مائدة الرحمن للفنان: عمر عبد الظاهر
مائدة الرحمن للفنان: عمر عبد الظاهر


رمضان يقيم في غرفتي

أخبار الأدب

الثلاثاء، 20 أبريل 2021 - 10:09 ص

بقلم :عبدالرحيم‭ ‬كمال

الصيف‭ ‬شديد‭ ‬الوطأة‭ ‬واليوم‭ ‬طويل‭ ‬وملىء‭ ‬بالبركة،‭ ‬العيساوية‭ ‬شرق‭ ‬قرية‭ ‬فى‭ ‬مركز‭ ‬اخميم‭ ‬محافظة‭ ‬سوهاج،‭ ‬وأنا‭ ‬صبى‭ ‬صغير‭ ‬يراقب،‭ ‬سورة‭ ‬ياسين‭ ‬يتمتم‭ ‬بها‭ ‬أبى‭ ‬فى‭ ‬بداية‭ ‬اليوم‭ ‬وأنا‭ ‬أعد‭ ‬الساعات‭ ‬حتى‭ ‬يؤذن‭ ‬المغرب‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الإفطار‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬أجل‭  ‬رؤية‭ ‬فانوسى‭ ‬الجديد‭ ‬وهو‭ ‬مضاء‭ ‬ويهتز‭ ‬فى‭ ‬يدى‭ ‬فى‭ ‬الساحة‭ ‬المعتمة‭  ‬أمام‭ ‬البيت،‭ ‬الفانوس‭ ‬المضاء‭ ‬بالحجارة‭ ‬الصغيرة‭ ‬يفرش‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الضوء‭ ‬فى‭ ‬ليالى‭ ‬القرية‭ ‬فى‭ ‬صعيد‭ ‬مصر‭ ‬سنة‭ ‬١٩٨١،‭ ‬أنه‭ ‬رمضان‭ ‬الأول‭ ‬فى‭ ‬الصعيد‭ ‬بعد‭ ‬غربة‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭ ‬استمرت‭ ‬خمس‭ ‬سنوات،‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬فينا‭ ‬أنا‭ ‬وأخوتى‭ ‬وأمى‭ ‬وأبى‭ ‬وجدتى،‭ ‬يحاول‭ ‬استعادة‭ ‬لحظات‭ ‬غابت‭ ‬عنا‭ ‬لسنوات،‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭ ‬هناك‭ ‬آذان‭ ‬ينبعث‭ ‬من‭ ‬ميكرفونات‭ ‬المساجد‭ ‬والزوايا‭ ‬وأجهزة‭ ‬الراديو‭ ‬والتليفزيون،‭ ‬ولكن‭ ‬هنا‭ ‬شمس‭ ‬تشرق‭ ‬وتغيب،‭ ‬ويراقبها‭ ‬الناس،‭ ‬هنا‭ ‬خيط‭ ‬أبيض‭ ‬يتبين‭ ‬للناس‭ ‬من‭ ‬الخيط‭ ‬الأسود،‭ ‬فيبدأ‭ ‬الصوم،‭ ‬قيل‭ ‬أنه‭ ‬فى‭ ‬القديم‭ ‬وحينما‭ ‬كان‭ ‬جدى‭ ‬هو‭ ‬العمدة‭ ‬كان‭ ‬يطلق‭ ‬من‭ ‬بندقيته‭ ‬عيارا‭ ‬ناريا‭ ‬عند‭ ‬الفجر‭ ‬فيمسك‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬الطعام‭ ‬والشراب،‭ ‬ويبدأ‭ ‬صومهم‭ ‬وقيل‭ ‬أنه‭ ‬غفل‭ ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬فأصبحت‭ ‬القرية‭ ‬كلها‭ ‬مفطرة،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬قبل‭ ‬دخول‭ ‬الميكرفون‭ ‬وقبل‭ ‬انتشار‭ ‬المآذن،‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬رجل‭ ‬ذو‭ ‬هيبة‭ ‬ومكانة‭ ‬فى‭ ‬قديم‭ ‬القرية‭ ‬يراقب‭ ‬الشمس‭ ‬فاذا‭ ‬غابت‭ ‬واختفت‭ ‬غرب‭ ‬النيل‭ ‬شرع‭ ‬فى‭ ‬الإفطار‭ ‬دون‭ ‬انتظار‭ ‬للأذان‭ ‬،‭ ‬معلنا‭ ‬فى‭ ‬اقتناع‭ ‬كامل‭ : ‬مدام‭ ‬غابت‭ ‬يبقى‭ ‬الإفطار‭ ‬وجبت‭.‬

كانت‭ ‬الناس‭ ‬بسيطة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬ظهر‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬يكفر‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬كلمة‭ ‬أو‭ ‬حرف،‭ ‬فى‭ ‬رمضان‭ ‬القاهرة‭ ‬كان‭ ‬الصبية‭ ‬يدقون‭ ‬على‭ ‬شقتنا‭ ‬فأفتح‭ ‬الباب‭ ‬لأجدهم‭ ‬فى‭ ‬مثل‭ ‬عمرى‭ ‬مبتسمين‭ ‬يطلبون‭ ‬الإذن‭ ‬للدخول‭ ‬فى‭ ‬البلكونة‭ ‬لتعليق‭ ‬زينة‭ ‬رمضان،‭ ‬كان‭ ‬حدثا‭ ‬غريبا‭ ‬وجديدا‭ ‬على‭ ‬عينى‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬طفلا‭ ‬مشعلقا‭ ‬فى‭ ‬بلكونة‭ ‬شقتنا‭ ‬يناول‭ ‬طفلا‭ ‬مشعلقا‭ ‬فى‭ ‬بلكونة‭ ‬أخرى،‭ ‬ليكمل‭ ‬له‭ ‬خيط‭ ‬الزينة‭ ‬الملون،‭ ‬ليمتلئ‭ ‬الشارع‭ ‬فى‭ ‬شبرا‭ ‬بخيوط‭ ‬الزينة‭ ‬وعناقيد‭ ‬النور‭ ‬المتقاطعة‭ ‬والتى‭ ‬يتوسطها‭ ‬فانوس‭ ‬ضخم،‭ ‬بينما‭ ‬فى‭ ‬القرية‭ ‬الأمر‭ ‬أكثر‭ ‬هدوء‭ ‬وأكثر‭ ‬خصوصية،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ساكن‭ ‬نهارا‭ ‬وقرب‭ ‬المغرب‭ ‬يبدأ‭ ‬الإعداد‭ ‬للـ‭ (‬مفطر‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬تخرج‭ ‬كل‭ ‬عائلة‭ ‬طبلية‭ ‬وتضعها‭ ‬فى‭ ‬المنضرة‭ ‬الكبيرة‭ ‬ويجلس‭ ‬كبير‭ ‬كل‭ ‬عائلة‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬طبليته‭ ‬وييدأ‭ ‬الصبية‭ ‬فى‭ ‬ملء‭ ‬الطبلية‭ ‬بأنواع‭ ‬الطعام‭ ‬المختلفة‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬بيت‭  ‬كل‭ ‬عائلة،‭ ‬ومع‭ ‬الأذان‭ ‬تكون‭ ‬الطبالى‭ ‬قد‭ ‬تراصت‭ ‬وفى‭ ‬منتصف‭ ‬كل‭ ‬طبلية‭ (‬شفشق‭) ‬او‭ (‬شفقشان‭) ‬من‭ ‬الخشاف،‭ ‬ويتحلق‭ ‬حول‭ ‬كل‭ ‬طبلية‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة‭ ‬والصبية‭ ‬الذكور‭ ‬وينضم‭ ‬إليهم‭ ‬كل‭ ‬ضيف‭ ‬أو‭ ‬عابر‭  ‬بينما‭ ‬النساء‭ ‬فى‭ ‬بيوتهن‭ ‬ينتظرن‭ ‬المديح‭ ‬على‭ ‬أصنافهن،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الأطباق‭ ‬العائدة،‭ ‬فإن‭ ‬عادت‭ ‬فارغة‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬يعنى‭ ‬أن‭ ‬الإعجاب‭ ‬قد‭ ‬وصل‭ ‬ذروته،‭ ‬وكان‭ ‬لكل‭ ‬سيدة‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬عائلة‭ ‬طبق‭ ‬يميزها‭ ‬حتى‭ ‬صارت‭ ‬مشهورة‭  ‬به‭ ‬فهذا‭ ‬طاجن‭  ‬فلانة‭ ‬وهذه‭ ‬بالتأكيد‭  ‬صينية‭ ‬بطاطس‭ ‬علانة‭ .‬ت

الليل‭ ‬فى‭ ‬العاصمة‭ ‬كان‭ ‬للفوازير‭ ‬الرمضانية‭ ‬فى‭ ‬التليفزيون‭ ‬والمسلسل‭ ‬الذى‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬جادا‭ ‬وحزينا،‭ ‬بينما‭ ‬الليل‭ ‬فى‭ ‬القرية‭ ‬كان‭ ‬ينقسم‭ ‬إلى‭ ‬أجزاء‭ ‬عدة،‭ ‬فبعد‭ ‬صلاة‭ ‬العشاء‭ ‬يجلس‭ ‬القارئ‭ ‬ذو‭ ‬الصوت‭ ‬الحسن‭ ‬على‭ ‬كنبة‭ ‬من‭ ‬كنب‭ ‬المنضرة،‭ ‬وينطلق‭ ‬فى‭ ‬آيات‭ ‬الكتاب‭ ‬الكريم‭ ‬انطلاقا‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬طريقته‭ ‬فى‭ ‬القراءة‭ ‬فى‭ ‬مناسبات‭ ‬العزاء،‭ ‬فشهر‭ ‬رمضان‭ ‬يمنحه‭ ‬فرصا‭ ‬شتى‭ ‬للتجويد،‭ ‬تحوله‭ ‬من‭ ‬قارئ‭ ‬عادى‭ ‬إلى‭ ‬نجم‭ ‬من‭ ‬نجوم‭ ‬رمضان‭ ‬فى‭ ‬منضرة‭ ‬القرية،‭ ‬ثلاثون‭ ‬ليلة‭ ‬متتالية‭ ‬أو‭ ‬تسع‭ ‬وعشرون‭ ‬على‭ ‬حسب‭ ‬رؤية‭ ‬الهلال‭  ‬وهو‭ ‬يتلو‭ ‬ويعلو‭ ‬ويهبط‭ ‬ويطير‭ ‬فوق‭ ‬المقامات‭ ‬الموسيقية،‭ ‬جالبا‭ ‬بصوته‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬المعجبين،‭ ‬حتى‭ ‬تمتلأ‭ ‬دكك‭ ‬وكنب‭ ‬المنضرة‭ ‬وتعلو‭ ‬الآهات‭ ‬وكأنها‭ ‬ليلة‭ ‬من‭ ‬ليالى‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬وما‭ ‬أن‭ ‬ينتصف‭ ‬الليل‭ ‬حتى‭ ‬يستريح‭ ‬الشيخ‭ ‬القارئ،‭ ‬ويبدأ‭ ‬سمر‭ ‬الشباب‭ ‬وحكاياتهم‭ ‬وأكاذيبهم‭ ‬أحيانا‭ ‬وضحكاتهم‭ ‬التى‭ ‬حينما‭ ‬تتجاوز‭ ‬الحد،‭ ‬ينبههم‭ ‬أحد‭ ‬الكبار‭ ‬السهارى‭  ‬بأن‭ ‬يتنحنح‭ ‬ثم‭  ‬يعلو‭ ‬صوته‭ ‬بجملة‭ ‬واحدة‭ ‬واضحة‭ ‬محددة‭: ‬رمضان‭ ‬كريم‭.‬

فيعود‭ ‬الشباب‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬هدوء‭ ‬وحينما‭ ‬يقترب‭ ‬الفجر،‭ ‬تخرج‭ ‬طبالى‭ ‬السحور،‭ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬أقل‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬طبالى‭ ‬المفطر‭ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬صنوف‭ ‬طعامها‭ ‬أبسط،‭ ‬فى‭ ‬العاصمة‭ ‬لا‭ ‬ينجح‭ ‬التليفزيون‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬الطفل‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬السهر‭ ‬حتى‭ ‬السحور‭ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬نائما‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬فراشه‭ ‬المعتاد،‭ ‬لتأتى‭ ‬يد‭ ‬أمى‭ ‬الحنونة‭ ‬وصوتها‭ ‬المنبه‭ : ‬قوم‭ ‬عشان‭ ‬تتسحر،‭ ‬لا‭ ‬أجد‭ ‬حماسا‭ ‬لليقظة‭ ‬واضع‭ ‬الطعام‭ ‬فى‭ ‬فمى‭ ‬وأنا‭ ‬نصف‭ ‬نائم‭.‬

النهار‭ ‬فى‭ ‬العاصمة‭ ‬فى‭ ‬رمضان‭ ‬وقت‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يمضى‭ ‬والأوقات‭ ‬داخل‭ ‬الشقق‭ ‬لا‭ ‬تمضى‭ ‬وفق‭ ‬هوى‭ ‬سكانها‭ ‬،‭ ‬فتتعلم‭  ‬الانتظار‭ ‬،‭ ‬لكن‭ ‬نهار‭ ‬رمضان‭ ‬فى‭ ‬القرية‭ ‬فى‭ ‬الصعيد‭ ‬نهار‭ ‬حى‭ ‬يتحرك‭ ‬أمامك‭ ‬ويصوم‭ ‬معك‭ ‬أيضا،‭ ‬نظرة‭ ‬واحدة‭ ‬منك‭ ‬للشمس‭ ‬الجالسة‭ ‬فوق‭ ‬النيل‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تحدد‭ ‬بها‭ ‬ماذا‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬الوقت،‭ ‬الزرع‭ ‬والأشجار‭ ‬ولعبة‭ ‬الظل‭ ‬والنور‭ ‬والوقت‭ ‬الذى‭ ‬تبدأ‭ ‬فيه‭ ‬الأم‭ ‬دق‭ ‬الكفتة‭ ‬فى‭ ‬الهون،‭ ‬أو‭ ‬وصول‭ ‬لوح‭ ‬الثلج‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ - ‬الثلج‭ ‬الذى‭ ‬ينتظره‭ ‬أبى‭ ‬بلهفة‭ ‬ليضع‭ ‬فيه‭ ‬الفاكهة‭ ‬او‭ ‬يضع‭ ‬قطعا‭ ‬منه‭ ‬فى‭ ‬العصير،‭ ‬كان‭ ‬يعشق‭ ‬الثلج‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬الثلاجات‭ ‬والكهرباء‭ ‬قد‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬كامل‭ ‬قرى‭ ‬الصعيد‭ ‬بعد‭- ‬وكان‭ ‬لحظة‭ ‬وصول‭ ‬لوح‭ ‬الثلج‭ ‬من‭ ‬اللحظات‭ ‬المهمة‭ ‬فى‭ ‬يوم‭ ‬أبى‭ ‬الرمضانى‭ ‬فيتهلل‭ ‬وجهه‭ ‬ويبدأ‭ ‬رحلة‭ ‬مع‭ ‬اللوح‭ ‬الثلج‭ ‬مسلية‭ ‬لا‭ ‬تنتهى‭ ‬وقطع‭ ‬الثلج‭ ‬تزين‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬قابل‭ ‬للتثليج‭ ‬هناك‭ ‬فى‭ ‬القرية‭ ‬أنت‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬الساعة‭ ‬ولا‭ ‬تشعر‭ ‬بالملل‭ ‬والانتظار،‭ ‬بل‭ ‬تعيش‭ ‬داخل‭ ‬ساعة‭ ‬حية‭ ‬تتمرجح‭ ‬أنت‭ ‬على‭ ‬عقاربها،‭ ‬أنت‭ ‬الآن‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬ولست‭ ‬مراقبا‭ ‬ملولا‭ ‬له‭.‬

وحينما‭ ‬يبدأ‭ ‬الزيت‭ ‬فى‭ ‬القدح‭ ‬ويصل‭ ‬أنفك‭ ‬صوت‭ ‬العجين،‭ ‬تعرف‭ ‬أنها‭ ‬لحظات‭ ‬قلى‭ ‬وصنع‭ ‬الزلابية‭ ‬وبلح‭ ‬الشام‭ ‬بيد‭ ‬أختك‭ ‬وأن‭ ‬آذان‭ ‬المغرب‭ ‬يقترب‭ ‬جدا‭ ‬وما‭ ‬هى‭ ‬إلا‭ ‬لحظات‭ ‬وينادينى‭ ‬أبى‭ ‬لأحمل‭ ‬شفشق‭ ‬الخشاف‭ ‬لصانع‭ ‬سلال‭ ‬السعف‭ (‬حجاوى‭)‬،‭ ‬العجوز‭ ‬الذى‭ ‬يقيم‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬تحت‭ ‬النخل‭ ‬،لا‭ ‬أعرف‭ ‬له‭ ‬بيتا،‭ ‬يصنع‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬من‭ ‬سعف‭ ‬النخيل‭ ‬وليفه‭ ‬وكرنيفه،‭ ‬حتى‭ ‬أننى‭ ‬كنت‭ ‬أظن‭ ‬أنه‭ ‬ولد‭ ‬تحت‭ ‬النخلة‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬النخلة‭ ‬هى‭ ‬أمه‭ ‬الحقيقية‭ ‬،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬زوجة‭ ‬ولا‭ ‬ولد،‭ ‬فقط‭ ‬يصنع‭ ‬السلال‭ ‬والاطباق‭ ‬بمختلف‭ ‬أحجامها‭ ‬فى‭ ‬سرعة‭ ‬وجمال،‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يبتسم‭ ‬أبدا،‭ ‬نحيفا‭ ‬سبعينى،‭ ‬متغضن‭ ‬الجبين‭ ‬وكأن‭ ‬التكشيرة‭ ‬قد‭ ‬انطبعت‭ ‬على‭ ‬قورته‭  ‬وتحتها‭ ‬عينان‭ ‬لامعتان‭ ‬ضيقتان،‭ ‬أناوله‭ ‬شفشق‭ ‬الخشاف،‭ ‬فيترك‭ ‬ما‭ ‬يصنع‭ ‬ويأخذه‭ ‬بلهفة‭ ‬وسعادة‭ ‬وهو‭ ‬يتمتم‭ : ‬بعودة‭ ‬الأيام‭.‬

‭ ‬ويبتسم‭ ‬،‭ ‬نعم‭ ‬كان‭ ‬يبتسم‭ ‬لى‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬أحضر‭ ‬فيها‭ ‬الشفشق‭ ‬طوال‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬ويعود‭ ‬باقى‭ ‬السنة‭ ‬إلى‭ ‬حالته‭ ‬من‭ ‬الصمت‭ ‬والتكشير‭ ‬والإنشغال‭ ‬بالسعف،‭ ‬فى‭ ‬الأسبوع‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬رمضان‭ ‬تبدأ‭ ‬الأفران‭ ‬بالزغردة‭ ‬حينما‭ ‬تمونها‭ ‬النساء‭ ‬بالوقيد‭ ‬الكافى‭ ‬وتنتشر‭ ‬رائحة‭ ‬الكعك‭ ‬والبسكويت‭ ‬والفايش‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬وتعم‭ ‬القرية‭ ‬،‭ ‬عدا‭ ‬البيوت‭ ‬الذى‭ ‬أصابها‭ ‬الموت‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬التوقيت‭ ‬السنوى‭ ‬الحساس،‭ ‬الرائحة‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬وكأن‭ ‬حاسة‭ ‬الشم‭ ‬تكون‭ ‬هنا‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬حاسة‭ ‬الشم‭ ‬فى‭ ‬القاهرة،‭ ‬النساء‭ ‬تسبق‭ ‬بهجتهن‭ ‬حلول‭ ‬العيد‭ ‬وكأن‭ ‬التحضير‭ ‬للعيد‭ ‬والخبز‭ ‬والعجن‭ ‬هو‭ ‬العيد،‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭ ‬الصاجات‭ ‬تحمل‭ ‬على‭ ‬الرؤوس‭ ‬إلى‭ ‬الأفران‭ ‬،كذلك‭ ‬يفعل‭ ‬قدامى‭ ‬السكان،‭ ‬أما‭ ‬الوافدون‭ ‬حديثا‭ ‬مثلنا‭ ‬فلا‭ ‬يليق‭ ‬بهن‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬وكلما‭ ‬اقترب‭ ‬العيد‭ ‬كلما‭ ‬ظهر‭ ‬التوتر‭ ‬على‭ ‬الجميع،‭ ‬لقد‭ ‬ارتبط‭ ‬اقترابه‭ ‬بطقوس‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نمارسها‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الشقة‭ ‬الموجودة‭ ‬داخل‭ ‬تلك‭ ‬العمارة‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الشارع‭ ‬البعيد‭ ‬جدا‭ ‬عن‭ ‬الشمس‭ ‬والنيل،‭ ‬لنجد‭ ‬علب‭ ‬كرتونية‭ ‬كبيرة‭ ‬يدخل‭ ‬بها‭ ‬أبى،‭ ‬تحمل‭ ‬داخلها‭ ‬الكعك‭ ‬والبسكوت‭ ‬ويحاول‭ ‬أبى‭ ‬أن‭ ‬يبدو‭ ‬مبتسما،‭ ‬لكن‭ ‬جدتى‭ ‬تمسح‭ ‬تلك‭ ‬الإبتسامة‭ ‬بتعليقها‭ ‬الحزين‭ ‬القاسى‭: ‬جاهز‭ ‬؟‭ ‬حتى‭ ‬خبيز‭ ‬العيد‭ ‬بقى‭ ‬جاهز‭ ‬؟

قبل‭ ‬رمضان‭ ‬كنت‭ ‬أكمش‭ ‬فى‭ ‬حجر‭ ‬أمى‭ ‬وهى‭ ‬تقول‭ ‬بيقين‭ ‬تام‭  ‬حينما‭ ‬يتبقى‭  ‬أسبوع‭ ‬واحد‭  ‬ويهل‭ ‬رمضان‭ ‬وهى‭ ‬تنظر‭ ‬للشباك‭ ‬وانا‭ ‬اصدقها‭ ‬تماما‭ : ‬اهو‭ ‬رمضان‭.... ‬فتح‭ ‬الشنطة‭ ‬بتاعته‭ ‬ورص‭ ‬هدومهت‭.‬

وبعد‭ ‬ليلة‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬الإثارة‭ ‬أكثر‭ ‬وتقول‭: ‬كده‭ ‬الشنطة‭ ‬جاهزة‭ ‬بس‭ ‬نسى‭ ‬الفانوست‭.‬

وفى‭ ‬الليلة‭ ‬التالية‭ : ‬عيكوى‭ ‬عبايته‭ ‬الدهبى‭ ‬

وفى‭ ‬الليلة‭ ‬التالية‭ : ‬عليمع‭ ‬جزمته‭ ‬السودة‭ ‬

وهكذا‭ ‬حتى‭ ‬تكون‭ ‬ليلة‭ ‬الرؤيا‭ ‬فتضحك‭ ‬وتقول‭: ‬وآدى‭ ‬مركب‭ ‬رمضان‭ ‬رسيت‭ ‬واهو‭ ‬نازل‭ ‬ع‭ ‬السقالة‭ ‬داخل‭ ‬علينا‭ ‬بفانوسه‭.‬

لانطلق‭ ‬فى‭ ‬فرحة‭ ‬مهللا‭ ‬ومرحبا‭ ‬وكأننى‭ ‬ساستقبله‭ ‬فعلا،‭ ‬بعباءته‭ ‬المذهبة‭ ‬ووجهه‭ ‬البشوش‭ ‬وفانوسه‭ ‬المضىء‭ ‬وأحمل‭ ‬عنه‭ ‬حقيبته‭ ‬الثقيلة،‭ ‬ليقيم‭ ‬عندنا،‭ ‬بل‭ ‬فى‭ ‬غرفتى‭ ‬والى‭ ‬جوارى‭ ‬و‭ ‬فى‭ ‬سريرىت‭.‬

فى‭ ‬القاهرة‭ ‬كانت‭ ‬أمى‭ ‬تحكى‭ ‬نفس‭ ‬الحكاية‭ ‬لكننى‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬كذلك،‭ ‬وأن‭ ‬رمضان‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يقيم‭ ‬معى‭ ‬فى‭ ‬غرفتى‭ ‬كالسابق‭.‬

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة