صورة موضوعية
صورة موضوعية


سلمى قاسم جودة تكتب: حمـّال الأسية وزمرد الجارية

آخر ساعة

الإثنين، 12 أبريل 2021 - 11:00 ص

بقلم/ سلمى قاسم جودة

الأصيل وتابعه المغيب.. الصخب وتابعه الصمت.. الأجواء الرمضانية قبيل الإفطار تزف السكون المقدس.. الكل فى واحد.. صوت الشيخ محمد رفعت يزين الأثير يعلو ويصدح.. أوان ألف ليلة وليلة درة التراث.. كل الأزمنة والأمكنة، أصبح لها نوع من الارتباط الشرطى مع شهر رمضان فيحلو السمع لليالى طاهر أبو فاشا عبر الإذاعة وأيضا التليفزيون، فروعة الحكايا المثيرة المخضبة بالعشق، الدم، الحكمة الخوارق والسحر بالمعجزات، بثراء المخيلة الملهمة لأهل الإبداع شرقا وغربا حتى يومنا هذا.. فكل شيء ممكن وغير ممكن فى ألف ليلة، هى تتقن مغازلة مملكة الحواس باللون، الشعر، العطر وتحول الخلايق فى لحظة من حال إلى حال، فالثروة، المُلك، الجاه قد يكمن فى مصباح، أو هذا الكنز المرصود بباطن الأرض على اسم صاحبه منذ سالف العصر والأوان، إن حكى شهر زاد أيقظ الفتنة النائمة وتفجرت حمم الاستشراق من القرن الثامن عشر.. الذاكرة عامرة بحواديتها المبللة بماء الورد.. وأذكر تلك الأبيات.. "إن قل مالى فلا خل يصاحبني.. وإن زاد مالي فكل الناس خلاني.. فكم عدو لأجل المال صاحبنى ..وكم صديق لفقد المال عاداني".
الآن أرتد إلى طفولتى.. صوتها الخلاب يشعل الخيال.. زوزو نبيل شهر زاد تحكى للملك السعيد شهريار السيكوباتى بلغة هذا الزمان عن حمّال الأسية الذى أفنى عمره فى الانحناء ولكن ألف ليلة تنقل الإنس والجن فى لمح الأبصار من حال إلى حال وتوصى بالرضا كما يقول الشاعر: "كن حليما إذا ابتليت بغيظ ... وصبورا إذا أتتك مصيبة
فالليالى من الزمان حبالى... مثقلات يلدن كل عجيبة
وقول الآخر: اصبر ففى الصبر خير لو علمت به.... لطبت نفسا ولم تجزع من الألم
وأعلم بأنك لم تصطبر كرما.. صبرت رغما على ما خط بالقلم.
 مئات السنين ولم يتغضن هذا النص الليلى الفذ المسكون بحسية لافحة، هو بمثابة النبع الحى للقصة القصيرة، أدب الرحلات حيث السندباد البحرى هو الملهم لروبنسون كروزو وجاليفر، الخيال العلمى  فالبساط، الحصان والطاووس الكل يحلق  ويطير،  الليالى لها أصل هندى فارسى وهو يتجلى فى الجزء الأول.. وإطار الحكايات بما فيها أسماء شهرزاد، دنيازاد وشهريار.. ثم الجزء الثانى يدور فى دمشق وبغداد حيث بساتين البصرة وازدهار التجارة والمجتمع المخملى تحت حكم هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكى ومسرور السياف.. وأخيرا الجزء الثالث فى مصر الفاطمية وتبزغ الحكايا المرصعة بالسحر، والأرض العامرة بالكنوز والأسرار، فالخوف من الحسد.. فنجد  ليالى  معروف  الاسكافى  وعلاء الدين أبى الشامات وهناك الأثر العظيم للقرآن الكريم وهو ما أبرزته د.سهير القلماوى فى رسالتها.. لم يفارقنى الولع والشغف بألف ليلة فحملت تلك الذائقة فى كل مراحل عمري، وفى كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية قمت بأبحاث عن خبيئة الليالي، وقد كان أول من جعل شهرزاد تحكى وتخاطب الغرب هو الباحث والمترجم الفرنسى أنطوان جالان وكان ذلك فى القرن الثامن عشر ولقد ترجم القرآن الكريم، وكانت له دراسة عن القهوة، ولقد قمت بدراسة مقارنة بين ألف ليلة الأصلية وترجمة جالان فأصابتنى الدهشة فلقد نُزع عنها سحر الشرق فصارت أقرب إلى قصة "أميرة كليف" لمدام لافاييت، فعلى سبيل المثال فى حكاية "الحمال والثلاث بنات"، هناك الوصف المبهر للجارية، فهى رشيقة القد قاعدة النهد حواجبها كهلال رمضان ولها عيون كعيون الغزلان وفمها كخاتم سليمان وخدودها كشقائق النعمان، فجاءت الترجمة بكلمة واحدة جافة، مبتسرة "كانت جميلة جدا"، وفى المقاطع الخاصة بالسلاطين وممارسة السلطة، كانت المغالاة الفادحة لإبراز وحشية ملوك وحكام الشرق، ووجدت الوصف الخاص بالحلوى فى ألف ليلة والتى كانت جدتى تصنعه دوما وهو مزيج من الرمان المحلى بالسكر واللوز وماء الورد، تحول تحت وطأة قلم جالان إلى جاتوه "الميلفوي" لتنتقل  قبل أن يرتد إليك طرفك من سحر ألف ليلة وغواية لياليها إلى بلاط لويس الرابع عشر ومن ثم تبرغ أيدولوجية المترجم، والترجمة الثانية كانت لماردروس وكانت تتلحف بسحر الشرق ولكن حرفية لدرجة الغموض، ثم الترجمة الأخيرة لجمال  الدين بن شيخ وأندريه ميكيل كتب المفكر إدوارد سعيد فى كتابه الأشهر "الاستشراق": "إن عملية الاستشراق وخطاب الغرب عن الشرق ليس تعبيرا عن الشرق بقدر ماهو صورة يختلقها الآخر وصفات يخلعها علينا ليشبع من خلالها احتياجاته وأحلامه وحنينه للجنة المفقودة وأيضا لإبراز نوع من التضاد والتناقض الذى يبرز الغرب فى أجمل حالاته تاركا للشرق السلبيات والصور الكاريكاتيرية المشبعة بالإمبريالية والعنصرية، عشقت حكاية على شار وزمرد الجارية، وزمرد أنثى شاهقة الحسن ولكنه يقترن بالذكاء، الثقافة، الفطنة والحكمة أى تنويعة على لحن شهرزاد، فلغة الجسد محدودة يراها على ويقع فى الهوى من أول لحظة وتشرق العبارة الأثيرة فى الليالي: "ونظر إليها نظرة أعقبته ألف حسرة" فهنا الحب يصعق، يسلب الروح، وأخيرا أذكر عبارة جوتييه عن المحروسة "فى عالم متغير تتربع مصر فوق عرش الثبات".

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة