مائدة الرحمن للفنان: عمر عبد الظاهر
رمضان يقيم في غرفتي
الثلاثاء، 20 أبريل 2021 - 10:09 ص
بقلم :عبدالرحيم كمال
الصيف شديد الوطأة واليوم طويل وملىء بالبركة، العيساوية شرق قرية فى مركز اخميم محافظة سوهاج، وأنا صبى صغير يراقب، سورة ياسين يتمتم بها أبى فى بداية اليوم وأنا أعد الساعات حتى يؤذن المغرب ليس من أجل الإفطار ولكن من أجل رؤية فانوسى الجديد وهو مضاء ويهتز فى يدى فى الساحة المعتمة أمام البيت، الفانوس المضاء بالحجارة الصغيرة يفرش مساحة كبيرة من الضوء فى ليالى القرية فى صعيد مصر سنة ١٩٨١، أنه رمضان الأول فى الصعيد بعد غربة فى القاهرة استمرت خمس سنوات، كل واحد فينا أنا وأخوتى وأمى وأبى وجدتى، يحاول استعادة لحظات غابت عنا لسنوات، فى القاهرة هناك آذان ينبعث من ميكرفونات المساجد والزوايا وأجهزة الراديو والتليفزيون، ولكن هنا شمس تشرق وتغيب، ويراقبها الناس، هنا خيط أبيض يتبين للناس من الخيط الأسود، فيبدأ الصوم، قيل أنه فى القديم وحينما كان جدى هو العمدة كان يطلق من بندقيته عيارا ناريا عند الفجر فيمسك الناس عن الطعام والشراب، ويبدأ صومهم وقيل أنه غفل ذات ليلة عن ذلك فأصبحت القرية كلها مفطرة، كان ذلك قبل دخول الميكرفون وقبل انتشار المآذن، وكان هناك رجل ذو هيبة ومكانة فى قديم القرية يراقب الشمس فاذا غابت واختفت غرب النيل شرع فى الإفطار دون انتظار للأذان ، معلنا فى اقتناع كامل : مدام غابت يبقى الإفطار وجبت.
كانت الناس بسيطة، ولم يكن قد ظهر بعد من يكفر الناس على كلمة أو حرف، فى رمضان القاهرة كان الصبية يدقون على شقتنا فأفتح الباب لأجدهم فى مثل عمرى مبتسمين يطلبون الإذن للدخول فى البلكونة لتعليق زينة رمضان، كان حدثا غريبا وجديدا على عينى أن أرى طفلا مشعلقا فى بلكونة شقتنا يناول طفلا مشعلقا فى بلكونة أخرى، ليكمل له خيط الزينة الملون، ليمتلئ الشارع فى شبرا بخيوط الزينة وعناقيد النور المتقاطعة والتى يتوسطها فانوس ضخم، بينما فى القرية الأمر أكثر هدوء وأكثر خصوصية، كل شيء ساكن نهارا وقرب المغرب يبدأ الإعداد للـ (مفطر)، وهو أن تخرج كل عائلة طبلية وتضعها فى المنضرة الكبيرة ويجلس كبير كل عائلة على رأس طبليته وييدأ الصبية فى ملء الطبلية بأنواع الطعام المختلفة القادمة من بيت كل عائلة، ومع الأذان تكون الطبالى قد تراصت وفى منتصف كل طبلية (شفشق) او (شفقشان) من الخشاف، ويتحلق حول كل طبلية أفراد العائلة والصبية الذكور وينضم إليهم كل ضيف أو عابر بينما النساء فى بيوتهن ينتظرن المديح على أصنافهن، من خلال الأطباق العائدة، فإن عادت فارغة كان ذلك يعنى أن الإعجاب قد وصل ذروته، وكان لكل سيدة فى كل عائلة طبق يميزها حتى صارت مشهورة به فهذا طاجن فلانة وهذه بالتأكيد صينية بطاطس علانة .ت
الليل فى العاصمة كان للفوازير الرمضانية فى التليفزيون والمسلسل الذى غالبا ما يكون جادا وحزينا، بينما الليل فى القرية كان ينقسم إلى أجزاء عدة، فبعد صلاة العشاء يجلس القارئ ذو الصوت الحسن على كنبة من كنب المنضرة، وينطلق فى آيات الكتاب الكريم انطلاقا يختلف عن طريقته فى القراءة فى مناسبات العزاء، فشهر رمضان يمنحه فرصا شتى للتجويد، تحوله من قارئ عادى إلى نجم من نجوم رمضان فى منضرة القرية، ثلاثون ليلة متتالية أو تسع وعشرون على حسب رؤية الهلال وهو يتلو ويعلو ويهبط ويطير فوق المقامات الموسيقية، جالبا بصوته العشرات من المعجبين، حتى تمتلأ دكك وكنب المنضرة وتعلو الآهات وكأنها ليلة من ليالى أم كلثوم، وما أن ينتصف الليل حتى يستريح الشيخ القارئ، ويبدأ سمر الشباب وحكاياتهم وأكاذيبهم أحيانا وضحكاتهم التى حينما تتجاوز الحد، ينبههم أحد الكبار السهارى بأن يتنحنح ثم يعلو صوته بجملة واحدة واضحة محددة: رمضان كريم.
فيعود الشباب إلى بعض من هدوء وحينما يقترب الفجر، تخرج طبالى السحور، وغالبا ما تكون أقل عددا من طبالى المفطر وغالبا ما تكون صنوف طعامها أبسط، فى العاصمة لا ينجح التليفزيون فى أن يجعل الطفل قادرا على السهر حتى السحور وغالبا ما يكون نائما بعيدا عن فراشه المعتاد، لتأتى يد أمى الحنونة وصوتها المنبه : قوم عشان تتسحر، لا أجد حماسا لليقظة واضع الطعام فى فمى وأنا نصف نائم.
النهار فى العاصمة فى رمضان وقت لابد أن يمضى والأوقات داخل الشقق لا تمضى وفق هوى سكانها ، فتتعلم الانتظار ، لكن نهار رمضان فى القرية فى الصعيد نهار حى يتحرك أمامك ويصوم معك أيضا، نظرة واحدة منك للشمس الجالسة فوق النيل تستطيع أن تحدد بها ماذا تبقى من الوقت، الزرع والأشجار ولعبة الظل والنور والوقت الذى تبدأ فيه الأم دق الكفتة فى الهون، أو وصول لوح الثلج إلى البيت - الثلج الذى ينتظره أبى بلهفة ليضع فيه الفاكهة او يضع قطعا منه فى العصير، كان يعشق الثلج ولم تكن الثلاجات والكهرباء قد وصلت إلى كامل قرى الصعيد بعد- وكان لحظة وصول لوح الثلج من اللحظات المهمة فى يوم أبى الرمضانى فيتهلل وجهه ويبدأ رحلة مع اللوح الثلج مسلية لا تنتهى وقطع الثلج تزين كل شيء قابل للتثليج هناك فى القرية أنت لا تحتاج الساعة ولا تشعر بالملل والانتظار، بل تعيش داخل ساعة حية تتمرجح أنت على عقاربها، أنت الآن جزء من الزمن ولست مراقبا ملولا له.
وحينما يبدأ الزيت فى القدح ويصل أنفك صوت العجين، تعرف أنها لحظات قلى وصنع الزلابية وبلح الشام بيد أختك وأن آذان المغرب يقترب جدا وما هى إلا لحظات وينادينى أبى لأحمل شفشق الخشاف لصانع سلال السعف (حجاوى)، العجوز الذى يقيم منذ سنوات تحت النخل ،لا أعرف له بيتا، يصنع كل شىء من سعف النخيل وليفه وكرنيفه، حتى أننى كنت أظن أنه ولد تحت النخلة أو أن النخلة هى أمه الحقيقية ، لم يكن له زوجة ولا ولد، فقط يصنع السلال والاطباق بمختلف أحجامها فى سرعة وجمال، كان لا يبتسم أبدا، نحيفا سبعينى، متغضن الجبين وكأن التكشيرة قد انطبعت على قورته وتحتها عينان لامعتان ضيقتان، أناوله شفشق الخشاف، فيترك ما يصنع ويأخذه بلهفة وسعادة وهو يتمتم : بعودة الأيام.
ويبتسم ، نعم كان يبتسم لى كل مرة أحضر فيها الشفشق طوال شهر رمضان ويعود باقى السنة إلى حالته من الصمت والتكشير والإنشغال بالسعف، فى الأسبوع الأخير من رمضان تبدأ الأفران بالزغردة حينما تمونها النساء بالوقيد الكافى وتنتشر رائحة الكعك والبسكويت والفايش من كل بيت وتعم القرية ، عدا البيوت الذى أصابها الموت فى ذلك التوقيت السنوى الحساس، الرائحة فى كل مكان وكأن حاسة الشم تكون هنا أقوى من حاسة الشم فى القاهرة، النساء تسبق بهجتهن حلول العيد وكأن التحضير للعيد والخبز والعجن هو العيد، فى القاهرة الصاجات تحمل على الرؤوس إلى الأفران ،كذلك يفعل قدامى السكان، أما الوافدون حديثا مثلنا فلا يليق بهن فعل ذلك وكلما اقترب العيد كلما ظهر التوتر على الجميع، لقد ارتبط اقترابه بطقوس لا نستطيع أن نمارسها فى تلك الشقة الموجودة داخل تلك العمارة فى ذلك الشارع البعيد جدا عن الشمس والنيل، لنجد علب كرتونية كبيرة يدخل بها أبى، تحمل داخلها الكعك والبسكوت ويحاول أبى أن يبدو مبتسما، لكن جدتى تمسح تلك الإبتسامة بتعليقها الحزين القاسى: جاهز ؟ حتى خبيز العيد بقى جاهز ؟
قبل رمضان كنت أكمش فى حجر أمى وهى تقول بيقين تام حينما يتبقى أسبوع واحد ويهل رمضان وهى تنظر للشباك وانا اصدقها تماما : اهو رمضان.... فتح الشنطة بتاعته ورص هدومهت.
وبعد ليلة تزيد من الإثارة أكثر وتقول: كده الشنطة جاهزة بس نسى الفانوست.
وفى الليلة التالية : عيكوى عبايته الدهبى
وفى الليلة التالية : عليمع جزمته السودة
وهكذا حتى تكون ليلة الرؤيا فتضحك وتقول: وآدى مركب رمضان رسيت واهو نازل ع السقالة داخل علينا بفانوسه.
لانطلق فى فرحة مهللا ومرحبا وكأننى ساستقبله فعلا، بعباءته المذهبة ووجهه البشوش وفانوسه المضىء وأحمل عنه حقيبته الثقيلة، ليقيم عندنا، بل فى غرفتى والى جوارى و فى سريرىت.
فى القاهرة كانت أمى تحكى نفس الحكاية لكننى أدركت أن الأمر ليس كذلك، وأن رمضان لم يعد يقيم معى فى غرفتى كالسابق.