحف، لأن الحضارة المصرية تنفرد بها وبعمليات التحنيط، والخبيئة الأثرية التى عثر بداخلها على المومياوات والتوابيت الملكية، لذلك فإن هناك طريق مختصر عند انتهاء خط سير الزيارة، يصل إلى قاعة المومياوات مباشرة للزائر الذى لا يملك الوقت الكافى.

- حين قمت بزيارة قاعة المومياوات كان لدى شعور بالدخول إلى مقبرة فرعونية فى وادى الملوك والملكات بالبر الغربى، والانتقال إلى العالم الآخر، هل هذا مقصود فى التصميم؟

قاعة المومياوات واقعة أسفل قاعة العرض المركزية، وحينما تقدمت بالمشروع فى مسابقة اليونسكو كنت المعمارى الوحيد الذى وضع القاعة بهذا الشكل، والمشروعات الأربعة الأخرى فى التصفية النهائية للمسابقة، صممت فيها قاعة المومياوات لتكون صالة عرض مثل صالات عرض الآثار الأخرى، لكن أعتمد فى التصميم على خروج الزائر من قاعة العرض ليجد أمامه مكان أشبه بسفح الجبل، ومدخل مشابه تماما لمدخل المقابر الفرعونية فى البر الغربى، والنزول إلى أسفل بشكل مركز حتى نعطى للزائر الاحساس بالعبور لعالم آخر، ولكن خلال طريق الخروج من الزيارة يكون الصعود تدريجى، حتى لا يشعر به الزائر، وخلال مشاهدته للمومياوات والتوابيت والمقتنيات الموجودة بجوار كل ملك أو ملكة.

- وما الفكرة التى قام عليها تصميم المدخل الرئيس للمتحف؟

التصميم محاولة تعكس فكرة التطور التدريجى لعملية البناء، لذلك تخيلت أن تكون الواجهة من مادة الحجر، حتى لو كانت وحدات صناعية، ووضع الأحجار فوق بعضها، كل ذلك يعطى احساسا بالأصول القديمة، وأول ما يقابل الزائر 4 أحجار مرتكزة على الأرض، وتتضاعف الأحجار حتى تصبح جزء من جدار.

- وماذا عن بوابات التأمين الحديدية؟

فى كل قاعة بوابة للأشخاص تفتح بالبصمة، وبوابة أخرى حديد لا تفتح إلا بعد أغلاق البوابة الأولى، لأن اليونسكو أخذت على عاتقها أن يكون المتحف على أحدث ما وصلت إليه التقنيات العلمية الحديثة، سواء فى تأمين قاعات أو المخازن والمعامل، كما اشترطت أن يكون التصميم المتحفى ما بين أكبر عشرة مصممين فى العالم، ولكن المعمارى لابد أن يكون مصرى، ويرجع الفضل فى هذا للدكتور أحمد قدرى رئيس هيئة الآثار آنذاك، على أن يتعاون المعمارى المصرى مع واحد من هؤلاء المرشحين الدوليين، وكانت كراسة الشروط كانت ضخمة جدا، وضعتها لجنة دولية من اليونسكو.

- ما رأيك فى استخدام مجسمات مقلدة للآثار داخل قاعة العرض؟

هذا ليس متحفا لعرض الآثار لكنه للحضارة، وهذا يعنى أن الأثر بداخله شاهد على حكاية تروى عبر الزمن، وبالتالى فقصة الحضارة هى الأساس، والملتيميديا لها دور مهم جدا للزائر، فهو لم يزور المتحف لمشاهدة تمثال أو قطعة أثرية، وإنما يأتى لمتحف حضارة يروى له لماذا وكيف ومتى، وهى قصص تعكس إبداع العقل المصرى عبر الحضارات والأزمان، هذا ما يبحث عنه الزائر فى هذا المتحف فى مجالات الزراعة والطب والعمارة والكتابة وغيرها، وفى هذه الحالة ليس بالضرورة عرض تمثال لشخصية مهمة فى التاريخ، بقدر البحث عن شواهد على الإبداع المصرى عبر الحضارات، مثل العجلة الحربية، والقدم الصناعية، وأدوات الطب، والعمارة والزراعة.  

- ولماذا تأخر المشروع كل تلك السنوات؟

طرحت المسابقة عام 1982 وتمت على مرحلتين، الاولى اختارت اللجنة خمسة مشروعات من بين المشروعات المتقدمة للمسابقة، واستمرت لمدة عام كامل، بعدها بدأت المرحلة الثانية، وبعد 3 شهور من العمل، أضيفت مطالب جديدة فى التصميمات، واستغرقت المرحلة الثانية عاما أخر، وفاز مشروعى فى النهاية، وكان من الضرورى اختيار مصمم من بين العشرة لتقديم التصور المشترك للمتحف، وبالفعل سافرت المكسيك وكندا وانجلترا واليابان، ووقع اختيارى على المصمم اليابانى "أراد أساكي" لأن يتفق معى فى أفكار عديدة، وهو أحد المعدودين فى اليابان والعالم فى هذا المجال.

- وهل تغير تصميم المشروع بعد نقله من منطقة الأوبرا إلى الفسطاط؟

المساحة تضاعفت خمس مرات تقريبا، حيث كانت 127 ألف متر مربع، وأصبحت على مساحة 130 ألف متر مربع، وهذا منحنا فرصة لتنفيذ التصميم على مقاس أكبر، وإضافة أفكار عديدة، سواء فى قاعات العرض أو المعامل، والتى تعتبر أضخم معامل ترميم فى المنطقة العربية وإفريقيا، وتفوق مساحتها معامل المتحف المصرى الكبير، كما أن فكرة المتحف تكاد تكون متفردة.

- ومتى بدأ التنفيذ؟

بدأنا الاستعداد لتنفيذ المشروع عام 1997، لكن الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة فى ذلك الوقت رأى أن الموقع غير مناسب لمشروع بهذا الحجم والأهمية، وبدأ يبحث عن موقع آخر، وفى عام 2002 استقر على موقع له علاقة بمنطقة أثرية وتاريخية مهمة، ومطل على بحيرة قديمة، وهو الموقع الحالى بالفسطاط، وبدأ المشروع يظهر من جديد، واجتمعت لجان اليونسكو مرة أخرى وعدلنا وحذفنا طبقا للمساحات والموقع، وبعد الاعتماد اعترض مندوب اليونان فى اللجنة على عدم استغلال المساحة فى انشاء جراج متعدد الطوابق تحت المتحف، وبالفعل قمنا بتعديل التصميم خلال عام وأضفنا الجراج، وبعد اجتماع اللجنة أعترض أحد الخبراء الدوليين على وجود الجراج واعتبره يشكل خطرا كبيرا على المتحف، فى ظل عمليات الإرهاب والسيارات المفخخة المنتشرة فى هذه الفترة، وأنه بمثابة قنبلة أسفل المتحف، ولاقى الاقتراح تأييد اللجنة، وتم حذف الجراج مرة أخرى، وفى عام 2004 انتهينا من التصميم وبدأ التنفيذ فى الأساسات والخرسانات،دون التدخل فى التصميم الداخلى.

- وهل كانت هناك مشاكل مياه جوفية فى المنطقة؟

بالعكس الأرض صخرية ومن مميزات أن هناك عمق 18 متر ردم وكأن المتحف داخل حفرة، وهذا يشير إلى وجود حفائر أثرية فى الماضى أو "مجسات" وبالتالى الحفرة ساهمت فى عمل أساسات عميقة، وهذا ما جعل الخبير اليونانى يقترح فكرة الجراج متعدد الطوابق. 

- ما هى المتاحف الأخرى قمت بتصميمها؟ 

صممت متحف فى ضواحى باريس خلال عملى لمدة 6 سنوات مع إحدى المكاتب الاستشارية الكبرى فى فرنسا، ومتحف للبعثة الفرنسية فى إيران، ومتحف جامعة حلوان، ومتحف فى بورسعيد بجوار تمثال ديليسبس. 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة