رسالة مرسلة  للرسول صلي الله عليه وسلم إلى المقوقس
رسالة مرسلة للرسول صلي الله عليه وسلم إلى المقوقس


«إنّا له لحافظون»

أخبار الأدب

الثلاثاء، 20 أبريل 2021 - 11:29 ص

بقلم/ أمنية عامر

من المعروف أن المصحف لم يكن منقوطا أو مشكولا، وذلك لإبقاء الكلمة محتملة لأن تقرأ بكل ما يمكن من وجوه القراءات فيها، إلا أن هناك من المؤرخين من يرى أن الإعجام كان معروفا قبل الإسلام ولكن تركوه عمدا

من المعروف على وجه اليقين أن المصاحف تمّ جمعها وتدوينها وحفظها بعد انتقال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، عندما نقص عدد حفظة القرآن فى حروب الردّة وأيضًا مع دخول غير الناطقين باللغة العربية فى الإسلام الأمر الذى كان له أثره فى ضرورة تدوين آيات القرآن وما تبعه من إضافة لنقط الحروف وتشكيل كلماته نحويًا 

وفى نظرة تاريخية غير مسهبة ولا مبتورة، وتأسيسًا على أن الكتابة تعبير عن أصوات للغة منطوقة، تجب الإشارة إلى ما وصلنا من آثار كتابية نادرة التى تمثل مراحل تطور الكتابة العربية من الأصل النبطى إلى الشكل العربى الخالص؛ والأنباط هم مجموعة من العرب القدماء الذين كانوا يستوطنون شمال شبه الجزيرة العربية وجنوب الشام وامتدت من الفرات  حتى البحر الأحمر، وقد وجد العديد من رسومات الجدران والكتابات التى توثّق لبعض مظاهر حياة الأنباط وهو مجتمع كان قائمًا على الرعى والتجارة، وتشهد تلك الكتابات والرسومات على مجتمع مثقف قادر على القراءة والكتابة. 

وعليه يمكن تقسيم اللغة العربية إلى عربية بائدة (عربية النقوش) وعربية باقية (لغة القرآن): فالعربية البائدة أو عربية النقوش تطلق على لهجات كانت تتكلم بها عشائر عربية تسكن فى مملكة الأنباط المشار إليها، واللغة الموجودة فى آثار أطلال الأنباط آرامية، أما لغة الكلام فكانت عربية والاثنتان مرتبطتان بلغة بدو الآراميين، وكانت تلك اللهجات منتشرة فى شمال شبه الجزيرة العربية وبعيدة عن المراكز الأصلية للّغة العربية (نجد والحجاز) فاصطبغت بالصبغة الآرامية وبادت قبل الإسلام: فهى عربية بائدة.

أما العربية الباقية فهى التى وصلت عن طريق آثار عصر ما قبل الإسلام (عصر الجاهلية، وكذلك آيات القرآن الكريم وما وصلنا من الحديث الشريف وآثار العصور الإسلامية المختلفة، وقد كانت لغة أدب وكتابة وما زالت، وكان موطنها نجد والحجاز ثم انتشرت وانشعبت منها اللهجات المستخدمة اليوم فى أرجاء الوطن العربى.

وفى بلاد العرب، ورغم ما اشتهر به العرب من التفوق فى الشعر، إلا أنهم لم يلجأوا إلى كتابتـه كوسيلة لحفظه، وعلى الرغم من أنه لا يمكن الزعم أن العرب فى الجاهلية لم يعرفوا الكتابة على إطلاقه، لأن النقوش التى اكتشفت على حدود شبه الجزيرة تحمل لغة قريبة إلى العربية من حيث المادة اللغوية والأسلوب، وتدل دلالة واضحة أن الكتابة كانت معروفة فى شبه الجزيرة العربية وما حولها قبل الإسلام، رغم أنها لم تكن متداولة بشكل واسع ولم تكن مستخدمة إلا لكتابة العهود والمواثيق والأحلاف، وصحيفة المقاطعة المعروفة ورسائل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الملوك والأباطرة دليل واضح لا يدع مجالاً للشك أن العرب كانوا على معرفة بالكتابة ولكن فى نطاق ضيق لا يمتد إلى مختلف شئون الحياة.

ونزل القرآن الكريم بلغة العرب وعلى أساليب العرب فى كلامهم، فألفاظه وأساليبه عربية خالصة: ففيه الحقيقة والمجاز والكناية على نمط أساليب العرب فى حقيقتهم ومجازهم، وهو أمر طبيعى لأن القرآن أتى ليدعو العرب إلى الإسلام فكان من الطبيعى أن يكون بلغة يفهمونها، ومن جانب آخر فإن لغة القرآن تعدّ اللغة الأدبية النموذجية التى كانت ذائعة وقت نزوله وهى التى قيل بها الشعر والنثر الجاهلى، وأساس تلك اللغة هى لهجة قريش أو كما تسمى اللغة الحجازية، وكانت قد توافرت لقريش جميع العوامل التى جعلت لغتهم تستوفى شروط الغلبة والفصاحة وأن تسود غيرها من اللغات وتتغلب عليها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

ظل القرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم على مدى 23 عاما هى فترة الدعوة إلى دين الإسلام، وكان يوحى به إليه منجّما أو مفرّقًا حسب ما اقتضته إرادة الله تعالى وحكمته، فكان النبى يبلّغ به الصحابة والتابعين فيحفظونه فى صدورهم ويتناقلونه فيما بينهم، ولم يكتف الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، ورأى أن يأمر بكتابته وتدوينه حرصا منه على حفظه والعناية به ونهى عن كتابة ما يحدّث به (الحديث النبوى الشريف) حتى لا يختلط بالقرآن، وممن اشتهر بكتابة القرآن بين يدى الرسول صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة الراشدون، وأبىّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود وغيرهم ممن كانوا يتقنون الكتابة، وكانوا يكتبون على ما توافر لديهم من مواد صالحة للكتابة كالعُسُب (جريد النخل) واللّخاف (الحجارة البيضاء الرقيقة) والرِّقاع (الرَّق) والأديم (الجلد الأحمر غير المدبوغ) وعظام الأكتاف والضلوع، ولم ينته العصر النبوى الشريف إلا والقرآن مكتوب كله لكنه لم يكن مجموعًا فى مكان واحد وكان محفوظا فى صدور الصحابة يعلمون ترتيب آياته فى مواضعها من السور ويعلمون ترتيب سوره كما عرضت على النبى عليه الصلاة والسلام فى العرض الأخير قبل وفاته، ومن ثمّ يمكن القول أن ترتيب الآيات توقيفيًا جملة وتفصيلا وكذلك ترتيب السور. 

ومن الثابت تاريخيًا أن الهدف من الجمع الأول فى عهد أبى بكر الصديق هو الحفاظ على النص القرآنى من ضياع بعضه باستشهاد أكثر حفّاظه فى حروب الردة والفتوحات، ولكن الهدف من الجمع الثانى للقرآن هو توحيد المتداول من المصاحف قراءة وكتابة.

لقد كان السبب فى اختلاف القراءة هو تفرّق القراء فى الأمصار الإسلامية، فأهل الشام يقرؤون بقراءة أبىّ بن كعب وأهل الكوفة بقراءة عبد الله بن مسعود وأهل البصرة بقراءة أبى موسى الأشعرى وأهل دمشق بقراءة المقداد بن الأسود، فكان هذا الاختلاف مدعاة لفتح باب الفرقة والشقاق بين المسلمين فى قراءة المصحف، وكان كلّ فريق يظن أنه على الحق وانتهى الأمر بأن كفّر بعضهم بعضا، واجتمع أهل الشام بأهل العراق فى غزوة أرمينية وأذربيجان  وكان فيمن غزاها حذيفة بن اليمان رضى الله عنه ورأى اختلاف المسلمين فى أوجه القراءة وما تنطق به ألسنتهم من التكفير والتأثيم  ففزع إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان يدعوه إلى أن يدرك الأمة قبل أن يختلفوا فى القرآن، فكان الجمع الثانى للقرآن لهدف جمع الناس على ما تواتر من القراءات السبع، وأوكل أمير المؤمنين إلى اربعة من الصحابة مهمة جمع القرآن وهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن هشام (رضى الله عنهم) وأوصاهم بأنهم إن اختلفوا فى شئ من القرآن فليكتبوه بلغة قريش لأنه نزل بلغتهم أو بلهجتهم بمعنى أصح، وبعد انتهائهم من هذه المهمة طلب من حفصة بنت عمر المصحف الذى تمت كتابته فى الجمع الأول فكان التطابق بينهما كاملا لا يزيد أحدهما عن الآخر ولا ينقص عنه، الأمر الذى يؤكد صدق ودقة الجمعين، واستنسخ عثمان بن عفان من المصحف الإمام عدّة مصاحف ليجتمع عليه المسلمون ولا يكونوا متفرقين، ومن جهة أخرى أن يكون موافقا لما كان مكتوبا فى عهد الرسول عليه الصلاة والسلام 
وقد استمر العمل بهذا المصحف الشريف وتوحّدت به قراءة القرآن حتى بعد ظهور الطباعة فى العصر الحاضر...هنا كانت الكتابة فعلا توثيقيًا. 

من المعروف أن المصحف لم يكن منقوطا أو مشكولا، وذلك لإبقاء الكلمة محتملة لأن تقرأ بكل ما يمكن من وجوه القراءات فيها، إلا أن هناك من المؤرخين من يرى أن الإعجام كان معروفا قبل الإسلام ولكن تركوه عمدا فى المصاحف للسبب السابق ذكره، على أنه على المشهور أن إعجام المصاحف لم يحدث إلا فى عهد عبد الملك بن مروان بعد أن "كادت العجمة تمسّ اللغة" (أى فى الثلث الأخير من القرن الأول الهجرى) وبدأ اللبس والإشكال فى قراءة المصحف يلحّ بالناس، وأصبح من الصعب على كثير الاهتداء إلى التمييز بين حروف المصحف وكلماته وهى غير مميزة.

أما الشكل (أو التشكيل وبيان الحركات الإعرابية) فقد اجتمعت الروايات المختلفة أن أول من وضع الشكل هو "أبو الأسود الدُؤَلى" لأن المصاحف لم يكن فيها لا نقط ولا شكل، والسبب الأساسى فى إحداث النقط وضبط المصاحف هو فساد ألسنة العرب، ووقوع اللحن فى قراءة القرآن والخوف من تزايد ذلك مع استمرار الفتوحات وما قد يتبع ذلك من حدوث تغيير وتحريف فى النص القرآنى.

كان الإصلاح الأول الذى طرأ على الكتابة العربية فى المصاحف يتعلق بإعراب الكلمات وهو ما قام به أبو الأسود الدولى الذى كان من تلاميذ الإمام على كرم الله وجهه، وكان أبو الأسود مشهورا بالفصاحة وقال عن نفسه: «إنى لأجد للّحن غمزا كغمز اللحم»،  وأجمع المؤرخون واللغويون على أن أبا الأسود الدؤلى هو أول من وضع علم النحو،  فقال محمد بن سلام الجمحي: «أبو الأسود هو أول من وضع باب الفاعل والمفعول والمضاف، وحرف الرفع والنصب والجر والجزم، فأخذ ذلك عنه يحيى بن يَعْمَر».

إلا أن الروايات اختلفت فى سبب وضع أبى الأسود الدؤلى لهذا العلم على عدة أقوال، هى:
أن عليّا أمر أبا الأسود الدؤلى بوضع شىء فى النحو لمَّا سمع اللحن، فأراه أبو الأسود ما وضع، فقال على : ما أحسن هذا النحو الذى نحوت،  ومن هنا سُمِّى النحو نحوا. وقد سئل أبو الأسود عن من نهج له الطريق، فقال: «تلقذيته عن على بن أبى طالب». 

وقال أبو عبيدة : «أخذ أبو الأسود عن علىّ العربية، فسمع قارئا يقرأ» أَنَّ اللَّهَ بَرِىءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، فقال : ما ظننت أمر الناس قد صار إلى هذا، فقال لزياد الأمير : ابغنى كاتبا لَقِنًا، فأتى بمائة رجل فاختار منهم رجلا من قبيلة عبد القيس،  فقال له أبو الأسود : إذا رأيتنى قد فتحت فمى بالحرف فانقط نقطة أعلاه، وإذا رأيتنى قد ضممت فمى، فانقط نقطة بين يدى الحرف، وإن كسرت، فانقط نقطة تحت الحرف، فإذا أتبعت شيئا من ذلك غنّة فاجعل مكان النقطة نقطتين، وهكذا وضع أبو الأسود علامات شكل الحروف نحويًا.

وقال المبرد: حدّثنا المازنى قال : السبب الذى وضعت له أبواب النحو أن بنت أبى الأسود قالت له : ما أجْمَلُ السمَاءِ؟ فقال : نجُومُهَا، قالت : أنا لا أستفهِمُ يا أبتاه بل أتعجب، فقال : إذا أردتِ أن تتعجبى فافتحى فاكِ وقولى ما أجمَلَ السَمَاءَ ! فأخبر بذلك عليّا -رضى الله عنه- فأعطاه أصولا بنى منها، وعمل بعده عليها، وهو أول من نقط المصاحف، وأخذه عنه الخليل بن أحمد الفراهيدى" بعد سلسلة طويلة ومن بعده سيبويه. 

إذن فقد بدأ وضع علامات الإعراب بنقطة حمراء فوق الحرف علامة على الفتحة، ونقطة أسفل الحرف علامة على الكسرة ونقطة على يسار (أو أمام) الحرف علامة على الضمة ونقطتين للتنوين نصبا وجرا وضما بالأسلوب ذاته، وكانت تلك النقط توضع بصبغ أحمر مخالفة للون المداد الأسود الذى تكتب به كلمات النص القرآنى.

أما الإعجام (أو نقط الحروف) فإن «القلقشندى» يذهب بأنه من المستبعد أن تظل الحروف مع تشابهها خالية من النقط، ومع اختلاف الروايات بأن مصاحف الصحابة كانت خالية من النقط والشكل، إلا أنه من الجائز أن تكون بعض المصاحف معجمة الحروف حيث يخشى الالتباس. 

ومع اتساع الرقعة الإسلامية ودخول من ليسوا عربا فى الإسلام كان لا بد من الحفاظ على القرآن من تحريف أو تبديل معانيه، فقام الحجاج بن يوسف الثقفى فى خلافة عبد الملك بن مروان بتكليف نصر بن عاصم وهو من أهل المشرق ويحيى بن يعمر وهو من اهل المغرب لاتخاذ ما يحسم أخطاء اللبس فى الحروف، فكان أن استقر الرأى على نقط الحروف على النحو المعروف اليوم، فيما عدا حرفى الفاء والقاف الذين قرر عالم المشرق بأن تنقط الفاء نقطة واحدة فوقها والقاف بنقطتين، وقرر عالم المغرب أن تنقط الفاء بنقطة أسفلها والقاف بنقطة واحدة فوقـها، وكان هذا هو الإصلاح الثانى 

وفى خلافة عبد الملك بن مروان كان لا بد من تغيير نظام الشكل حتى اختلطت نقط الشكل مع نقط الإعجام رغم اختلاف لون الحبر، فقام الخليل بن أحمد الفراهيدى بإبدال نقط الشكل بحروف صغيرة: فجعل للفتحة ألفا قصيرة وللكسرة ياء صغيرة راجعة حذفت رأسها وبقيت مدّتها، فكانت كالفتحة وموقعها تحت الحرف وللشدة سنات الشين أخذا من كلمة «شديد» وللسكون رأس خاء من كلمة «خفيف»، ورأس عين للهمزة ورأس صاد للصلة وميم وجزء من المد لعلامة المد، وكان هذا هو الإصلاح الثالث فى الكتابة العربية.

ورغم هذا الإصلاح فقد ظلت المصاحف بعده تشكل حروفها على نظام أبى الأسود الدؤلى، أما نظام الخليل بن أحمد فقد دخل من خلال كتب الأدب واللغة أولا ثم بدأ يتداول تدريجيا فى المصاحف جنبا إلى جنب مع طريقة أبى الأسود الدؤلى حتى عمّ استخدام الحركات الإعرابية كما نعرفها اليوم.
وإلى هذه المرحلة مازلنا فى دائرة التوثيق..

كان ما عرف بالخط الكوفى هو الخط الذى كتبت به المصاحف فى القرون الأربعة الأولى للإسلام، ولا نكاد نجد مصحفًا كتب بغير هذا الخط فى تلك الآونة، ومن الخط الكوفى البسيط بدأت إرهاصات خروج المصحف من كونه توثيقا لآيات القرآن إلى ساحة الفن والإبداع، فظهر الخط الكوفى المائل والمشق والمورّق والمزهر والهندسى والمشرقى والمغربى والأندلسى، وكان مفضّلا أيضًا فى الكتابة على جدران المساجد وأبدع فيه الفنان المسلم بشكل غير مسبوق. 
وإبّان الدولة الأموية كان الأساس الأول لظهور الخطوط اللينة على يد قطبة المحرر الذى كان أول من أدخل التحسينات إلى الخط المزوّى، ولكن الخطوط المدوّرة أو اللينة لم تكن حينها مرحلة تطور عن الخط الكوفى المزوّى اليابس، ولكنها كانت اللبنة الأولى التمهيدية لظهور خطوط تختلف عن الخط الكوفى اليابس ومع ذلك فإنها تدين بإتقانها الخطى إلى الخط الكوفى

ففى أوائل القرن الرابع الهجرى حمل ابن مقلة مهمة ابتكـار خط جميل متناسب فى الوقت نفسه، وكان نظام القاعدة الخطية التى أبدعها تقوم على أساس النقطة ذات الشكل المعين المتساوى الأضلاع لتكون أساسا للقياس، وقد أعاد أيضا الحسابات الهندسية لنسب الحروف وأرسى أشكالها وحجمها باستخدام هذه النقطة.
أما الأساس الثانى لنظام ابن مقلة فقد كان الألف المعيارية، والأساس الثالث هو الدائرة المعيارية. وبهذا النظام الهندسى والحسابى المعقّد نجح ابن مقلة فى إعطاء فن الكتابة قواعد علمية محددة إلى حد كبير ينسب بموجبها كلّ حرف للوحدات المعيارية الثلاثة (النقطة والألف والدائرة) وبها عرف ابن مقلة كرائد من رواد تطبيق الخطوط الستة الأساسية تبعا لهذه النسب، وهى خطوط: النسخ والثلث والريحانى والمحقق والرقاع والتوقيع، وذلك رغم عدم وجود أى أثر مكتوب ثابت النسبة لابن مقلة.

وظهر ابن البواب بعد ابن مقلة، وكان له شهرة واسعة فى إتقان خط النسخ بوجه خاص، ويذكر أنه طوّر نسبة الحروف التى وضعها ابن مقلة إلى الخط المسمى «بالمنسوب الفائق» الذى ينتمى إليه الخطوط الستة سالفة الذكر.

ومن هنا ترسّخت قيمة التوثيق بفعل «الكتابة» وبزغ نجم «الجماليات» وفن الخط الذى انطلق من المصحف الشريف وآياته الكريمة، ولم يقتصر على الكتابة وحسب بل وجدت التكوينات الفنية طريقها فى صفحات المصحف فى رووس الآيات وعلامات الأخماس والأعشار والأحزاب والأجزاء، وأفردت صفحات كاملة فى أول المصحف وآخره لتكوينات فنية متكررة استخدم فيها ماء الذهب واللازورد والألوان المختلفة، وانطلق إبداع الفنان المسلم من فن الخط من ذلك الحين إلى فن الحروفية فى عصرنا الحاضر الذى طوّع الحرف العربى لمنطق جمالى خاص يتراوح بين الحفاظ على قوانين الحرف وتكوينه الجمالى وتشكيله فى عبارات أو تكوينات فنية، أو استلهام قيمة الحرف فى ذاته فى تعبير تجريدى يعكس رؤية ذاتية للفنان، أو التعبير عن قيمة أو مفهوم محدد فى إطار دمج الحروف أو الكلمات مع عناصر فنية أخرى بحيث يتزاوج الحرف مع المفردات التشكيلية فى لوحة متكاملة، وبذلك دخل الحرف العربى إلى أفق الفنون الجمالية بتعبير متفرّد عن روح الحضارة العربية الإسلامية بأبعادها الروحية والشكلية والوظيفية والجمالية

إن التناقل الشفهى لا يبقى إلا فى حدود ما تسمح به إمكانيات ذاكرة المتلقى أو المتلقّين، وتقوم الكتابة بمهمة سدّ ثغرات الذاكرة الطبيعية بحفظ الكلام بالتدوين الذى يقوم بدوره بإتمام دائرة الاتصال فى الزمان.

إن الكتابة كظاهرة تحتل المرتبة التالية مباشرة للاتصال الكلامى وهى توثيق له، وتظهر وتنتشر حين يتشكل مجتمع ما له قوانينه وتشريعاته التى ينشأ بموجبها شكل من المؤسسات التنظيمية التى تقوم بتنظيم العلاقات والمعاملات التى تربط أطراف ذلك المجتمع، وحين ترسخ قواعد هذا المجتمع، الذى تلعب فيه الكتابة دورا مهما للإعلام والاتصال، فإن ظاهرة الكتابة تتعدّى وظائفها الاتصالية والتوثيقية وتتطور لتشبع جانبا فنيا جماليا، وهو ما يتضح بجلاء فى المجتمع الإسلامى على وجه الخصوص، فكان إشباع الطاقة الفنية موجّها للكتابة وإنتاج خطوط مبتكرة وهو الفن الذى تميّز به العرب عن غيرهم من الأمم، وهو فن الخط. 

وكما أن المصحف –بكلماته وكتابته- هو الأساس والقاعدة التى انطلق منها بناء الحضارة الإسلامية بكل تجلّياتها الاجتماعية والحضارية. فقد كان أيضًا -مع اتسـاع رقعة الدولة الإسلامية- مصاحبا وملازما لهذا الانتشار شكلاً ومضمونًا، حتى وصلت حدود هذه الدولة إلى حدود الصين شرقًا وإلى الأندلس وحدود أوروبا غربًا.

كلمة أخيرة: قد تستطيع الآلة القيام بمهمة التوثيق بكفاءة ودقة، ولكن الفن والإبداع "إنسان"، ولابد أن يكون إنسانًا.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة