ياسر رزق
ياسر رزق


ورقة وقلم

الخطوط الحمراء.. والذراع المصرية

ياسر رزق

السبت، 03 أبريل 2021 - 06:21 م

 

لم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬رسالة‭ ‬استعراض‭ ‬قوة،‭ ‬أو‭ ‬إشارة‭ ‬إغلاق‭ ‬لباب‭ ‬مفاوضات،‭ ‬إنما‭ ‬هى‭ ‬جرس‭ ‬إنذار،‭ ‬بعدما‭ ‬فاض‭ ‬الكيل‭ ‬من‭ ‬تعنت‭ ‬ومراوغة‭ ‬بغية‭ ‬شراء‭ ‬الوقت

عندما تستطيع أن تضع خطوطا حمراء خارج حدودك الدولية، وعندما يكون مدادك فى رسم هذه الخطوط هو الحق والمشروعية، وعندما تمتلك القدرة على الإضرار بخصمك إذا حاول تجاوز خط أحمر يحمى مصلحة حيوية لك، فالمنطقى أن ينفض الخصم التعنت وأن يسارع الى الحوار، وأن يسعى إلى الحل السياسى، وأن يفضل مائدة المفاوضات على مسرح العمليات.. هذا إذا كان مازال فى الرأس قدر من العقل!

لا أحد يضع خطوطا حمراء متماهية مع حدوده السياسية، لأن الحدود التى ترسمها الخرائط هى بطبيعتها حمراء اللون، لايسمح القانون الدولى بانتهاكها دون مبرر من مشروعية، ولاتبيح الأعراف الدولية اجتيازها دون سند من شرعية.

***

الحدود السياسية، غير الحدود  الجيوسياسية. 

الأولى تحوى أراضى الدولة ومياهها الإقليمية وأجواءها، ويعترف بها المجتمع الدولي، وترسمها الأطالس الدولية.

الثانية تقع عند تخومها مصالح حيوية للدولة، أو يشكل اختراقها من جانب عدائيات ما تهديدا لإقليم الدولة وأمنها القومى المباشر، وأحيانا يشكل انتهاك هذه الحدود خطرا على الغاية العليا للدولة وهى البقاء ولشعبها وهو الوجود.

لن تستطيع أن تحافظ على مصالحك الحيوية، بل على بقائك كدولة، مالم تكن لديك قوة مسلحة بالحق. القوة بدون حق تستند اليه، هى شريعة غاب  وفوق كل ذى قوة من  هو أقوى، والحق بدون قوة تحميه، ليس إلا بكائية على منصات خطابة فى محافل دولية..!

القوة تحفظ المصالح، فضلا عن أنها تحمى الحدود والحقوق. 

الأقوياء ذوو الرشد لايحاربون فى الأغلب، إلا اضطرارا.

الحرب هى الملجأ الأخير، والسيناريو الآخر، إذا لم يرتدع الخصم، ويرعوى، وينصت لصوت العقل، وينتبه لأجراس الخطر الداهم.

***

فى وقت ماقبل عشر سنوات مضت، لانت الحدود السياسية لمصر ولم يعد من العسير اختراقها فى مواضع ومواقع.

كان إقليم الدولة تحت التهديد، بل كان بقاء الدولة حينئذ على المحك!

فى ذلك الحين كانت الحدود الجيوسياسية التى رسمتها مصر لنفسها منذ عهد رمسيس الثاني، مرورا بصلاح الدين، ومحمد على، وحتى جمال عبدالناصر، صارت فى ذمة التاريخ.

ضعفت عناصر القوة الشاملة للبلاد وأصابها الوهن.

تقوقعت الدولة حينئذ وتشرنقت حول ذاتها، وأصبحت مصالحها الحيوية حتى تلك التى تتعلق بالغاية القومية، محل استهانة وموضع افتئات، من جانب متقافزين أو متطاولين أو أصحاب عقد تاريخية، أو وكلاء عن آخرين يمتطون ظهور حماقاتهم، لتحقيق مصالحهم فى إيذاء مصر، انتهازا للحظة ضعف قد لا تتكرر، ولابد لها− تاريخيا− أن تنقضى.

***

ولى ذلك العصر ولن يعود.

راح وقت الجزر، وجاء المد المصرى فى أعقاب ثورة ٣٠ يونيو، وتمددت مصر.

نفضت مصر عن نفسها غبار التهديد الإرهابى الداخلي، وصارت حدودها محرقة لمن يحاول الاقتراب أو التسلل.

أعادت مصر بناء جيشها وفق خطة مدروسة لها منهج متصاعد يصل إلى غاية محددة، هى امتلاك قوة ردع رشيدة، تحفظ المصالح الحيوية للبلاد أينما وجدت، وتدرأ الخطر حيثما يمثل، تسعى لمنع الحرب، لكنها إذا اضطرت إليها، فإن يدها طائلة وباطشة وقبضتها ضاربة وقاضية.

امتلكت مصر أحدث الغواصات والفرقاطات ولنشات الصواريخ وحاملتى طائرات هليكوبتر، لتستطيع تأمين مصالحها من باب المندب وما وراءه، وفى مياهها الاقتصادية الخالصة حيث توجد مكتسبات الشعب من حقول الغاز فى البحر المتوسط.

وأنشأت أسطولين، شمالى لتأمين سواحل مصر ومصالحها الحيوية فى المتوسط، وآخر جنوبى لتأمين الملاحة فى البحر الأحمر وحماية قناة السويس.

صارت البحرية المصرية سيدة البحر الأحمر، والرقم الصعب فى البحر المتوسط أهم بحار العالمين.

امتلكت مصر وفق خطتها المرسومة المحسوبة الطموحة، أحدث طائرات القتال من أرقى ترسانات العالم، نفاذا لبرنامجها فى تنويع مصادر السلاح، الذى يوفر لها احتياجاتها ويلبى مطالبها، كقوة عظمى إقليمية.

بنت مصر قواتها الجوية، من أحدث المقاتلات متعددة المهام، والمقاتلات القاذفة طويلة المدى، وطائرات السيادة الجوية فائقة التطور، بجانب أحدث طائرات الهليكوبتر الهجومية، وكذلك الذخائر والصواريخ جو أرض ذات القدرة التدميرية العالية.

صار سلاح الجو المصرى ذراعا قوية طائلة، تصل إلى حيث تريد لحماية مصالح الدولة ومكتسبات الشعب، وموجبات بقائه وحياته ورفاهيته، وتقطع دابر من يريد الإضرار بمصر الدولة والشعب.

أعادت قواتنا المسلحة تنظيم قواتها البرية، وزودتها بأحدث دبابات القتال وفق برنامج لم يتوقف، ومركبات القتال المدرعة، وقاذفات الصواريخ، وأحدث المدافع، مع رفع الكفاءة القتالية للرجال والاستعداد القتالى للوحدات والتشكيلات إلى درجة لم تشهدها العسكرية المصرية العريقة فى تاريخها الحديث والمعاصر.

وأصبحت القوات الخاصة المصرية من صاعقة ومظلات فى أرفع مستوى يليق بوحوش الصحراء والهضاب والجبال والغابات. وأنشئت لأول مرة قوات الانتشار السريع وهى نخبة النخبة، التى تستطيع تحقيق المفاجأة فى الانقضاض والتدمير بكفاءة واقتدار دفاعا عن الحق والأمن القومى.

أما قوات الدفاع الجوي، فإن أبناء بناة حائط الصواريخ هم فخر لآبائهم، بما حققوه من تطوير وتقدم بامتلاك أحدث منظومات لحماية سماء البلاد ضد أى عدو جوى من طائرات وصواريخ.

ولعل الحديث عن الدفاع الجوى يقمعه إدراك بحساسية إذاعة أى معلومات، عن قدراته المكتسبة وأسلحته فائقة التطور، وضرورة ابقائها طى الكتمان حفاظا على أمن البلاد ومقتضيات الدفاع. ويكفى القول إنه يحق للمواطن المصرى أن يستظل بسمائه وهو آمن عليها من أى غدر.

***

ليست القدرة العسكرية هى كل مقومات القوة الشاملة للدولة.

بدون القدرة الداخلية، أى تماسك الكتلة الوطنية، والتفافها حول قيادتها، تتراجع القوة الشاملة للدولة وتتهدد.

بدون القدرة الدبلوماسية، التى استعيدت بعد سنوات العزلة الدولية، لتنطلق مصر وتتمدد فى إقليمها وعالمها كقوة داعية للحوار وساعية للسلام وداعمة لاسترجاع الدولة الوطنية فى المحيط العربى المضطرب، ما كان للمجتمع الدولى أن يضع مصر فى نقطة المركز كلاعب أصيل فى قضايا الشرق الأوسط والقارة الأفريقية وحوض المتوسط.

بدون القدرة الاقتصادية، والصورة الجديدة التى صار العالم ينظر بها إلى الدولة المصرية الحديثة، كنموذج للتجارب الناجحة فى الاقتصادات البازغة، ما كان لمصر أن تعيد بناء عناصر قوتها الشاملة حتى مع نهوض قدرتها العسكرية.

استعادت مصر عناصر قوتها الشاملة على مدار سبع سنوات مضت، وعززتها وأعلت بناءها، لتصبح قوة عظمى اقليمية، ينظر إليها باحترام ومهابة، ويحسب لوزنها ألف حساب فى هذا الإقليم عند الاقتراب من مصالحها.

وما كان لمصر أن ترسم خطوطا حمراء لحدودها الجيوسياسية، ولا تطلق أجراس إنذار عند الاقتراب منها، لولا أنها امتلكت أدوات القوة، ومفاتيح القدرة.

***

ليس الخط الأحمر الذى وضعه الرئيس السيسى يوم الثلاثاء الماضى، حين حذر من أن مصر لن تسمح لأحد بانتزاع قطرة ماء واحدة من حصتها فى مياه النيل، كحق تاريخى وقانونى لا ينازعها فيه أحد، هو أول الخطوط الحمراء التى رسمتها جمهورية ثورة ٣٠ يونيو، لحماية الأمن القومى المصرى والمصالح الحيوية للبلاد.

مرات أربعة تحدث فيها الرئيس عن خطوط حمراء مصرية.

− الأولى منذ ٥ سنوات، حينما أكد أن أمن الخليج خط أحمر وأنه جزء لا يتجزأ من أمن مصر، وشدد على أن الجيش المصرى لن يتأخر قدر مسافة السكة للدفاع عن أشقائه فى الخليج.

− الثانية.. حينما وضع خطا أحمر قبل الاقتراب من مياه مصر الاقتصادية الخالصة حيث تقع حقول الغاز فى البحر المتوسط، وارتدعت قوى كانت تحاول استفزازنا قرب حقل ظهر، واضطرت أمام القوة المصرية إلى الارتداع والابتعاد.

− الثالثة.. منذ ٩ أشهر، عندما أعلن الرئيس أن الخط الممتد من مدينة سرت إلى الجفرة فى ليبيا هو خط أحمر لمصر لن تسمح للميليشيات الإرهابية باجتيازه أو السيطرة عليه، وكان لهذا الإعلان أمام قوات المنطقة الغربية فى سيدى برانى على مسافة أقل من ١٠٠ كيلو متر من الحدود المصرية الليبية، أثر كبير فى ردع من كانوا يفكرون فى التقدم شرقا للسيطرة على الهلال النفطى الليبى، وكان أيضا أحد أهم العناصر فى تهيئة المناخ لاحتواء الأزمة الليبية، والمضى نحو حلها وصولا إلى تشكيل الحكومة والمجلس الرئاسى.

− كانت المرة الرابعة.. يوم الثلاثاء الماضى، وكانت الرسالة موجهة إلى حكام إثيوبيا..!

***

لم تكن تلك رسالة استعراض قوة، أو إشارة اغلاق لباب مفاوضات. إنما هى جرس إنذار وإشارة خطر، بعدما فاض الكيل من تعنت، ومراوغة، وتفاوض من أجل التفاوض، بغية شراء الوقت، تحت مظنة أو بالأحرى توهم أنه بالإمكان فرض أمر واقع على مصر والسودان، هو الملء الثانى لخزان سد النهضة فى يوليو المقبل من جانب واحد، دون التوصل إلى اتفاق قانونى ملزم يحدد قواعد الملء والتشغيل، بما لا يضر بعشرات الملايين من أبناء مصر والسودان، ويضع مصير الشعبين فى أتون الخطر.

على مدار سنوات، أبدت مصر − بكل الوسائل − قدراً عاليا من الحرص على علاقات الصداقة مع الشعب الإثيوبى، وتحلت بقدر هائل من المرونة وهى تؤكد تفهمها لحق الإثيوبيين فى التنمية من وراء إنشاء السد، وتطلعها لأن تبادلها الحكومة الإثيوبية نفس الحرص على عدم الإضرار بمصر فيما يمثل لها مصدر الحياة ومورد البقاء وهو حصتها من مياه النيل.

كنت شاهداً على لقاءات عديدة، للرئيس مع قادة إثيوبيا، فى أديس أبابا وعلى هامش القمم الأفريقية ومحافل دولية أخرى. وكنت حاضراً حفل توقيع اتفاق المبادئ الثلاثى فى الخرطوم، ثم خطاب الرئيس أمام البرلمان الإثيوبى.

لكن مسار المفاوضات التى انخرطت فيها مصر والسودان مع إثيوبيا، وضع أمامه الجانب الإثيوبى عراقيل فوق عقبات، حتى كاد الوقت ينفد مع اقتراب موعد الملء الثانى وسط إصرار إثيوبى على التصعيد، ومن ثم كان لابد من رسم الخط الأحمر، ودق جرس الإنذار ولست أقول طبول الحرب..!

لسنا دعاة حرب، وبالقطع لا نريد حرباً مع إثيوبيا تلحق ضرراً بالغاً بالشعب الإثيوبى الشقيق ومقدراته، نحن أصحاب حق ودعاة سلام وتعاون، لم نغلق باب التفاوض، بل إننا نشارك منذ الأمس فى إجتماعات لوزراء الخارجية والرى للدول الثلاث فى كينشاسا، سعيا لإيجاد اتفاق عادل متوازن.

مازلنا نرى بصيص ضوء فى نهاية النفق، هو الوصول بأسرع وقت ودون إبطاء، إلى اتفاق قانونى ملزم بشأن قواعد الملء والتشغيل، يحفظ حقوق مصر والسودان، ولا يجور على نقطة ماء واحدة من حصتنا فى مياه النيل. ثم التنفيذ بكل حسن نية من جانب حكام إثيوبيا لصالح الشعوب الثلاثة.

مصر تمد يدها للتعاون والسلام والتنمية، لكنها إذا رُفضت يدها، قادرة لو لزم الأمر واقتضت الغاية العليا للبلاد، على أن تفرد ذراعيها لتطول ما يجب أن يطال..!​​​​​

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة