محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الأخبار

رمضــــان مصـــرياً

محمد السيد عيد

الأحد، 11 أبريل 2021 - 07:24 م

 

ارتبطت مصر برمضان وارتبط رمضان بمصر منذ دخلها الإسلام، حتى قيل: من لم يشهد رمضان فى القاهرة لم يشهده أبداً. وهذه لمحات من العلاقة الطويلة والجميلة بين مصر ورمضان.

كانت الاحتفالات برمضان تبدأ قبل بداية الشهر الكريم، بالتحديد فى الليلة التاسعة والعشرين من شهر شعبان، المسماة بليلة الرؤية، أى الليلة التى يستطلعون فيها هلال رمضان. وهذه الاحتفالات لا تقتصر على القاهرة، بل توجد فى جميع أرجاء مصر..

ابن بطوطة يشهد

سار الرحالة المغربى ابن بطوطة مندهشاً فى مدينة أبيار (قرية تابعة لمركز كفر الزيات حالياً). هناك شيء مختلف فى الناس اليوم. الوجوه فيها بشاشة. العيون تلمع بالفرح. سأل: ما الخبر؟ عرف السر: الليلة ليلة الرؤية. علم ابن بطوطة أن كبار القوم يتجمعون الآن فى بيت القاضي. سأل عن مكان هذا البيت. توجه إليه دون تردد. حين اقترب وجد نقيب المعممين يقف بالباب لاستقبال وجوه القوم، وكلما دخل واحد منهم صاح منادياً باسمه ووظيفته. عرّفه ابن بطوطة بنفسه. صاح الرجل: سيدنا الشيخ ابن بطوطة، الفقيه والصوفى المغربي.

وسار أمامه حتى أوصله لمكان اجتماع القوم. دخل ابن بطوطة على القوم فوقفوا له، رحبوا به، وانشغل معهم بحوارات عن طرائف ما يحدث ليلة الرؤية، فلما تكاملوا ركبَ القاضى وركب معه الجميع، وتبعهم كثيرون من أهل المدينة، رجالاً ونساءً وصبياناً، حتى انتهوا إلى موضع مرتفع خارجه. كان المكان مفروشاً بالسجاجيد والفرش الحسن، فنزل الجميع، وراحوا يرقبون الهلال، فلما ظهر هلل القوم، ثم عادوا إلى المدينة بعد صلاة المغرب، وبين أيديهم الشموع والمشاعل والفوانيس، وأوقد أهل الحوانيت الشموع بحوانيتهم، وبدأ الاحتفال بالشهر الكريم.

والقاهرة أيضاً

ولأن القاهرة هى العاصمة فقد كان احتفالها هو سيد الاحتفالات، ففيه ينظمون موكب الرؤية، وقد وصف المستشرق إدوارد لين الذى زار مصر فى عصر محمد علي هذا الموكب فى كتابه "المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم". وها نحن نسير مع إدوارد لين خطوة بخطوة.

وقف إدوارد ينتظر فى ميدان الرميلة تحت القلعة. بعد العصر بقليل انفتحت أبواب القلعة، خرج منها موكب المحتسب. كان موكباً حافلاً. يسير فيه مشايخ الحرف، والخبازون، والجزارون، والبدالون، وباعة الفاكهة، وغيرهم، ومعهم فرق من الموسيقيين، وعدد من الفقراء (الصوفية)، يتقدمهم أو يتخللهم الجنود.

سار الموكب من القلعة إلى مجلس القاضي. وازدحمت الشوارع التى يمر منها الموكب بالمشاهدين على الجانبين. كان القاضى قد أرسل من يثق بهم لمشاهدة الهلال فى الصحراء، حيث يصفو الجو ويسمح برؤية الهلال. وكان الأهالى عادة يذهبون إلى المكان المخصص للرؤية قبل نهاية شعبان بأيام، وينصبون خيامهم ولا يعودون إلا بعد رؤية الهلال.

جاء رسول ممن شاهدوا الهلال على دابة سريعة. أخبر القاضى برؤيتهم له. وحينئذ انقسم الجنود والمحتفلون لعدة فرق. عادت واحدة منها إلى القلعة، وانطلق الباقون إلى جهات المدينة المختلفة صائحين: "يا أمة خير الأنام، صيام صيام صيام". وأضيئت المساجد، وعلقت المصابيح عند أبوابها، وعلى شرفاتها، وابتهج الناس، وقضوا الوقت حتى السحور فى الأكل والشرب والتدخين فرحين بمقدم الشهر الكريم.

شهر القرآن.. وصحيح البخارى

كان من مظاهر احتفال حكام مصر بشهر رمضان أن ينظموا جلسات للناس كل ليلة، بعد الإفطار، لسماع القرآن، وكان الفاطميون بالذات يهتمون بهذا الطقس بشدة، ثم يحتفلون فى نهاية الشهر بختم القرآن، ويحضر الخليفة هذا الاحتفال، ويوزع الجوائز على القراء والمؤذنين والمشايخ. لكن فى العصر المملوكي، وبالتحديد فى عصر السلطان الأشرف شعبان، عام 775 للهجرة، جد جديد. ها هو الوزير يقف أمام السلطان شعبان شاكياً:

الفاطميون هم قمة الترف

كان الخليفة الفاطمى يرسل فى أول يوم من أيام رمضان لكل أمير من الأمراء، وأصحاب الرتب، والخدم، ولكل واحدة من نسائه، وكل واحد من أولاده، طبقاً فيه حلوى، وفى منتصف الطبق صُرة من ذهب، لنشر السعادة بينهم.

ويقيم الخليفة سماطاً، أى مائدة إفطار يومية، بقاعة الذهب بالقصر الكبير، كما أقام داراً تسمى دار الفطرة لصنع الكعك والحلوى التى يقوم بتوزيعها على الأتباع بهذه المناسبة، لكن الملاحظ أن الاحتفالات الفاطمية كانت تخص وجوه الدولة، باعتبار أن القاهرة كانت مدينة ملكية، وليست لعامة الشعب.

مسلسلات زمان

لكل زمن مسلسلاته، وقد عرف أجدادنا المسلسلات خلال شهر رمضان، لكنها لم تكن مسلسلات إذاعية ولا تليفزيونية، بل كانت مسلسلات من نوع آخر يلتقون بها فى المقاهى كل ليلة بعد الفطور، ويسهرون للاستمتاع بها.

كانت مسلسلات زمان عبارة عن سير شعبية يرويها الرواة على الربابة، وأشهر السير التى يرويها الرواة هى السيرة الهلالية. وسيرة الظاهر بيبرس، والزير سالم، وعنترة، وذات الهمة، وسيرة الملك سيف بن ذى يزن، وعلى الزيبق، وهى جميعاً تروى قصص البطولة العربية والمصرية. وكانت كل مجموعة من الناس تتعصب لأحد أبطال السيرة، كما يتعصبون الآن للأهلى والزمالك، ففى السيرة الهلالية مثلاً كان الناس فريقين، الأول مع أبى زيد والثانى مع دياب بن غانم، وحين يحتدم التعصب بين المستمعين يستخدم الراوى عصا طويلة معه لردع المتعصبين. والمعروف أن السير طويلة جدا، بحيث تستغرق روايتها شهوراً، لذلك كانت هى مسلسلات ذاك الزمان.

فوازير رمضان

إذا كنا فى زماننا عرفنا فوازير فطوطة ونيللى وشيريهان فقد عرف أجدادنا أيضاً الفوازير الخاصة بعصرهم. كانت الفوازير تلقى فى الأمسيات المنزلية، والجلسات الثقافية، باعتبارها مسابقات ذكاء، ويشارك فى إلقائها وحلها الجميع. ومن فوازير زمان، فزورة فى غزال:

اسم من قد هويتُهُ ظاهر فى صروفِه

فإذا زال رُبعُهُ زال باقى حروفه

ومنها فى كتاب:

وذى أوجه لكنه غير بائح بسرٍ.. وذو الوجهين للسرِّ يُظهِر

تناجيك بالأسرارِ أسرارُ وجههِ.. فتسمعها بالعينِ مادمتَ تبصر

ومنها فى الشطرنج:

له حروف خمسة إنما ثلاثة منها له شطر

ومنها هذا اللغز لتميم بن المعز لدين الله فى شمعة:

وباكيةٍ متوجةٍ بنار كأن دموعَها حَببُ العُقارِ

إذا ما تُوجت فى دار قوم رأيتَ الليلَ منها كالنهارِ

فتاة عمرها عمرٌ قصير ولكن نفعها نفع الكبار

رمضان شهر الجهاد

ومن الأحداث المهمة التى وقعت فى رمضان معارك التحرير الكبرى، وأهمها معركة عين جالوت، ومعركة السادس من أكتوبر، ولأنها حرب حديثة، ويتناولها الإعلام كثيراً فسوف أتحدث عن معركة عين جالوت.

الرسل المغرورون

كانوا أربعة رسل أرسلهم هولاكو إلى مصر. صعدوا إلى القلعة، دخلوا على السلطان المظفر قطز يختالون كالطواويس. وقفوا أمام العرش فى استعلاء. قال الذى يتقدمهم للسلطان بعنجهية: معى رسالة من سيدى ومولاى هولاكو.

قال له قطز: اقرأ رسالة سيدك.

فض الرسالة. قرأ:

"من ملك الملوك شرقًا وغربًا، القان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء، يعلم الملك المظفر قطز، الذى هو من جنس المماليك... وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أنا نحن جند الله فى أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه. فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم... فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن اشتكى، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب، فأى أرض تؤويكم، وأى طريق تنجيكم، وأى بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال...".

ومضى الرسول فى رسالته التى تفيض تهديداً ووعيداً حتى انتهى منها، فأشار قطز لواحد من رجاله لكى يأخذ الرسالة، ووعده بالرد عليها سريعاً.

جمع قطز قادته. شاورهم فى الأمر. وكان القرار هو: الحرب..

المعركة

كان المماليك هم قادة الجيش، أما الجيش نفسه فكان من المصريين، وكان بين الرجال عدد كبير من البدو، ويقدر بعض المؤرخين عدد الجيش المصرى فى هذه المعركة بأربعمائة ألف مقاتل.

سارت مقدمة القوات بقيادة بيبرس. وصلت إلى غزة. انتظرت حتى وصل السلطان ببقية القوات، ثم سارت إلى عكا وبها يومئذ الفرنج، وكان الفرنج يخشون التتار، لذلك أعطوا المواثيق لقطز على عدم الغدر به، بل عرضوا عليه المساعدة، لكنه شكرهم، ومضى حتى وصل إلى عين جالوت.

كان جيش التتار جيشاً لا يقهر، فتح الصين وبلاد فارس، والعراق، والشام، وها هو وجهاً لوجه مع الجيش المصرى. كان الوقت رمضان، والرجال صائمين، ورغم أن الشيوخ أفتوا بجواز الإفطار إلا أن أكثر الرجال رفضوا أن يفطروا، واستعدوا لأن يلقوا الله صائمين. أما قائد التتار فكان "كتبُغا"، وهو قائد لا يعرف الرحمة. وفى الخامس والعشرين من رمضان 658 للهجرة (سبتمبر 1260 للميلاد)، دارت رحى الحرب. وكانت صيحة الجنود الصائمين "الله أكبر" أما السلطان فقد راح يتضرع إلى الله قائلاً "يا الله! انصر عبدك قطز على التتار" وخلع خوذته عن رأسه وهذه قمة الشجاعة فى حروب هذا الوقت، وراح يقاتل قتال الأبطال، وانتصر الجيش المصرى، وقُتل كتبُغا، قائد التتار. فما أعظمه من شهر!

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة