د. مصطفى محمود
د. مصطفى محمود


300 مليون سنة .. الحشرات على مر العصور

الأخبار

الأربعاء، 14 أبريل 2021 - 07:27 م

 

بقلم : د. مصطفى محمود

قبل أن يجيء إلى الدنيا شيء اسمه إنسان، ولد للحياة حفيد جديد رقيق اسمه " الحشرة "، وكان مقدراً له أن تكون سلالته المباركة أكثر مصنفات الحيوانات عدداً وعدة، وأن يكون أذكى من الديناصور وأوسع حيلة من ثعلب الجبل، وأقدر على مواجهة صعوبات الحياة من ضوارى الغاب، وحينما زحف الثلج فى العصر الجليدى، ماتت الديناصورات وانقرضت الزاحفات، وبقيت الحشرة تقاوم، مكومة فى الثلج وقد أغمضت عينيها فى بيات شتوى طويل لا تأكل ولاتتنفس، وأشرقت الشمس، وذاب الجليد، وخرجت الحشرات بالملايين من خنادقها، وكأنها يأجوج ومأجوج، لتغزو الماء واليابسة والصحارى الجرد والهواء، بعضها يأكل بعضاً، وبعضها يتطفل على النبات والحيوان، وبعضها يتغذى على الطين والروث، وبعضها يعيش على المستنقعات وبعضها يمتص الدم، وإنها لقادرة دائماً على التكيف على أى طعام موجود.
وبيننا اليوم حشرات عجيبة مثل ذبابة البترول التى تعيش فى أحواض البترول، وذبابة التحنيط التى تعيش على أملاح تحنيط الجثث، والخنفساء التى تعيش على أسلاك الرصاص وجنادب الينابيع الكبريتية الحارة، والجعارين التى تأكل العظام، وكل حشرة تتحرك مثل عربة مصفحة تحيط بجسمها الرقيق صفائح من مادة كالصلب اسمها الكيتين تقاوم فعل جميع المهلكات الكيميائية، وهى تسلح نفسها بخناجر وأشواك، وحويصلة من السم متصلة بإبرة "الزبان" يطعن بها العدو فيشله ثم يلتهمه، وبعضها يتلون بلون البيئة كفرس النبى الأخضر أو الجرادة الصفراء، وبعضها يلصق على نفسه أوراق الشجر الميتة كما يفعل جندى الصاعقة، وبعضها يطلق غازات ليطرد أعداءه، وبعضها يحفر لنفسه خنادق ليختبئ، وبعضها يبنى لنفسه قلاعاً حصينة من الطين، وبعضها يحاكى الزنابير اللاسعة بدون أن يكون له زبان ليضحك على مطارديه، والحشرات تتحمل درجات البرودة تحت الصفر، فتتجمد ولا تموت كما تتحمل الحرارة العليا كما تعيش تحت الضغط الجوى المنخفض وتحت ضغوط البحر العالية، وفى الفراغ، وفى غياب الأكسجين، وفى وجود الغازات السامة، وكل حشرة تعيش فى أكثر من بيئة، فالبعوضة فى مرحلة الدودة والشرنقة تعيش فى المستنقعات، وفى مرحلة الحشرة الكاملة تعيش فى الحدائق وتتغذى ذكورها على رحيق الزهر وإناثها على دم الإنسان.
الحشرات تسمع وتحس وتشم وترى بقرون الاستشعار أو الوبر الخفيف على جسمها، وبعضها له طبلة أذن وبعضها له عيون مركبة، وقد هزمت الموت والفناء بمعجزة النسل، فحشرة دودة القطن تبيض فى اللطعة 400 بيضة تفقس 280 أنثى و200 ذكر وكل أنثى تعود فتبيض 400 بيضة وبعملية حسابية سوف نكتشف أن الحشرة تتضاعف ثمانين ألف حشرة ثم 16 مليوناً، كل هذا من حشرة واحدة فى زمن يعد بالأيام، وذبابة "الدروسوفيلا " تنتج 25 جيلاً فى السنة ولو تراصت ذبابات الواحدة إلى جوار الأخرى لتكون جسر يوصل من الأرض للشمس، وأعجب ما فى الحشرة ما يسمى بالمعرفة الغريزية، فحشرة أبى دقيق تختار أوراق الكرنب لتبيض عليها وتقودها إلى ذلك معرفة غريزية، فالبيض يفقس وتخرج ديدان لا تأكل سوى الكرنب، وحشرة أبى دقيق لا تعرف هذه المسألة معرفة عقلية واعية.
وحتى لو رأت الصغار التى فقس عنها بيضها، فهى لن تعرفها، ولن تعرف أن هذه الديدان أبناؤها، لأن كل العملية تتم بدون وعى وبإملاء من قوة مجهولة اسمها الغريزة، وزنبور الطين يصطاد الدودة ثم يبيض عليها بيضة واحدة ثم يضعها فى العش ويمضى باحثاً عن حصاة حتى إذا وجدها حملها بين ذراعيه وأغلق بها باب العش، وتفقس البيضة لتجد اليرقة الصغيرة طعامها جاهزاً بين يديها، فكيف أدرك الزنبور هذه الحاجة المسبقة فاحتاط له ؟!
والبعوضة التى تضع بيضها على سطح الماء وتزود كل بيضة بكيسين من الهواء.. هل تعرف قوانين أرشميدس ؟ وحشرة " قاذفة القنابل " التى تتمخطر أمام الحيوانات المفترسة دون خوف حتى إذا فتح أحدها فمه ليلتهمها ضغطت على كيس فى بطنها فامتزجت فى لحظة إفرازات ثلاث غدد تحتوى على مادة الهيدروكينون وفوق أكسيد الهيدروجين وإنزيم خاص، ويؤدى اختلاط الثلاثة إلى تفاعل شديد وخروج غاز لاسع كريه الرائحة، فيفر الحيوان المفترس رعباً، فهل أخذت هذه الحشرة دبلوم الكيمياء من كامبريدج ؟! والحشرات التى تنصب الفخاخ من خيوط الحرير، والحباحب التى تضىء بالليل لتجذب البعوض ثم تأكله، وحشرات الماء التى تسبح بأذرع كالمجاديف وتطير فى الهواء، والحشرات التى تغنى لتنادى على ذكورها، لا شك أن هناك عقلاً كلياً خلق مخلوقاته وخطط لها وهو يعلم من الغيب ما لا تعلم.
من كتاب « ماذا وراء بوابة الموت »
 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة