قصيدة النثر المرفأ الوحيد لشاعر اليوم
قصيدة النثر المرفأ الوحيد لشاعر اليوم


فواز قادرى:

قصيدة النثر المرفأ الوحيد لشاعر اليوم

أخبار الأدب

الثلاثاء، 20 أبريل 2021 - 10:49 ص

 

حوار‭: ‬هشام‭ ‬محمود

يبدو‭ ‬الشعر‭ ‬لدى‭ ‬فواز‭ ‬قادرى‭ ‬رهانا‭ ‬مصيريا‭ ‬يتقاطع‭ ‬مع‭ ‬لقمة‭ ‬العيش،‭ ‬مع‭ ‬تأثير‭ ‬عميق‭ ‬لغربة‭ ‬فرضتها‭ ‬الحياة‭ ‬قسرا،‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يغادر‭ ‬وطنه‭ ‬سورية‭ ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬ملاذ‭ ‬آمن‭ ‬له‭ ‬وللقصيدة،‭ ‬التى‭ ‬بدت‭ ‬محملة‭ ‬بأوجاع‭ ‬تشبه‭ ‬الشاعر‭ ‬فى‭ ‬إنسانيته‭ ‬وتوقه‭ ‬للحرية،‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬محلقا‭ ‬فى‭ ‬آفاق‭ ‬تخصه،‭ ‬ليجرب‭ ‬الشاعر‭ ‬دائما‭ ‬ألعابا‭ ‬جديدة‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬وكذا‭ ‬فى‭ ‬الحياة‭.‬

يؤمن‭ ‬بأن‭ ‬دور‭ ‬الشاعر‭ ‬والشعر‭ ‬أساسى‭ ‬اليوم‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬دائما،‭ ‬والدور‭ ‬لا‭ ‬يعنى‭ ‬وظيفة‭ ‬أو‭ ‬خدمة‭ ‬يؤدِّيها‭ ‬الشعر‭ ‬والشاعر،‭ ‬فالشعر‭ ‬كما‭ ‬يراه‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬الفنون‭ ‬التى‭ ‬تمنح‭ ‬حياة‭ ‬البشر‭ ‬نكهة‭ ‬مختلفة،‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬فى‭ ‬الظاهر‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬تراجع‭ ‬لحساب‭ ‬مسائل‭ ‬أكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬إشغال‭ ‬الناس،‭ ‬ولكن‭ ‬لو‭ ‬بحثنا‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬جيدا‭ ‬لوجدناه‭ ‬كامنا‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬التفاصيل،‭ ‬اإنه‭ ‬يتسكع‭ ‬فى‭ ‬حياتنا‭ ‬بأشكال‭ ‬عدة،‭ ‬ويرافقنا‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نصدق‭ ‬أنه‭ ‬وصل‭ ‬إليهاب‭.‬

هنا‭ ‬نحاور‭ ‬فواز‭ ‬قادرى‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬والغربة‭ ‬ومفهوم‭ ‬الوطن‭.‬

 

لم‭ ‬تكن‭ ‬بدايتك‭ ‬مع‭ ‬الكتابة‭ ‬ناعمة‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذى‭ ‬يلائم‭ ‬طفلا‭ ‬سيختار‭ ‬الكتابة‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬طريقا‭ ‬ورهانا‭ ‬أساسيا،‭ ‬فكيف‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬البداية؟

فى‭ ‬بداية‭ ‬علاقتى‭ ‬بالكتابة،‭ ‬وجدتها‭ ‬لعبة‭ ‬جديدة‭ ‬وممتعة،‭ ‬كان‭ ‬شغفى‭ ‬بالتعلّم‭ ‬خارج‭ ‬أسوار‭ ‬المدرسة‭ ‬كبيرا‭ ‬ودافعا‭ ‬أساسيا‭ ‬لتعلقى‭ ‬بالشعر،‭ ‬حيث‭ ‬يلهو‭ ‬الصغير‭ ‬بمتعة‭ ‬بوقته‭ ‬القليل‭ ‬بعد‭ ‬انتهائه‭ ‬من‭ ‬العمل،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة‭ ‬حتى‭ ‬العشرين،‭ ‬ولد‭ ‬يكتشف‭ ‬الشعر‭ ‬صدفة‭ ‬وهو‭ ‬يلهو‭ ‬مع‭ ‬الأولاد،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تعلّم‭ ‬القراءة‭ ‬من‭ ‬المستحيلات،‭ ‬كنت‭ ‬أقايض‭ ‬مجلة‭ ‬ميكى‭ ‬مقابل‭ ‬اسامباب‭ ‬كتاب‭ ‬نزار‭ ‬السحرى،‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الشعرى‭ ‬الأول‭ ‬الذى‭ ‬يقرؤه‭ ‬الصغير،‭ ‬فتح‭ ‬بوابة‭ ‬القراءة‭ ‬على‭ ‬عوالم‭ ‬مبهرة،‭ ‬وكان‭ ‬الصغير‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬بالتعرف‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬الشعبى،‭ ‬مثل‭ ‬السير‭ ‬والملاحم‭ ‬الرائجة،‭ ‬كعنترة‭ ‬وسيرة‭ ‬بنى‭ ‬هلال‭ ‬والظاهر‭ ‬بيبرس‭ ‬وألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭ ‬وسيف‭ ‬بن‭ ‬ذى‭ ‬يزن،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلى،‭ ‬ومرورا‭ ‬بالروايات‭ ‬العالمية‭ ‬الرائجة،‭ ‬أيضا‭: ‬بائعة‭ ‬الخبز‭ ‬وأحدب‭ ‬نوتردام‭ ‬والبؤساء،‭ ‬إلى‭ ‬آخره،‭ ‬من‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة‭ ‬إلى‭ ‬العشرين‭ ‬مرَّ‭ ‬الصغير‭ ‬ثم‭ ‬الفتى‭ ‬ثم‭ ‬الشاب،‭ ‬باستحقاقات‭ ‬شاقة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اكتشف‭ ‬القدرة‭ ‬الهائلة‭ ‬للشعر‭ ‬التى‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬أن‭ ‬أعدها‭ ‬معجزة‭ ‬الشعر،‭ ‬بالتأثير‭ ‬على‭ ‬ماهية‭ ‬الأشياء،‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذى‭ ‬جعل‭ ‬الفقر‭ ‬والحزن‭ ‬يخلعان‭ ‬أنيابهما‭ ‬ويُستأنسان،‭ ‬لقد‭ ‬فعل‭ ‬الصغير‭ ‬أشياء‭ ‬لا‭ ‬يفعلها‭ ‬سوى‭ ‬القليلين،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬تعلُّم‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬خارج‭ ‬أسوار‭ ‬المدرسة،‭ ‬إلى‭ ‬تعلُّم‭ ‬قواعد‭ ‬اللغة‭ ‬من‭ ‬كتابة‭ ‬تنوين‭ ‬النصب‭ ‬والكسر‭ ‬بالأحرف،‭ ‬إلى‭ ‬تعلم‭ ‬النحو‭ ‬وعروض‭ ‬الشعر،‭ ‬ومعرفة‭ ‬الأحرف‭ ‬وكيف‭ ‬تنقسم‭ ‬فى‭ ‬الكلمات،‭ ‬إلى‭ ‬موجة‭ ‬ساكنة‭ ‬وأخرى‭ ‬متحرِّكة،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬الأبحر‭ ‬والتفاعيل‭ ‬فى‭ ‬علم‭ ‬العروض‭.‬

وما‭ ‬دوافع‭ ‬الكتابة‭ ‬وأثرها‭ ‬فى‭ ‬مفهومك‭ ‬الخاص‭ ‬عن‭ ‬الشعر؟

دوافعى‭ ‬للكتابة‭ ‬كانت‭ ‬كثيرة‭ ‬جدا،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬ألخصها‭ ‬فى‭ ‬أشياء‭ ‬تلد‭ ‬أشياء،‭ ‬ونوع‭ ‬من‭ ‬تحدى‭ ‬النفس‭ ‬والرهان‭ ‬على‭ ‬الصواب‭ ‬الخاسر،‭ ‬ومحاولة‭ ‬تقريب‭ ‬المسافة‭ ‬بينى‭ ‬وبين‭ ‬الأقران،‭ ‬وربما‭ ‬محو‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬التعلُّم‭ ‬فى‭ ‬المدرسة‭ ‬والذهاب‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬والتعلم‭ ‬من‭ ‬الشارع،‭ ‬هذا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬الشعر‭ ‬طريقة‭ ‬عيش‭ ‬ووسيلة‭ ‬اكتشاف‭ ‬للجمال‭ ‬وتمييزه‭ ‬عن‭ ‬البشاعة،‭ ‬أضيف‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬خيارات‭ ‬الوقوف‭ ‬مع‭ ‬الخير‭ ‬ضد‭ ‬الشر،‭ ‬والاصطفاف‭ ‬الحاسم‭ ‬والنهائى‭ ‬ضد‭ ‬الظلم‭ ‬والقهر،‭ ‬دون‭ ‬مهادنة،‭ ‬وقد‭ ‬توقفت‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬عن‭ ‬تشكيل‭ ‬مفهوم‭ ‬نظرى‭ ‬عن‭ ‬شعرى،‭ ‬وفضلت‭ ‬أن‭ ‬أشغل‭ ‬حيزى‭ ‬الزمنى‭ ‬بمعناى،‭ ‬كما‭ ‬انشغلت‭ ‬برسم‭ ‬علاقة‭ ‬القصيدة‭ ‬بالحياة‭ ‬كجسد‭ ‬واحد‭ ‬وروح‭ ‬واحدة‭.‬

أتصور‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬التى‭ ‬عشتها‭ ‬كانت‭ ‬الأعمق‭ ‬أثرا‭ ‬من‭ ‬أية‭ ‬روافد‭ ‬يستمدها‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬التفاصيل‭ ‬التى‭ ‬يعيشها،‭ ‬هل‭ ‬تتفق‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬التصور؟

نعم،‭ ‬وتستطيع‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬طريقة‭ ‬العيش‭ ‬العفويّة‭ ‬فتحت‭ ‬الأفق‭ ‬واسعا‭ ‬وحددت‭ ‬البدايات،‭ ‬أما‭ ‬الروافد‭ ‬والمؤثرات‭ ‬فكانت‭ ‬تحصيل‭ ‬حاصل،‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬التعلُّم‭ ‬خارج‭ ‬الطرق‭ ‬الطبيعية‭ ‬شاقا،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬مفيدا‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬بما‭ ‬أتاح‭ ‬لى‭ ‬تجاوز‭ ‬الطرق‭ ‬التقليديَّة‭ ‬بالمعرفة‭ ‬والانفتاح‭ ‬على‭ ‬عوالم‭ ‬لم‭ ‬تُتَحْ‭ ‬لأقرانى،‭ ‬لهذا‭ ‬أظننى‭ ‬خطوت‭ ‬مبكرا‭ ‬خطوات‭ ‬بعيدة،‭ ‬كما‭ ‬حددت‭ ‬خياراتى‭ ‬الجماليَّة‭ ‬باكرا‭.‬

 

ومع‭ ‬هذا‭ ‬يبقى‭ ‬للبيئة‭ ‬والنشأة‭ ‬تأثيرهما‭ ‬فى‭ ‬تكوينك‭ ‬الأدبى‭ ‬والثقافى،‭ ‬فما‭ ‬ملامح‭ ‬هذا‭ ‬التأثير؟

أظن‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬للبيئة‭ ‬التأثير‭ ‬الأكبر‭ ‬فى‭ ‬بداياتى،‭ ‬لكن‭ ‬سريعا‭ ‬تم‭ ‬تعديل‭ ‬هذا،‭ ‬باختيار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬قابل‭ ‬للتعايش‭ ‬مع‭ ‬المعارف‭ ‬الجديدة‭ ‬الوافدة‭ ‬بكثرة،‭ ‬والتواشج‭ ‬فى‭ ‬النسيج‭ ‬الإنسانى،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعدد‭ ‬مشارب‭ ‬تلقى‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬المعارف‭ ‬والمفاهيم‭ ‬التى‭ ‬تلائمنى،‭ ‬وكذا‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬أصدقاء‭ ‬من‭ ‬الجيل‭ ‬الأكبر‭ ‬عمرا،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬أتاح‭ ‬لى‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬باليقينيات‭ ‬وغربلتها‭ ‬بأسرع‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬متاح‭ ‬لغيرى‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬العمرية،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬لمناخ‭ ‬الحرية‭ ‬تأثيرات‭ ‬مفيدة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هى‭ ‬خطرة،‭ ‬وأنا‭ ‬أعتقد‭ ‬أننى‭ ‬استفدت‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬حرية‭ ‬المعرفة‭ ‬خارج‭ ‬المؤسسات‭.‬

ما‭ ‬محرضات‭ ‬الكتابة‭ ‬لديك؟

محرضات‭ ‬الكتابة‭ ‬عندى‭ ‬كانت‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬كثيرة‭ ‬ومتنوعة‭ ‬جدا،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬إحساسى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬بيتى،‭ ‬بما‭ ‬جعلنى‭ ‬فى‭ ‬قلب‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬فيه،‭ ‬وجعلنى‭ ‬أعى‭ ‬تماما‭ ‬خطورة‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬الكتابة،‭ ‬أو‭ ‬العوامل‭ ‬الثرية‭ ‬التى‭ ‬ترفد‭ ‬الإبداع‭ ‬وتثرى‭ ‬التجربة،‭ ‬ولكن‭ ‬دائما‭ ‬ظل‭ ‬عندى‭ ‬خوف‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬القصيدة‭ ‬مجرد‭ ‬صرخة،‭ ‬وقد‭ ‬وفرت‭ ‬لى‭ ‬طبيعة‭ ‬الحياة‭ ‬التى‭ ‬عشتها‭ ‬عوامل‭ ‬متنوِّعة،‭ ‬بتنوُّع‭ ‬حياتى‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬تماس‭ ‬مهلك‭ ‬مع‭ ‬الأشياء،‭ ‬كما‭ ‬منحتنى‭ ‬قراءاتى‭ ‬الكثيرة‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يفرغنى‭ ‬إبداعيا،‭ ‬وما‭ ‬يجعلنى‭ ‬أكتب‭ ‬وأنا‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬تلق‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يملؤنى‭ ‬جماليا‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭.‬

فكرة‭ ‬الوحى‭ ‬والإلهام،‭ ‬لأية‭ ‬درجة‭ ‬تراها‭ ‬صالحة‭ ‬لتفسير‭ ‬الظاهرة‭ الإبداعية؟

فى‭ ‬البدايات‭ ‬كنت‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬تلق‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أمتلك‭ ‬المقدرة‭ ‬على‭ ‬الفرز‭ ‬والتمييز،‭ ‬وهذا‭ ‬يشبه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إلهاما،‭ ‬ولكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تجاوزت‭ ‬ذلك،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المناخ‭ ‬الذى‭ ‬أتيح‭ ‬لى‭ ‬باكرا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬معلمى‭ ‬فى‭ ‬المهنة‭ ‬التى‭ ‬تم‭ ‬الاستقرار‭ ‬عليها‭ ‬وقتذاك‭ ‬وهى‭ ‬صيانة‭ ‬الأجهزة‭ ‬الإلكترونية،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬يلتقون‭ ‬فى‭ ‬ناد‭ ‬للفنون‭ ‬والتمثيل،‭ ‬كنت‭ ‬مستمعا‭ ‬جيدا‭ ‬للحوارات‭ ‬التى‭ ‬تدور‭ ‬بينهم،‭ ‬وكانت‭ ‬كلها‭ ‬حوارات‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬والفنون،‭ ‬بما‭ ‬جعل‭ ‬عقل‭ ‬الطفل‭ ‬الصغير‭ ‬الذى‭ ‬بدأ‭ ‬بتعلم‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة،‭ ‬مهيئا‭ ‬لاستيعاب‭ ‬البعض‭ ‬مما‭ ‬يسمع،‭ ‬وهنا‭ ‬تجاوزت‭ ‬مفهوم‭ ‬الإلهام‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تأثرى‭ ‬بما‭ ‬سمعت‭ ‬وقرأت‭.‬

ما‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬تُعَوِّل‭ ‬عليه‭ ‬فى‭ ‬كتابتك؟

أنا‭ ‬مشغول‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬بأن‭ ‬أملأ‭ ‬حيِّزى‭ ‬الزمنى‭ ‬بمعناى،‭ ‬وهى‭ ‬حالة‭ ‬ليست‭ ‬متوقِّفة‭ ‬على‭ ‬الكتابة،‭ ‬بل‭ ‬هى‭ ‬طريقة‭ ‬ومفهوم‭ ‬عيش،‭ ‬مفهوم‭ ‬غنى‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬نسمعه‭ ‬فى‭ ‬المرَّة‭ ‬الأولى،‭ ‬عشت‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬فى‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬بما‭ ‬جعلنى‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬استنفار‭ ‬نحو‭ ‬الكتابة‭ ‬ليل‭ ‬نهار،‭ ‬فى‭ ‬الفراش‭ ‬وفى‭ ‬الطريق،‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬الحزن‭ ‬والفرح،‭ ‬فى‭ ‬طرق‭ ‬تلقى‭ ‬العالم،‭ ‬وفى‭ ‬الحاضر‭ ‬وما‭ ‬تستدعيه‭ ‬الذاكرة،‭ ‬وكان‭ ‬الحب‭ ‬مرآتى‭ ‬لرؤية‭ ‬اأناىب‭ ‬وحوارى‭ ‬معها،‭ ‬أنا‭ ‬المختلف‭ ‬المتعدد،‭ ‬وبدا‭ ‬الحب‭ ‬قاموسى‭ ‬اليومى‭ ‬ومرثاتى‭ ‬لخسائر‭ ‬حصلت‭ ‬وخسائر‭ ‬لا‭ ‬أخشاها،‭ ‬كما‭ ‬بدت‭ ‬الأنوثة‭ ‬ملحمة‭ ‬تتوالد‭ ‬فى‭ ‬العيش‭ ‬وتؤثر‭ ‬فيه‭.‬

لأية‭ ‬درجة‭ ‬تشتغل‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬فى‭ ‬كتابتك؟

أتصور‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬هاجسى‭ ‬الأساسى‭ ‬فيما‭ ‬أكتب،‭ ‬فإذا‭ ‬لم‭ ‬تتجدد‭ ‬لغة‭ ‬الشاعر‭ ‬لن‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يذهب‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬خطوات‭ ‬قدميه‭ ‬القصيرتين،‭ ‬واللغة‭ ‬جناح‭ ‬وباقى‭ ‬مكونات‭ ‬القصيدة‭ ‬جناح،‭ ‬والشعر‭ ‬لن‭ ‬يحلق‭ ‬دون‭ ‬جناحين‭.‬

يبدو‭ ‬التجريب‭ ‬هاجسا‭ ‬حاضرا‭ ‬بقوة‭ ‬فى‭ ‬نصك،‭ ‬على‭ ‬أى‭ ‬شىء‭ ‬تؤسس‭ ‬نصك‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الزاوية؟

أنا‭ ‬دائما‭ ‬مولع‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬الجديد‭ ‬فى‭ ‬قصيدتى،‭ ‬وأهم‭ ‬ما‭ ‬يشغلنى‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬وعينى‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يطرأ‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬الشعر‭ ‬وما‭ ‬أكتشفه‭ ‬فيه،‭ ‬وعينى‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬أتابع‭ ‬صيرورته‭ ‬الفاعلة‭ ‬والمنشغلة‭ ‬بما‭ ‬أراه،‭ ‬وأعيد‭ ‬النظر‭ ‬بالمتحقق‭ ‬وما‭ ‬يغوينى‭ ‬بالتحقق،‭ ‬لهذا‭ ‬أنا‭ ‬دائما‭ ‬مشغول‭ ‬بالتجريب،‭ ‬وأرى‭ ‬أننا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نشرع‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬بابا‭ ‬فى‭ ‬التجريب،‭ ‬لمن‭ ‬يستطيع‭ ‬ويرغب‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬جديدا‭.‬

كيف‭ ‬تبدو‭ ‬قصيدتك‭ ‬فى‭ ‬مرآتك؟‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬قارئا‭ ‬لم‭ ‬يقرأ‭ ‬لك‭ ‬بعد‭ ‬بهذه‭ ‬التجربة؟

مرآتى‭ ‬لا‭ ‬تعكس‭ ‬رغباتى‭ ‬وما‭ ‬أريد‭ ‬من‭ ‬الكتابة،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تحدد‭ ‬مفهومى‭ ‬الصعب‭ ‬عن‭ ‬ملامح‭ ‬قصيدتى،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬هى‭ ‬مرآة‭ ‬بشوشة‭ ‬لا‭ ‬تهتم‭ ‬بالمساحيق،‭ ‬وتغسل‭ ‬الوجوه‭ ‬التى‭ ‬تمرُّ‭ ‬عليها‭ ‬بماء‭ ‬العيش،‭ ‬وتتفهَّم‭ ‬العوامل‭ ‬الطارئة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تستسيغها،‭ ‬لهذا‭ ‬تمرر‭ ‬عليها‭ ‬فرشاتها‭ ‬الحنون‭ ‬الناعمة‭ ‬لتمسح‭ ‬غبار‭ ‬أحصنة‭ ‬خارجة‭ ‬من‭ ‬الحرب،‭ ‬ورغم‭ ‬أننى‭ ‬حريص‭ ‬على‭ ‬علاقتى‭ ‬وقصيدتى‭ ‬بالناس،‭ ‬إلَّا‭ ‬أننى‭ ‬أدرك‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬الصعبة،‭ ‬وأراهن‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬حنون‭ ‬حوارية‭ ‬طويلة‭ ‬البال،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬بدا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يكدرها،‭ ‬خصوصا‭ ‬فى‭ ‬البداية،‭ ‬وفى‭ ‬النهاية‭ ‬لن‭ ‬يفوز‭ ‬سوى‭ ‬الجمال‭.‬

لأى‭ ‬درجة‭ ‬تعد‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬مرفأ‭ ‬مناسبا‭ ‬لشاعر‭ ‬اليوم؟

قد‭ ‬يبدو‭ ‬ما‭ ‬سأقوله‭ ‬مبالغة،‭ ‬لأننى‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬ليست‭ ‬المرفأ‭ ‬المناسب،‭ ‬بل‭ ‬هى‭ ‬المرفأ‭ ‬الوحيد،‭ ‬ولست‭ ‬بصدد‭ ‬تعداد‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬فالاختلاف‭ ‬قديم‭ ‬بين‭ ‬مفهومين،‭ ‬ورغم‭ ‬تراجع‭ ‬الشكلين‭ ‬الآخرين،‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬هناك‭ ‬كثيرون‭ ‬يكتبون‭ ‬شعر‭ ‬التفعيلة‭ ‬والعمودى،‭ ‬بل‭ ‬يعتبرون‭ ‬هذين‭ ‬الشكلين‭ ‬هما‭ ‬الشعر،‭ ‬وعندهم‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬ما‭ ‬هى‭ ‬إلا‭ ‬حالة‭ ‬طارئة‭ ‬وعابرة،‭ ‬أنا‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬العكس‭ ‬هو‭ ‬الصحيح‭ ‬تماما،‭ ‬والنص‭ ‬الجديد‭ ‬يتيح‭ ‬تأثيرات‭ ‬كبيرة‭ ‬متبادلة‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬الفنون،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬طبيعى،‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬بطىء‭ ‬الحركة‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬لكننى‭ ‬أتصوَّر‭ ‬أنه‭ ‬فى‭ ‬فترة‭ ‬قصيرة‭ ‬سيتسارع‭ ‬تبادل‭ ‬التأثير‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬الفنون‭ ‬والشعر،‭ ‬عبر‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬التى‭ ‬تُكتب‭ ‬الآن‭.‬

هل‭ ‬طرأ‭ ‬تغير‭ ‬ما‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬الشعر‭ ‬فى‭ ‬عالمنا‭ ‬اليوم،‭ ‬بالنظر‭ لماديته؟

لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬بلا‭ ‬شعر،‭ ‬مهما‭ ‬طرأ‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬تحوُّل،‭ ‬وسيبقى‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬الذى‭ ‬يتلقَّى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬بأحاسيسه‭ ‬ليعبِّر‭ ‬عنها‭ ‬بأحاسيسه‭ ‬أيضا،‭ ‬مهما‭ ‬تسارع‭ ‬إيقاع‭ ‬العالم،‭ ‬سيبقى‭ ‬فى‭ ‬حاجة‭ ‬ماسة‭ ‬إلى‭ ‬الفنون‭ ‬ومنها‭ ‬الشعر،‭ ‬مهما‭ ‬طرأ‭ ‬ويطرأ‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬تحوَّل،‭ ‬وسيبقى‭ ‬محافظا‭ ‬على‭ ‬ماهيته‭ ‬بالمحصِّلة،‭ ‬وما‭ ‬دام‭ ‬الإنسان‭ ‬لم‭ ‬يتحوَّل‭ ‬ولن‭ ‬يتحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬آلة،‭ ‬سيبقى‭ ‬الشعر‭ ‬بتحوُّلاته‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الضروريات‭.‬

لأى‭ ‬شىء‭ ‬تُرجع‭ ‬الفجوة‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والمتلقى؟‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬إزالتها،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬حدتها؟

فى‭ ‬العمق‭ ‬هى‭ ‬فجوة‭ ‬ثقافيَّة،‭ ‬وليست‭ ‬متوقِّفة‭ ‬على‭ ‬الشعر،‭ ‬والشعر‭ ‬هو‭ ‬الأكثر‭ ‬رهافة،‭ ‬والأقل‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬الصمود‭ ‬فى‭ ‬وجه‭ ‬التزييف،‭ ‬وهوسهل‭ ‬الانقياد‭ ‬أمام‭ ‬من‭ ‬يُجيد‭ ‬ارتداء‭ ‬الأقنعة،‭ ‬ولو‭ ‬استطعنا‭ ‬إزالة‭ ‬الفجوة‭ ‬الثقافية‭ ‬التى‭ ‬تضرب‭ ‬ثقافتنا‭ ‬العربية‭ ‬عموما،‭ ‬والتى‭ ‬هى‭ ‬الأكثر‭ ‬تأثيرا،‭ ‬سيمكننا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬نفكِّر‭ ‬جديًّا‭ ‬فى‭ ‬ردم‭ ‬بقيَّةِ‭ ‬الفجوات‭.‬

 

وماذا‭ ‬عن‭ ‬ترجمة‭ ‬الشعر؟‭ ‬ولأية‭ ‬درجة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تفيد‭ ‬فى‭ ‬تحطيم‭ ‬الأسوار‭ ‬حول‭ ‬راهن‭ ‬الشعر‭ ‬العربى؟

الترجمة‭ ‬مفتاح‭ ‬بين‭ ‬أيدى‭ ‬المبدعين،‭ ‬ولكن‭ ‬قليلا‭ ‬ما‭ ‬يستخدمونه،‭ ‬هذا‭ ‬لعدم‭ ‬إدراك‭ ‬أهمية‭ ‬تقارب‭ ‬أرواح‭ ‬الشعوب‭ ‬من‭ ‬بعضها،‭ ‬ولعدم‭ ‬جدِّية‭ ‬من‭ ‬يستطيعون‭ ‬خرق‭ ‬هذه‭ ‬العتمات‭ ‬الروحية‭ ‬بين‭ ‬سكَّان‭ ‬كوكبنا،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تحسَّ‭ ‬الشعوب‭ ‬أنها‭ ‬فعلا‭ ‬تسكن‭ ‬فى‭ ‬بيت‭ ‬واحد،‭ ‬وعليها‭ ‬أن‭ ‬تتقارب‭ ‬أكثر‭ ‬وتتجاوز‭ ‬وهم‭ ‬تباينها‭ ‬الدينى‭ ‬والعرقى‭ ‬والجغرافى،‭ ‬وعليها‭ ‬كذلك‭ ‬أن‭ ‬تخاف‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬البيت،‭ ‬ومسئولية‭ ‬الثقافات‭ ‬المتبادلة‭ ‬مسئولية‭ ‬كبيرة‭.‬

بين‭ ‬النقد‭ ‬الأكاديمى‭ ‬الذى‭ ‬ربما‭ ‬يناسب‭ ‬أكثر‭ ‬قاعات‭ ‬الدرس،‭ ‬والنقد‭ ‬الانطباعى‭ ‬الذى‭ ‬قد‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬قشرة‭ ‬النص‭ ‬دون‭ ‬تجاوزها،‭ ‬ماذا‭ ‬قدم‭ ‬النقد‭ ‬عموما‭ ‬للشاعر‭ ‬والشعر‭ ‬وللقارئ‭ أيضا؟

أنا‭ ‬من‭ ‬جانبى‭ ‬نسيت‭ ‬كلمة‭ ‬انقدب،‭ ‬أو‭ ‬بشكل‭ ‬أدق،‭ ‬لم‭ ‬أتعرَّف‭ ‬عليها‭ ‬بالأساس،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬النقد‭ ‬هو‭ ‬الأكثر‭ ‬تأثيرا‭ ‬على‭ ‬تطور‭ ‬الآداب‭ ‬والفنون‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬والشعر‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬من‭ ‬جانبى‭ ‬أرى‭ ‬النقد‭ ‬هو‭ ‬الأكثر‭ ‬غيابا،‭ ‬ملعبه‭ ‬فارغ‭ ‬وتلعب‭ ‬به‭ ‬السعادين‭ ‬والسعالى،‭ ‬والشاعر‭ ‬والمبدع‭ ‬والقارئ‭ ‬فى‭ ‬مهب‭ ‬الجهد‭ ‬الشخصى‭ ‬فى‭ ‬التذوُّق‭ ‬والتلقِّى‭ ‬والمعرفة‭.‬

هناك‭ ‬جوائز‭ ‬عربية‭ ‬كثيرة‭ ‬للشعر،‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الدور‭ ‬الذى‭ ‬تلعبه‭ ‬إيجابا‭ ‬وسلبا‭ ‬فى‭ ‬المشهد‭ ‬الشعرى‭ ‬الراهن؟

الجوائز‭ ‬فيها‭ ‬متعة‭ ‬اللعب،‭ ‬ولكنها‭ ‬تُطَبَّقُ‭ ‬بشروط‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬نزاهة‭ ‬اللعب،‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يفكِّر‭ ‬فى‭ ‬الجوائز‭ ‬أن‭ ‬يذهب‭ ‬إليها،‭ ‬مع‭ ‬التأكيد‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تمنح‭ ‬اللاعبين‭ ‬والفائزين‭ ‬أىَّ‭ ‬مكانة،‭ ‬ولا‭ ‬تميِّزهم‭ ‬عن‭ ‬أقرانهم‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يشاركون‭ ‬فى‭ ‬اللعب‭.‬

البعض‭ ‬يرى‭ ‬تراجع‭ ‬القضايا‭ ‬الكبرى‭ ‬لصالح‭ ‬قضية‭ ‬الإنسان‭ ‬ومعاناته‭ ‬الذاتية،‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬رأيك‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬التصور؟

برأيى‭ ‬لا‭ ‬فصل‭ ‬بينهما،‭ ‬فقضية‭ ‬الإنسان‭ ‬متواشجة‭ ‬مع‭ ‬القضايا‭ ‬الكونية،‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬فصلا‭ ‬بينهما‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬طرق‭ ‬التفكير،‭ ‬والأولويات‭ ‬التى‭ ‬تفرضها‭ ‬أمور‭ ‬ساخنة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬آخر،‭ ‬هو‭ ‬الفاعل‭ ‬والسبب‭ ‬الأوَّل‭ ‬فى‭ ‬تهميش‭ ‬أوتمتين‭ ‬علاقته‭ ‬بقضايا‭ ‬يظنُّ‭ ‬ألا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بها،‭ ‬وهذا‭ ‬من‭ ‬المستحيلات،‭ ‬فلو‭ ‬نظرنا‭ ‬بشكل‭ ‬عميق‭ ‬وغير‭ ‬أنانى،‭ ‬لرأينا‭ ‬ألا‭ ‬فاصل‭ ‬بينهما‭.‬

قضية‭ ‬الحب،‭ ‬ما‭ ‬مدى‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تجتذب‭ ‬الشاعر‭ ‬وسط‭ ‬ما‭ ‬يعيشه‭ ‬من‭ ‬أزمات‭ ‬راهنة؟

فى‭ ‬الحقيقة،‭ ‬الحب‭ ‬ليس‭ ‬خيارا‭ ‬يقبله‭ ‬أو‭ ‬يرفضه‭ ‬الإنسان،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬الشاعر،‭ ‬ولكنه‭ ‬طريقة‭ ‬عيش،‭ ‬وأى‭ ‬تصور‭ ‬يتراجع‭ ‬بالحب‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬دون‭ ‬هذا‭ ‬يبدو‭ ‬بالنسبة‭ ‬لى‭ ‬حالةً‭ ‬مَرَضيّة،‭ ‬وثلما‭ ‬بلب‭ ‬الأشياء،‭ ‬والحب‭ ‬طريقة‭ ‬لتلقّى‭ ‬الموجودات‭ ‬والتعامل‭ ‬معها،‭ ‬ونظرة‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬بلا‭ ‬خشية‭ ‬أو‭ ‬وجل،‭ ‬إذا‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ابن‭ ‬الطبيعة،‭ ‬فلا‭ ‬بدَّ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قلبك‭ ‬عامرا‭ ‬بالحب،‭ ‬وأن‭ ‬تحب‭ ‬امرأة‭ ‬فيجب‭ ‬أن‭ ‬تحب‭ ‬الوردة،‭ ‬وأن‭ ‬تتذكَّر‭ ‬حليب‭ ‬الأمّ‭ ‬وتعشق‭ ‬معنى‭ ‬الأمومة،‭ ‬وعليك‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬هذا‭ ‬الإشعاع‭ ‬الذى‭ ‬ينسج‭ ‬ألف‭ ‬شرنقة‭ ‬غير‭ ‬مرئية‭ ‬بينك‭ ‬وبين‭ ‬الناس‭ ‬والأشياء،‭ ‬هى‭ ‬حالات‭ ‬لا‭ ‬تراها‭ ‬ولكنك‭ ‬تحس‭ ‬بها‭ ‬فتتوازن‭.‬

ما‭ ‬هى‭ ‬تأثيرات‭ ‬العرفانية‭ ‬والصوفية‭ ‬على‭ ‬قصيدتك؟

لا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬تأثيرات‭ ‬للصوفية‭ ‬والعرفانية‭ ‬على‭ ‬مفهومى‭ ‬عن‭ ‬العالم،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬مفهومى‭ ‬للإبداع‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬قصيدتى،‭ ‬ربما‭ ‬تبدو‭ ‬فكرتى‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬تصور‭ ‬أهل‭ ‬التصوف،‭ ‬وفقا‭ ‬لبعض‭ ‬من‭ ‬يقرأون‭ ‬تجربتى،‭ ‬ويسعدنى‭ ‬أن‭ ‬أكتشف‭ ‬نفسى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬روح‭ ‬الرائى،‭ ‬ولكننى‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬جوهر‭ ‬فكرتى‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬إنسانى‭ ‬أرضى‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬حميمة‭ ‬بالأشياء،‭ ‬قبل‭ ‬أى‭ ‬شىء‭ ‬آخر،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬أحسه‭ ‬وأتصوره‭.‬

تبدو‭ ‬فكرة‭ ‬تحطيم‭ ‬التابو‭ ‬مسيطرة‭ ‬على‭ ‬تجارب‭ ‬الكثيرين،‭ ‬هل‭ ‬تشغلك‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة؟

لا‭ ‬تشغلنى‭ ‬فكرة‭ ‬تحطيم‭ ‬التابو‭ ‬فحسب،‭ ‬ولكننى‭ ‬فوق‭ ‬هذا‭ ‬أراه‭ ‬عدوا‭ ‬مبينا،‭ ‬سواء‭ ‬التابو‭ ‬الاجتماعى‭ ‬أو‭ ‬السياسى‭ ‬أو‭ ‬الدينى،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تابو‭ ‬الخوف‭ ‬الداخلى‭ ‬غير‭ ‬المرئى‭ ‬الذى‭ ‬شلَّ‭ ‬كل‭ ‬شىء،‭ ‬ويبدوبالنسبة‭ ‬لى‭ ‬سبب‭ ‬مصائبنا‭ ‬الكبرى،‭ ‬وتخلُّفنا‭ ‬الأساسى‭ ‬الذى‭ ‬راكم‭ ‬كل‭ ‬الأسباب‭ ‬التالية،‭ ‬وقَيَّدنا‭ ‬حتى‭ ‬نسينا‭ ‬أننا‭ ‬كائناتٍ‭ ‬عاقلة،‭ ‬نملك‭ ‬أقداما‭ ‬ولا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نمشى‭ ‬عليها،‭ ‬وعقولا‭ ‬صالحة‭ ‬للتفكير‭ ‬ولا‭ ‬نستخدمها،‭ ‬والتابو‭ ‬هو‭ ‬مصيبتنا‭ ‬الكبرى‭ ‬التى‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نحطمها‭.‬

ما‭ ‬رؤيتك‭ ‬لوطنك‭ ‬سورية،‭ ‬وأنت‭ ‬تراه(‬عن‭ ‬بعد‭( ‬بسبب‭ ‬الغربة‭ ‬التى‭ ‬تعيشها‭ ‬منذ‭ ‬سنوات؟

الوطن‭ ‬بالنسبة‭ ‬لى‭ ‬هو‭ ‬ألفة‭ ‬الموجودات‭ ‬والإنسان‭ ‬والكائنات‭ ‬التى‭ ‬لها‭ ‬روح،‭ ‬والنفس‭ ‬الأوَّل‭ ‬والدفء‭ ‬الأوَّل‭ ‬ورشفة‭ ‬الحليب‭ ‬والماء‭ ‬الأولى،‭ ‬والدمعة‭ ‬الأولى‭ ‬والابتسامة‭ ‬الأولى،‭ ‬والسماء‭ ‬الأولى‭ ‬والمكان‭ ‬الأوَّل‭ ‬والخطوة‭ ‬الأولى،‭ ‬والحب‭ ‬الأوَّل‭ ‬والكلام‭ ‬الأوَّل‭ ‬والقبلة‭ ‬الأولى،‭ ‬والحرية‭ ‬الأولى‭ ‬ومعها‭ ‬قيودها،‭ ‬والحرف‭ ‬الأوَّل‭ ‬والفرح‭ ‬الأول‭ ‬والخوف‭ ‬الأول،‭ ‬وعندما‭ ‬ينمو‭ ‬العقل‭ ‬تبتعد‭ ‬أشياء‭ ‬وتقترب‭ ‬أشياء،‭ ‬وتحب‭ ‬أشياء‭ ‬وتكره‭ ‬أشياء،‭ ‬فى‭ ‬المرحلة‭ ‬المبكرة‭ ‬تكون‭ ‬الأحاسيس‭ ‬هى‭ ‬التى‭ ‬تقودك،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬المعرفة‭ ‬بذلك،‭ ‬من‭ ‬معرفتك‭ ‬لنفسك‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬العالم،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬يحدث‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬نسمِّيه‭ ‬الوطن،‭ ‬يبقى‭ ‬يطاردك‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬مكان،‭ ‬مع‭ ‬توازن‭ ‬نظرتك‭ ‬إلى‭ ‬العالم،‭ ‬يتسع‭ ‬مفهومك‭ ‬الإنسانى،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬وبهذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬كانت‭ ‬سورية‭ ‬وطنى‭ ‬وستظل،‭ ‬أنتمى‭ ‬إلى‭ ‬عذاباتها‭ ‬وإلى‭ ‬إنسانها‭ ‬البسيط‭ ‬المعدم،‭ ‬ويشتدُّ‭ ‬إحساسى‭ ‬بها‭ ‬وهى‭ ‬تعانى‭ ‬ما‭ ‬تعانيه‭ ‬اليوم،‭ ‬وبعد‭ ‬سنوات‭ ‬النأى‭ ‬الطويل‭ ‬صارت‭ ‬كلمة‭ ‬االغربةب‭ ‬موجعة‭ ‬جدا،‭ ‬وقد‭ ‬تأكد‭ ‬لى‭ ‬مفهومى‭ ‬القديم‭ ‬عن‭ ‬الوطن،‭ ‬وقناعتى‭ ‬المطلقة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الكوكب‭ ‬بيت‭ ‬جميع‭ ‬الناس،‭ ‬وفى‭ ‬العموم‭ ‬تبدو‭ ‬صورة‭ ‬الوطن‭ ‬قريبة‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬الواقع،‭ ‬مع‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الحب‭ ‬والشفقة،‭ ‬ففى‭ ‬الشعر‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أفعل‭ ‬للوطن‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬أستطيع‭ ‬فى‭ ‬الواقع،‭ ‬رغم‭ ‬أننى‭ ‬لم‭ ‬أكتف‭ ‬فقط‭ ‬بأننى‭ ‬شاعر،‭ ‬بل‭ ‬حاولت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عملى‭ ‬فى‭ ‬حزب‭ ‬يسارى‭ ‬سرِّى‭ ‬أن‭ ‬أفعل‭ ‬له‭ ‬شيئا‭ ‬فى‭ ‬تجربتين‭ ‬مختلفتين،‭ ‬وحين‭ ‬فشلت‭ ‬خرجت‭ ‬خارج‭ ‬سورية،‭ ‬مثلما‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬ثوب‭ ‬السياسة‭ ‬وارتديت‭ ‬جلد‭ ‬الشعر،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬أن‭ ‬تحول‭ ‬العالم‭ ‬عندى‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭.‬

ارتباطا‭ ‬بهذا،‭ ‬كيف‭ ‬أثرت‭ ‬الغربة‭ ‬فى‭ ‬تجربتك‭ ‬الشعرية؟

تبدو‭ ‬الغربة‭ ‬ذات‭ ‬تأثير‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬تجربتى‭ ‬الشعرية،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬قلق‭ ‬وتأجج‭ ‬إبداعى‭ ‬يرافقانها،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬تنتكس‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬وتجعل‭ ‬الشاعر‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬فهمها‭ ‬بالمنطق،‭ ‬استطاع‭ ‬كتابتها‭ ‬على‭ ‬عدة‭ ‬وجوه،‭ ‬ويرتبط‭ ‬هذا‭ ‬أيضا‭ ‬بالفقد‭ ‬الذى‭ ‬يبدو‭ ‬تيمة‭ ‬حياتى‭ ‬الأساسية،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬وعيت‭ ‬على‭ ‬وجودى‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬حيث‭ ‬تعرَّضتُ‭ ‬لحالات‭ ‬متعددة‭ ‬ومتكررِّة‭ ‬من‭ ‬الفقد،‭ ‬ولازم‭ ‬الفقد‭ ‬ذاكرتى‭ ‬مبكرا،‭ ‬فى‭ ‬عائلتى‭ ‬الهاربة‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬القرى‭ ‬الكردية‭ ‬عبر‭ ‬الحدود‭ ‬التركية‭ ‬السورية،‭ ‬فى‭ ‬ليل‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬أمان،‭ ‬لازمنى‭ ‬تأثير‭ ‬فقدها‭ ‬الموجع‭ ‬لمكانها‭ ‬الأول،‭ ‬وذلك‭ ‬قبل‭ ‬ولادتى‭ ‬بسنوات،‭ ‬واستمرَّ‭ ‬مؤثِّرا‭ ‬فى‭ ‬حياتى‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة،‭ ‬وعلى‭ ‬عائلتى‭ ‬التى‭ ‬انقسمت‭ ‬بين‭ ‬بلدين،‭ ‬وكذا‭ ‬الفقد‭ ‬اليومى‭ ‬المتكرر‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬واحدة‭ ‬تعددت‭ ‬بيوت‭ ‬سكنى‭ ‬فيها،‭ ‬فقدت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬أن‭ ‬شبعت‭ ‬طفولتى‭ ‬حزنا‭ ‬وخسارات،‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬الفقد‭ ‬علامتى‭ ‬الفارقة‭.‬

ومع‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يتورط‭ ‬نصك‭ ‬فى‭ ‬هموم‭ ‬الذات‭ ‬بمعناها‭ ‬الشخصانى،‭ ‬فكيف‭ ‬خلصت‭ ‬تجربتك‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المأزق؟

فى‭ ‬الحقيقة،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تأخذنى‭ ‬ذاتى‭ ‬المسكينة‭ ‬المتألِّمة‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬لن‭ ‬أعود‭ ‬منها،‭ ‬ولن‭ ‬أجد‭ ‬فيها‭ ‬نفسى‭ ‬كإنسان،‭ ‬ولكن‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬العوامل‭ ‬ساعدتنى‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أعى‭ ‬ذاتى‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬شمولا،‭ ‬وأعى‭ ‬كذلك‭ ‬المخاطر‭ ‬المحدقة‭ ‬بها،‭ ‬أمى‭ ‬أهم‭ ‬هذه‭ ‬العوامل،‭ ‬لكونها‭ ‬عانت‭ ‬من‭ ‬الفقد‭ ‬الكثير،‭ ‬ولكونى‭ ‬كنت‭ ‬كبيرها‭ ‬فى‭ ‬البيت،‭ ‬أحاطتنى‭ ‬بوعيها‭ ‬الفطرى،‭ ‬وعى‭ ‬امرأة‭ ‬عانت‭ ‬الكثير،‭ ‬والعامل‭ ‬الثانى‭ ‬تمثل‭ ‬فى‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬تعرفت‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مكان‭ ‬عملى،‭ ‬من‭ ‬أدباء‭ ‬وفنانين‭ ‬وسياسيين‭ ‬بدرجة‭ ‬أقل،‭ ‬وكذا‭ ‬تعلُّقى‭ ‬بالقراءة،‭ ‬وأخيرا‭ ‬الشعر‭ ‬الذى‭ ‬حدد‭ ‬خيارى‭ ‬الأساسى‭ ‬فى‭ ‬الحياة،‭ ‬والحب‭ ‬الذى‭ ‬خفف‭ ‬من‭ ‬قسوتها،‭ ‬وفى‭ ‬تقديرى‭ ‬أن‭ ‬القضية‭ ‬الأكثر‭ ‬إلحاحا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قضية‭ ‬الإنسان،‭ ‬ليس‭ ‬بمعناه‭ ‬المجرَّد‭ ‬كمفهوم،‭ ‬إنما‭ ‬بمعناه‭ ‬العيانى‭ ‬المحدد،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬وقت‭ ‬يتواشج‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر‭ ‬والمبدع‭ ‬بقضايا‭ ‬العالم،‭ ‬بشكل‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أحد‭ ‬تجاهله،‭ ‬كما‭ ‬حصل‭ ‬وسيحصل‭ ‬من‭ ‬تطور‭ ‬فى‭ ‬السنوات‭ ‬الآتية،‭ ‬صارت‭ ‬القضايا‭ ‬لصيقة‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬تعريف‭ ‬أن‭ ‬الكوكب‭ ‬صار‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة‭ ‬يفى‭ ‬بهذا‭ ‬التقارب‭ ‬والتطوُّر،‭ ‬ولكن‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬صار‭ ‬بحجم‭ ‬الكف‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬المعقولية‭ ‬والمنطق،‭ ‬وليس‭ ‬هنا‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التهرّب‭ ‬من‭ ‬قضايا‭ ‬لطالما‭ ‬تم‭ ‬التهرُّب‭ ‬منها‭.‬

هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬خلق‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬والعالم؟

نعم،‭ ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬مبكرا‭ ‬جدا،‭ ‬طفل‭ ‬يتعرَّض‭ ‬لأسئلة‭ ‬يومية‭ ‬عن‭ ‬أشياء‭ ‬لا‭ ‬يعرفها‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬فى‭ ‬عمره،‭ ‬لهذا‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بدَّ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الحوار‭ ‬شرسا‭ ‬ومرهقا‭ ‬ومفيدا‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬التى‭ ‬أفادتنى‭ ‬كثيرا،‭ ‬ووضعتنى‭ ‬فى‭ ‬بؤرة‭ ‬العيش‭ ‬طفلا،‭ ‬وأفادتنى‭ ‬أكثر‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬وجعلتنى‭ ‬أختار‭ ‬موقفى‭ ‬بوعى‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬مريح‭ ‬ومعقول‭.‬

عندما‭ ‬تثقل‭ ‬القضية‭ ‬وعى‭ ‬الشاعر،‭ ‬أين‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬الشعرى‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬يشتغل‭ ‬عليه‭ ‬الشاعر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أى‭ ‬شىء‭ ‬آخر؟

هذا‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬وعى‭ ‬الشاعر،‭ ‬فالارتباط‭ ‬بقضية‭ ‬أو‭ ‬حدث‭ ‬يبدو‭ ‬فخا‭ ‬لا‭ ‬ينجو‭ ‬منه‭ ‬إلَّا‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬المبدعين،‭ ‬والمبدع‭ ‬ابن‭ ‬بيئته،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬إنسانا‭ ‬مدَّعيا‭ ‬ومخادعا،‭ ‬ناهيك‭ ‬عمن‭ ‬يرتبط‭ ‬بقضية‭ ‬أو‭ ‬موقف،‭ ‬السياق‭ ‬العام‭ ‬الذى‭ ‬يجمع‭ ‬الناس‭ ‬فى‭ ‬المصائب‭ ‬والملمات‭ ‬والأفراح‭ ‬يمس‭ ‬المبدع‭ ‬مثل‭ ‬غيره‭ ‬وأكثر،‭ ‬لهذا‭ ‬يستيقظ‭ ‬وعى‭ ‬المبدع‭ ‬جماليا،‭ ‬ويتحرَّك‭ ‬عقله‭ ‬الباطن،‭ ‬وقد‭ ‬يملى‭ ‬عليه‭ ‬أحيانا‭ ‬بالمشاركة،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مُهيأً‭ ‬لها،‭ ‬أما‭ ‬المبدع‭ ‬صاحب‭ ‬الرؤية‭ ‬الذى‭ ‬يكتب‭ ‬لأن‭ ‬الكتابة‭ ‬جزء‭ ‬حقيقى‭ ‬وعضوى‭ ‬من‭ ‬تكوينه،‭ ‬فإنه‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬شىء‭ ‬مصيرى،‭ ‬مثلما‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬عصفور‭ ‬أو‭ ‬وردة،‭ ‬يكتب‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬إبداع‭ ‬وكتابة،‭ ‬مثلما‭ ‬يكتب‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مرَّة،‭ ‬ولا‭ ‬يكتب‭ ‬لتملُّق‭ ‬أحد‭ ‬أو‭ ‬ليرضى‭ ‬أحدا‭.‬

كيف‭ ‬ترى‭ ‬المسافة‭ ‬الآمنة‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬والشعر‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬والسلطة‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬آخر؟

الشعر‭ ‬هو‭ ‬الفن‭ ‬الأكثر‭ ‬شغفا‭ ‬بالحرية،‭ ‬والشاعر‭ ‬هو‭ ‬المايسترو‭ ‬الذى‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬احتمالات‭ ‬الجمال‭ ‬فى‭ ‬الأشياء‭ ‬وفى‭ ‬اللاشىء،‭ ‬بينما‭ ‬كل‭ ‬سلطة‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬تقبض‭ ‬على‭ ‬خيال‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬فيه‭ ‬روح‭ ‬ويتحرَّك‭ ‬أو‭ ‬يرقص‭ ‬أو‭ ‬يغنى،‭ ‬الشعر‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬لم‭ ‬يصلها‭ ‬أحد،‭ ‬يفتِّش‭ ‬ويترك‭ ‬إشارات‭ ‬لمن‭ ‬يتبعه‭ ‬دون‭ ‬قصد،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬للشاعر‭ ‬أن‭ ‬يفطن‭ ‬إلى‭ ‬هذا،‭ ‬لكى‭ ‬ينجوبنصه‭ ‬جماليا‭.‬

دائما‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬الكثيرون‭ ‬إلى‭ ‬أزمة‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬الواقع‭ ‬الثقافى‭ ‬العربى،‭ ‬ما‭ ‬ملامح‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرك؟

رغم‭ ‬وجود‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المشاكل‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الواقع،‭ ‬فإننى‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬جديدا‭ ‬ولا‭ ‬يتوقَّف‭ ‬على‭ ‬زمن‭ ‬بعينه،‭ ‬فالأزمة‭ ‬الثقافية‭ ‬كانت‭ ‬قديما‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬وستظل‭ ‬قائمة،‭ ‬وقد‭ ‬تبدو‭ ‬الأزمة‭ ‬فى‭ ‬جانبها‭ ‬الثقافى‭ ‬والأدبى‭ ‬أكثر‭ ‬أهميَّة‭ ‬وخطرا‭ ‬منها‭ ‬فى‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الجوانب،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحا،‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬نتكلَّم‭ ‬أقل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬فى‭ ‬العموم،‭ ‬ونتكلَّم‭ ‬حصرا‭ ‬وتحديدا‭ ‬فى‭ ‬الأشياء‭ ‬التى‭ ‬تُراكم‭ ‬معرفة‭ ‬مفيدة‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬والأشياء‭ ‬التى‭ ‬تضيف‭ ‬وتغيِّر‭ ‬إلى‭ ‬الأجمل‭.‬

ما‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬تراه‭ ‬من‭ ‬مشاكل‭ ‬فى‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬؟

فى‭ ‬تصوُّرى‭ ‬أننا‭ ‬عندما‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬الثقافة‭ ‬والحرِّية‭ ‬توأمان،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬كافيا،‭ ‬وغياب‭ ‬الحريات‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬عوامل‭ ‬تراجع‭ ‬الثقافة‭ ‬والمعرفة‭ ‬فى‭ ‬عالمنا‭ ‬العربى،‭ ‬ولكن‭ ‬بالمقابل،‭ ‬يبقى‭ ‬للمثقف‭ ‬دور‭ ‬كبير،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أتمناه‭ ‬من‭ ‬المثقف‭ ‬أن‭ ‬يعى‭ ‬نفسه‭ ‬ويدرك‭ ‬قيمة‭ ‬كلمة‭ ‬امثقفب‭ ‬وأهميتها،‭ ‬ويفكِّر‭ ‬كيف‭ ‬يستعيد‭ ‬مكانته‭ ‬ودوره‭ ‬فى‭ ‬المجتمع،‭ ‬رغم‭ ‬صعوبة‭ ‬ذلك،‭ ‬ويسارع‭ ‬بالتخلُّص‭ ‬من‭ ‬الازدواجية‭ ‬التى‭ ‬يعيشها‭ ‬بين‭ ‬القول‭ ‬والفعل،‭ ‬وأن‭ ‬ينحاز‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭ ‬وقضاياه‭ ‬قبل‭ ‬أى‭ ‬شىء‭ ‬آخر‭.‬

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة