قصيدة النثر المرفأ الوحيد لشاعر اليوم
فواز قادرى:
قصيدة النثر المرفأ الوحيد لشاعر اليوم
الثلاثاء، 20 أبريل 2021 - 10:49 ص
حوار: هشام محمود
يبدو الشعر لدى فواز قادرى رهانا مصيريا يتقاطع مع لقمة العيش، مع تأثير عميق لغربة فرضتها الحياة قسرا، حتى قبل أن يغادر وطنه سورية منذ سنوات، بحثا عن ملاذ آمن له وللقصيدة، التى بدت محملة بأوجاع تشبه الشاعر فى إنسانيته وتوقه للحرية، وقدرته على أن يظل محلقا فى آفاق تخصه، ليجرب الشاعر دائما ألعابا جديدة فى الكتابة وكذا فى الحياة.
يؤمن بأن دور الشاعر والشعر أساسى اليوم مثلما كان دائما، والدور لا يعنى وظيفة أو خدمة يؤدِّيها الشعر والشاعر، فالشعر كما يراه مثل كل الفنون التى تمنح حياة البشر نكهة مختلفة، قد يبدو فى الظاهر أن هذا الدور تراجع لحساب مسائل أكثر قدرة على إشغال الناس، ولكن لو بحثنا عن الشعر جيدا لوجدناه كامنا فى كل التفاصيل، اإنه يتسكع فى حياتنا بأشكال عدة، ويرافقنا إلى أماكن لم نكن نصدق أنه وصل إليهاب.
هنا نحاور فواز قادرى عن الشعر والغربة ومفهوم الوطن.
لم تكن بدايتك مع الكتابة ناعمة على النحو الذى يلائم طفلا سيختار الكتابة فيما بعد طريقا ورهانا أساسيا، فكيف كانت هذه البداية؟
فى بداية علاقتى بالكتابة، وجدتها لعبة جديدة وممتعة، كان شغفى بالتعلّم خارج أسوار المدرسة كبيرا ودافعا أساسيا لتعلقى بالشعر، حيث يلهو الصغير بمتعة بوقته القليل بعد انتهائه من العمل، هذا ما كان من الخامسة عشرة حتى العشرين، ولد يكتشف الشعر صدفة وهو يلهو مع الأولاد، بعد أن كان ينظر إلى أن تعلّم القراءة من المستحيلات، كنت أقايض مجلة ميكى مقابل اسامباب كتاب نزار السحرى، هذا الكتاب الشعرى الأول الذى يقرؤه الصغير، فتح بوابة القراءة على عوالم مبهرة، وكان الصغير قد بدأ بالتعرف على التراث الشعبى، مثل السير والملاحم الرائجة، كعنترة وسيرة بنى هلال والظاهر بيبرس وألف ليلة وليلة وسيف بن ذى يزن، إضافة إلى الشعر الجاهلى، ومرورا بالروايات العالمية الرائجة، أيضا: بائعة الخبز وأحدب نوتردام والبؤساء، إلى آخره، من الخامسة عشرة إلى العشرين مرَّ الصغير ثم الفتى ثم الشاب، باستحقاقات شاقة، بعد أن اكتشف القدرة الهائلة للشعر التى تصل إلى حد أن أعدها معجزة الشعر، بالتأثير على ماهية الأشياء، على النحو الذى جعل الفقر والحزن يخلعان أنيابهما ويُستأنسان، لقد فعل الصغير أشياء لا يفعلها سوى القليلين، بداية من تعلُّم القراءة والكتابة خارج أسوار المدرسة، إلى تعلُّم قواعد اللغة من كتابة تنوين النصب والكسر بالأحرف، إلى تعلم النحو وعروض الشعر، ومعرفة الأحرف وكيف تنقسم فى الكلمات، إلى موجة ساكنة وأخرى متحرِّكة، وصولا إلى الأبحر والتفاعيل فى علم العروض.
وما دوافع الكتابة وأثرها فى مفهومك الخاص عن الشعر؟
دوافعى للكتابة كانت كثيرة جدا، ويمكن أن ألخصها فى أشياء تلد أشياء، ونوع من تحدى النفس والرهان على الصواب الخاسر، ومحاولة تقريب المسافة بينى وبين الأقران، وربما محو الفارق بين التعلُّم فى المدرسة والذهاب إلى العمل والتعلم من الشارع، هذا قبل أن يصبح الشعر طريقة عيش ووسيلة اكتشاف للجمال وتمييزه عن البشاعة، أضيف إلى هذا خيارات الوقوف مع الخير ضد الشر، والاصطفاف الحاسم والنهائى ضد الظلم والقهر، دون مهادنة، وقد توقفت منذ زمن عن تشكيل مفهوم نظرى عن شعرى، وفضلت أن أشغل حيزى الزمنى بمعناى، كما انشغلت برسم علاقة القصيدة بالحياة كجسد واحد وروح واحدة.
أتصور أن الحياة التى عشتها كانت الأعمق أثرا من أية روافد يستمدها الشاعر من خارج التفاصيل التى يعيشها، هل تتفق مع هذا التصور؟
نعم، وتستطيع أن تقول إن طريقة العيش العفويّة فتحت الأفق واسعا وحددت البدايات، أما الروافد والمؤثرات فكانت تحصيل حاصل، وبقدر ما كان التعلُّم خارج الطرق الطبيعية شاقا، بقدر ما كان مفيدا فى الوقت ذاته، بما أتاح لى تجاوز الطرق التقليديَّة بالمعرفة والانفتاح على عوالم لم تُتَحْ لأقرانى، لهذا أظننى خطوت مبكرا خطوات بعيدة، كما حددت خياراتى الجماليَّة باكرا.
ومع هذا يبقى للبيئة والنشأة تأثيرهما فى تكوينك الأدبى والثقافى، فما ملامح هذا التأثير؟
أظن أنه كان للبيئة التأثير الأكبر فى بداياتى، لكن سريعا تم تعديل هذا، باختيار ما هو قابل للتعايش مع المعارف الجديدة الوافدة بكثرة، والتواشج فى النسيج الإنسانى، من خلال تعدد مشارب تلقى الثقافات الأخرى والحصول على المعارف والمفاهيم التى تلائمنى، وكذا الاستفادة من تجارب أصدقاء من الجيل الأكبر عمرا، كل هذا أتاح لى إعادة النظر باليقينيات وغربلتها بأسرع مما هو متاح لغيرى فى هذه المرحلة العمرية، ويبدو أن لمناخ الحرية تأثيرات مفيدة بقدر ما هى خطرة، وأنا أعتقد أننى استفدت كثيرا من حرية المعرفة خارج المؤسسات.
ما محرضات الكتابة لديك؟
محرضات الكتابة عندى كانت وما زالت كثيرة ومتنوعة جدا، من بينها إحساسى أن هذا العالم بيتى، بما جعلنى فى قلب ما يحدث فيه، وجعلنى أعى تماما خطورة هذا على الكتابة، أو العوامل الثرية التى ترفد الإبداع وتثرى التجربة، ولكن دائما ظل عندى خوف أن تكون القصيدة مجرد صرخة، وقد وفرت لى طبيعة الحياة التى عشتها عوامل متنوِّعة، بتنوُّع حياتى التى كانت على تماس مهلك مع الأشياء، كما منحتنى قراءاتى الكثيرة القدرة على التمييز بين ما يفرغنى إبداعيا، وما يجعلنى أكتب وأنا فى حالة تلق لكل ما يملؤنى جماليا فى نفس الوقت.
فكرة الوحى والإلهام، لأية درجة تراها صالحة لتفسير الظاهرة الإبداعية؟
فى البدايات كنت فى حالة تلق دون أن أمتلك المقدرة على الفرز والتمييز، وهذا يشبه أن يكون إلهاما، ولكن سرعان ما تجاوزت ذلك، إضافة إلى أن المناخ الذى أتيح لى باكرا من خلال معلمى فى المهنة التى تم الاستقرار عليها وقتذاك وهى صيانة الأجهزة الإلكترونية، حيث كان جزءا من مجموعة من المثقفين يلتقون فى ناد للفنون والتمثيل، كنت مستمعا جيدا للحوارات التى تدور بينهم، وكانت كلها حوارات عن الثقافة والفنون، بما جعل عقل الطفل الصغير الذى بدأ بتعلم القراءة والكتابة، مهيئا لاستيعاب البعض مما يسمع، وهنا تجاوزت مفهوم الإلهام من خلال تأثرى بما سمعت وقرأت.
ما أهم ما تُعَوِّل عليه فى كتابتك؟
أنا مشغول على الدوام بأن أملأ حيِّزى الزمنى بمعناى، وهى حالة ليست متوقِّفة على الكتابة، بل هى طريقة ومفهوم عيش، مفهوم غنى أكثر مما نسمعه فى المرَّة الأولى، عشت هذه الحالة فى السنوات الأخيرة، بما جعلنى فى حالة استنفار نحو الكتابة ليل نهار، فى الفراش وفى الطريق، فى حالة الحزن والفرح، فى طرق تلقى العالم، وفى الحاضر وما تستدعيه الذاكرة، وكان الحب مرآتى لرؤية اأناىب وحوارى معها، أنا المختلف المتعدد، وبدا الحب قاموسى اليومى ومرثاتى لخسائر حصلت وخسائر لا أخشاها، كما بدت الأنوثة ملحمة تتوالد فى العيش وتؤثر فيه.
لأية درجة تشتغل على اللغة فى كتابتك؟
أتصور أن اللغة هاجسى الأساسى فيما أكتب، فإذا لم تتجدد لغة الشاعر لن يستطيع أن يذهب أبعد من خطوات قدميه القصيرتين، واللغة جناح وباقى مكونات القصيدة جناح، والشعر لن يحلق دون جناحين.
يبدو التجريب هاجسا حاضرا بقوة فى نصك، على أى شىء تؤسس نصك من هذه الزاوية؟
أنا دائما مولع بالبحث عن الجديد فى قصيدتى، وأهم ما يشغلنى أن أكتب وعينى على ما يطرأ على مفهوم الشعر وما أكتشفه فيه، وعينى كذلك على العالم فى الوقت ذاته، أتابع صيرورته الفاعلة والمنشغلة بما أراه، وأعيد النظر بالمتحقق وما يغوينى بالتحقق، لهذا أنا دائما مشغول بالتجريب، وأرى أننا يجب أن نشرع كل يوم بابا فى التجريب، لمن يستطيع ويرغب أن يقدم جديدا.
كيف تبدو قصيدتك فى مرآتك؟ وكيف يمكن أن تعرف قارئا لم يقرأ لك بعد بهذه التجربة؟
مرآتى لا تعكس رغباتى وما أريد من الكتابة، بقدر ما تحدد مفهومى الصعب عن ملامح قصيدتى، وبالمقابل هى مرآة بشوشة لا تهتم بالمساحيق، وتغسل الوجوه التى تمرُّ عليها بماء العيش، وتتفهَّم العوامل الطارئة التى لا تستسيغها، لهذا تمرر عليها فرشاتها الحنون الناعمة لتمسح غبار أحصنة خارجة من الحرب، ورغم أننى حريص على علاقتى وقصيدتى بالناس، إلَّا أننى أدرك هذه العلاقة الصعبة، وأراهن على علاقة حنون حوارية طويلة البال، حتى وإن بدا أن هناك ما يكدرها، خصوصا فى البداية، وفى النهاية لن يفوز سوى الجمال.
لأى درجة تعد قصيدة النثر مرفأ مناسبا لشاعر اليوم؟
قد يبدو ما سأقوله مبالغة، لأننى أرى أن قصيدة النثر ليست المرفأ المناسب، بل هى المرفأ الوحيد، ولست بصدد تعداد الأمثلة على ذلك، فالاختلاف قديم بين مفهومين، ورغم تراجع الشكلين الآخرين، ما زال هناك كثيرون يكتبون شعر التفعيلة والعمودى، بل يعتبرون هذين الشكلين هما الشعر، وعندهم قصيدة النثر ما هى إلا حالة طارئة وعابرة، أنا أرى أن العكس هو الصحيح تماما، والنص الجديد يتيح تأثيرات كبيرة متبادلة بين الشعر وغيره من الفنون، وهذا أمر طبيعى، قد يبدو أنه بطىء الحركة فى هذا الاتجاه، لكننى أتصوَّر أنه فى فترة قصيرة سيتسارع تبادل التأثير بين جميع الفنون والشعر، عبر قصيدة النثر التى تُكتب الآن.
هل طرأ تغير ما على ضرورة الشعر فى عالمنا اليوم، بالنظر لماديته؟
لا يستطيع الإنسان أن يعيش بلا شعر، مهما طرأ عليه من تحوُّل، وسيبقى هذا الكائن الذى يتلقَّى الكثير من الأشياء بأحاسيسه ليعبِّر عنها بأحاسيسه أيضا، مهما تسارع إيقاع العالم، سيبقى فى حاجة ماسة إلى الفنون ومنها الشعر، مهما طرأ ويطرأ على الشعر من تحوَّل، وسيبقى محافظا على ماهيته بالمحصِّلة، وما دام الإنسان لم يتحوَّل ولن يتحوَّل إلى آلة، سيبقى الشعر بتحوُّلاته من أهم الضروريات.
لأى شىء تُرجع الفجوة بين الشعر والمتلقى؟ وكيف يمكن إزالتها، أو على الأقل التخفيف من حدتها؟
فى العمق هى فجوة ثقافيَّة، وليست متوقِّفة على الشعر، والشعر هو الأكثر رهافة، والأقل قدرة على الصمود فى وجه التزييف، وهوسهل الانقياد أمام من يُجيد ارتداء الأقنعة، ولو استطعنا إزالة الفجوة الثقافية التى تضرب ثقافتنا العربية عموما، والتى هى الأكثر تأثيرا، سيمكننا بعد ذلك أن نفكِّر جديًّا فى ردم بقيَّةِ الفجوات.
وماذا عن ترجمة الشعر؟ ولأية درجة يمكن أن تفيد فى تحطيم الأسوار حول راهن الشعر العربى؟
الترجمة مفتاح بين أيدى المبدعين، ولكن قليلا ما يستخدمونه، هذا لعدم إدراك أهمية تقارب أرواح الشعوب من بعضها، ولعدم جدِّية من يستطيعون خرق هذه العتمات الروحية بين سكَّان كوكبنا، من أجل أن تحسَّ الشعوب أنها فعلا تسكن فى بيت واحد، وعليها أن تتقارب أكثر وتتجاوز وهم تباينها الدينى والعرقى والجغرافى، وعليها كذلك أن تخاف على هذا البيت، ومسئولية الثقافات المتبادلة مسئولية كبيرة.
بين النقد الأكاديمى الذى ربما يناسب أكثر قاعات الدرس، والنقد الانطباعى الذى قد يتعامل مع قشرة النص دون تجاوزها، ماذا قدم النقد عموما للشاعر والشعر وللقارئ أيضا؟
أنا من جانبى نسيت كلمة انقدب، أو بشكل أدق، لم أتعرَّف عليها بالأساس، مع أن النقد هو الأكثر تأثيرا على تطور الآداب والفنون بشكل عام، والشعر بشكل خاص، من جانبى أرى النقد هو الأكثر غيابا، ملعبه فارغ وتلعب به السعادين والسعالى، والشاعر والمبدع والقارئ فى مهب الجهد الشخصى فى التذوُّق والتلقِّى والمعرفة.
هناك جوائز عربية كثيرة للشعر، ما هو الدور الذى تلعبه إيجابا وسلبا فى المشهد الشعرى الراهن؟
الجوائز فيها متعة اللعب، ولكنها تُطَبَّقُ بشروط ليس فيها نزاهة اللعب، على من يفكِّر فى الجوائز أن يذهب إليها، مع التأكيد أنها لا تمنح اللاعبين والفائزين أىَّ مكانة، ولا تميِّزهم عن أقرانهم الذين لا يشاركون فى اللعب.
البعض يرى تراجع القضايا الكبرى لصالح قضية الإنسان ومعاناته الذاتية، ما هو رأيك فى هذا التصور؟
برأيى لا فصل بينهما، فقضية الإنسان متواشجة مع القضايا الكونية، قد يبدو أن ثمة فصلا بينهما من خلال طرق التفكير، والأولويات التى تفرضها أمور ساخنة، إلا أن الإنسان بشكل أو آخر، هو الفاعل والسبب الأوَّل فى تهميش أوتمتين علاقته بقضايا يظنُّ ألا علاقة له بها، وهذا من المستحيلات، فلو نظرنا بشكل عميق وغير أنانى، لرأينا ألا فاصل بينهما.
قضية الحب، ما مدى قدرتها على أن تجتذب الشاعر وسط ما يعيشه من أزمات راهنة؟
فى الحقيقة، الحب ليس خيارا يقبله أو يرفضه الإنسان، فضلا عن الشاعر، ولكنه طريقة عيش، وأى تصور يتراجع بالحب إلى ما دون هذا يبدو بالنسبة لى حالةً مَرَضيّة، وثلما بلب الأشياء، والحب طريقة لتلقّى الموجودات والتعامل معها، ونظرة إلى الحياة بلا خشية أو وجل، إذا أردت أن تكون ابن الطبيعة، فلا بدَّ أن يكون قلبك عامرا بالحب، وأن تحب امرأة فيجب أن تحب الوردة، وأن تتذكَّر حليب الأمّ وتعشق معنى الأمومة، وعليك أن ترى هذا الإشعاع الذى ينسج ألف شرنقة غير مرئية بينك وبين الناس والأشياء، هى حالات لا تراها ولكنك تحس بها فتتوازن.
ما هى تأثيرات العرفانية والصوفية على قصيدتك؟
لا أظن أن ثمة تأثيرات للصوفية والعرفانية على مفهومى عن العالم، ولا على مفهومى للإبداع ولا على قصيدتى، ربما تبدو فكرتى عن الحب قريبة من تصور أهل التصوف، وفقا لبعض من يقرأون تجربتى، ويسعدنى أن أكتشف نفسى من خلال روح الرائى، ولكننى أرى أن جوهر فكرتى عن الحب إنسانى أرضى له علاقة حميمة بالأشياء، قبل أى شىء آخر، هذا ما أحسه وأتصوره.
تبدو فكرة تحطيم التابو مسيطرة على تجارب الكثيرين، هل تشغلك هذه الفكرة؟
لا تشغلنى فكرة تحطيم التابو فحسب، ولكننى فوق هذا أراه عدوا مبينا، سواء التابو الاجتماعى أو السياسى أو الدينى، إضافة إلى تابو الخوف الداخلى غير المرئى الذى شلَّ كل شىء، ويبدوبالنسبة لى سبب مصائبنا الكبرى، وتخلُّفنا الأساسى الذى راكم كل الأسباب التالية، وقَيَّدنا حتى نسينا أننا كائناتٍ عاقلة، نملك أقداما ولا نستطيع أن نمشى عليها، وعقولا صالحة للتفكير ولا نستخدمها، والتابو هو مصيبتنا الكبرى التى يجب أن نحطمها.
ما رؤيتك لوطنك سورية، وأنت تراه(عن بعد( بسبب الغربة التى تعيشها منذ سنوات؟
الوطن بالنسبة لى هو ألفة الموجودات والإنسان والكائنات التى لها روح، والنفس الأوَّل والدفء الأوَّل ورشفة الحليب والماء الأولى، والدمعة الأولى والابتسامة الأولى، والسماء الأولى والمكان الأوَّل والخطوة الأولى، والحب الأوَّل والكلام الأوَّل والقبلة الأولى، والحرية الأولى ومعها قيودها، والحرف الأوَّل والفرح الأول والخوف الأول، وعندما ينمو العقل تبتعد أشياء وتقترب أشياء، وتحب أشياء وتكره أشياء، فى المرحلة المبكرة تكون الأحاسيس هى التى تقودك، قبل أن تقوم المعرفة بذلك، من معرفتك لنفسك إلى معرفة العالم، كل هذا يحدث فى مكان نسمِّيه الوطن، يبقى يطاردك من مكان إلى مكان، مع توازن نظرتك إلى العالم، يتسع مفهومك الإنسانى، ومن هنا وبهذا المفهوم، كانت سورية وطنى وستظل، أنتمى إلى عذاباتها وإلى إنسانها البسيط المعدم، ويشتدُّ إحساسى بها وهى تعانى ما تعانيه اليوم، وبعد سنوات النأى الطويل صارت كلمة االغربةب موجعة جدا، وقد تأكد لى مفهومى القديم عن الوطن، وقناعتى المطلقة أن هذا الكوكب بيت جميع الناس، وفى العموم تبدو صورة الوطن قريبة جدا من الواقع، مع المزيد من الحب والشفقة، ففى الشعر أستطيع أن أفعل للوطن أكثر مما أستطيع فى الواقع، رغم أننى لم أكتف فقط بأننى شاعر، بل حاولت من خلال عملى فى حزب يسارى سرِّى أن أفعل له شيئا فى تجربتين مختلفتين، وحين فشلت خرجت خارج سورية، مثلما خرجت من ثوب السياسة وارتديت جلد الشعر، إلى حد أن تحول العالم عندى إلى قصيدة.
ارتباطا بهذا، كيف أثرت الغربة فى تجربتك الشعرية؟
تبدو الغربة ذات تأثير كبير على تجربتى الشعرية، ما بين قلق وتأجج إبداعى يرافقانها، وإذا لم تنتكس الذات الشاعرة وتجعل الشاعر فى حالة لا يستطيع فهمها بالمنطق، استطاع كتابتها على عدة وجوه، ويرتبط هذا أيضا بالفقد الذى يبدو تيمة حياتى الأساسية، منذ أن وعيت على وجودى فى هذا العالم، حيث تعرَّضتُ لحالات متعددة ومتكررِّة من الفقد، ولازم الفقد ذاكرتى مبكرا، فى عائلتى الهاربة من إحدى القرى الكردية عبر الحدود التركية السورية، فى ليل ليس له أمان، لازمنى تأثير فقدها الموجع لمكانها الأول، وذلك قبل ولادتى بسنوات، واستمرَّ مؤثِّرا فى حياتى لفترة طويلة، وعلى عائلتى التى انقسمت بين بلدين، وكذا الفقد اليومى المتكرر فى مدينة واحدة تعددت بيوت سكنى فيها، فقدت الكثير من الأصدقاء، إلى حد أن شبعت طفولتى حزنا وخسارات، حتى صار الفقد علامتى الفارقة.
ومع هذا لم يتورط نصك فى هموم الذات بمعناها الشخصانى، فكيف خلصت تجربتك من هذا المأزق؟
فى الحقيقة، كان من الممكن أن تأخذنى ذاتى المسكينة المتألِّمة إلى أماكن لن أعود منها، ولن أجد فيها نفسى كإنسان، ولكن جملة من العوامل ساعدتنى على أن أعى ذاتى بشكل أكثر شمولا، وأعى كذلك المخاطر المحدقة بها، أمى أهم هذه العوامل، لكونها عانت من الفقد الكثير، ولكونى كنت كبيرها فى البيت، أحاطتنى بوعيها الفطرى، وعى امرأة عانت الكثير، والعامل الثانى تمثل فى الناس الذين تعرفت عليهم من خلال مكان عملى، من أدباء وفنانين وسياسيين بدرجة أقل، وكذا تعلُّقى بالقراءة، وأخيرا الشعر الذى حدد خيارى الأساسى فى الحياة، والحب الذى خفف من قسوتها، وفى تقديرى أن القضية الأكثر إلحاحا يجب أن تكون قضية الإنسان، ليس بمعناه المجرَّد كمفهوم، إنما بمعناه العيانى المحدد، لم يكن هناك وقت يتواشج فيه الشاعر والمبدع بقضايا العالم، بشكل لا يستطيع أحد تجاهله، كما حصل وسيحصل من تطور فى السنوات الآتية، صارت القضايا لصيقة إلى درجة لم يعد تعريف أن الكوكب صار قرية صغيرة يفى بهذا التقارب والتطوُّر، ولكن فكرة أن العالم صار بحجم الكف أقرب إلى المعقولية والمنطق، وليس هنا من سبيل إلى المزيد من التهرّب من قضايا لطالما تم التهرُّب منها.
هل يمكن أن نقول إن كل هذا خلق نوعا من الحوار بين الذات والعالم؟
نعم، وقد بدأ هذا الحوار مبكرا جدا، طفل يتعرَّض لأسئلة يومية عن أشياء لا يعرفها من هم فى عمره، لهذا كان لا بدَّ أن يكون الحوار شرسا ومرهقا ومفيدا فى الوقت ذاته، كان هذا الحوار من الأشياء التى أفادتنى كثيرا، ووضعتنى فى بؤرة العيش طفلا، وأفادتنى أكثر فيما بعد، وجعلتنى أختار موقفى بوعى إلى حد مريح ومعقول.
عندما تثقل القضية وعى الشاعر، أين هذا من الجمال الشعرى المفترض أن يشتغل عليه الشاعر أكثر من أى شىء آخر؟
هذا يتوقف على مدى وعى الشاعر، فالارتباط بقضية أو حدث يبدو فخا لا ينجو منه إلَّا القليل من المبدعين، والمبدع ابن بيئته، حتى لو كان إنسانا مدَّعيا ومخادعا، ناهيك عمن يرتبط بقضية أو موقف، السياق العام الذى يجمع الناس فى المصائب والملمات والأفراح يمس المبدع مثل غيره وأكثر، لهذا يستيقظ وعى المبدع جماليا، ويتحرَّك عقله الباطن، وقد يملى عليه أحيانا بالمشاركة، حتى وإن لم يكن مُهيأً لها، أما المبدع صاحب الرؤية الذى يكتب لأن الكتابة جزء حقيقى وعضوى من تكوينه، فإنه يكتب عن شىء مصيرى، مثلما يكتب عن عصفور أو وردة، يكتب حين يكون فى حالة إبداع وكتابة، مثلما يكتب فى كل مرَّة، ولا يكتب لتملُّق أحد أو ليرضى أحدا.
كيف ترى المسافة الآمنة بين الشاعر والشعر من جانب والسلطة من جانب آخر؟
الشعر هو الفن الأكثر شغفا بالحرية، والشاعر هو المايسترو الذى يشير إلى احتمالات الجمال فى الأشياء وفى اللاشىء، بينما كل سلطة على النقيض تقبض على خيال كل شىء فيه روح ويتحرَّك أو يرقص أو يغنى، الشعر يذهب إلى أماكن لم يصلها أحد، يفتِّش ويترك إشارات لمن يتبعه دون قصد، لا بد للشاعر أن يفطن إلى هذا، لكى ينجوبنصه جماليا.
دائما ما يشير الكثيرون إلى أزمة ما فى الواقع الثقافى العربى، ما ملامح هذه الأزمة من وجهة نظرك؟
رغم وجود الكثير من المشاكل فى هذا الواقع، فإننى أرى أن هذا ليس جديدا ولا يتوقَّف على زمن بعينه، فالأزمة الثقافية كانت قديما وما زالت وستظل قائمة، وقد تبدو الأزمة فى جانبها الثقافى والأدبى أكثر أهميَّة وخطرا منها فى غيرها من الجوانب، كما أنها أكثر وضوحا، وأرى أن نتكلَّم أقل ما يمكن فى العموم، ونتكلَّم حصرا وتحديدا فى الأشياء التى تُراكم معرفة مفيدة فى الوقت والأشياء التى تضيف وتغيِّر إلى الأجمل.
ما أهم ما تراه من مشاكل فى الثقافة العربية ؟
فى تصوُّرى أننا عندما نقول إن الثقافة والحرِّية توأمان، فإن هذا لم يعد كافيا، وغياب الحريات يبدو من أهم عوامل تراجع الثقافة والمعرفة فى عالمنا العربى، ولكن بالمقابل، يبقى للمثقف دور كبير، كل ما أتمناه من المثقف أن يعى نفسه ويدرك قيمة كلمة امثقفب وأهميتها، ويفكِّر كيف يستعيد مكانته ودوره فى المجتمع، رغم صعوبة ذلك، ويسارع بالتخلُّص من الازدواجية التى يعيشها بين القول والفعل، وأن ينحاز إلى الإنسان وقضاياه قبل أى شىء آخر.