الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو
الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو


«فى جوّ من الندم الفكرى»

اعترافات كيليطو نبّاش التراث

أخبار الأدب

الثلاثاء، 20 أبريل 2021 - 11:39 ص

بقلم/ ممدوح‭ ‬فرّاج‭ ‬النابى

ينشغل الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو (1945، مواليد الرباط) فى معظم كتاباته بعنصرين أساسييْن متعلقيْن بعملية الإبداع الأوّل القراءة، والثانى الكتابة، ويضع دائمًا بين العنصرين القارئ الذى هو مقصده الحقيقى. الغريب أن هذا القارئ لا يمكن بأى حال من الأحوال، أن يتغافل كتابات كيليطو السابقة وهو يقرأ جديده «فى جوّ من الندم الفكرى» (دار المتوسط / 2020)، لأنه ببساطة سيكتشف (أى القارئ) أن نصوصه متراسلة، لا تقف عند عنوانها الخارجى، أو حتى عند متنها، وإنما هى تتداخل مع النصوص السّابقة وتستحضرها بطريقة أو بأخرى كعناوين أو موضوعات أو حتى كتابة على كتابة، إمّا كتوضيح أو استدراك لخطأ، أو حتى استئناس بما كتبه فيها، فثمة مراوحة بين هذه النصوص جميعها، وخيط جامع يربط بينها، ليس فقط فى ورود اسم كيليطو على أغلفتها، أو حتى فى المنهج الذى لا يحيد عنه، وإنما فى سريان الأفكار والموضوعات وتردّد الأسماء فى جميع الكتب، لكن برؤية جديدة تتناسب مع الاستدعاء.

الجاحظ‭ ‬الأخير

بالنسبة‭ ‬للعنصر‭ ‬الأول،‭ ‬فالقراءة‭ ‬عنده‭ ‬لها‭ ‬مفهوم‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬المتعارف‭ ‬عليه،‭ ‬فهى‭ ‬تتصل‭ ‬بمفهوم‭ ‬رولان‭ ‬بارت‭ (‬1915‭ - ‬1980‭) ‬عن‭ ‬الّلذة‭ ‬والمتعة،‭  ‬أو‭ ‬ما‭ ‬دعاه‭ ‬نيتشه‭ (‬1844‭ - ‬1900‭) ‬بحبور‭ ‬‮«‬فى‭ ‬أحسن‭ ‬الأحوال‭ ‬نزهة‭ ‬أشخاص‮»‬‭. ‬فالقراءة‭ ‬لُعبة‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬متاهات‭ ‬القول؛‭ ‬غايتها‭ ‬البحث‭ ‬والاكتشاف‭(‬فنحن‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬أبا‭ ‬العلاء‭ ‬المعرى‭ ‬رهين‭ ‬المحبسين‭ ‬لكن‭ ‬كيليطو‭ ‬يضيف‭ ‬محبسا‭ ‬ثالثًا،‭ ‬وهو‭ ‬الأدب‭: ‬أى‭ ‬الشعر‭ ‬وما‭ ‬يرتبط‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أغراض‭ ‬وأساليب‭ ‬وعلوم،‭ ‬فقد‭ ‬كرّس‭ ‬حياته‭ ‬للتبحر‭ ‬فيه‭)‬،‭ ‬وأيضًا‭ ‬الغوص‭ ‬واستجلاء‭ ‬الدُّر،‭ ‬وكأنما‭ ‬يستجيب‭ ‬لقول‭ ‬الشّاعر‭: ‬‮«‬الدُّرّة‭ ‬فى‭ ‬قعر‭ ‬بحرٍ‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ /‬‭ ‬من‭ ‬تكلُّفِ‭ ‬الغوصِ‭ ‬عليه‮»‬،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يقرأ‭ ‬قراءة‭ ‬عابرة‭ ‬سريعة،‭ ‬وإنما‭ ‬قراءة‭ ‬متأنيّة‭ ‬فاحصة‭.‬

وفى‭ ‬فعله‭ ‬القرائى‭ ‬يتوازى‭ ‬مع‭ ‬القارئ‭ ‬الفذّ‭ (‬Super reder‭) ‬والذى‭ ‬–‭ ‬وفقًا‭ ‬لمايكل‭ ‬ريفاتير‭ ‬–‭ ‬يبحث‭ ‬‮«‬فى‭ ‬تحليله‭ ‬لنص‭ ‬ما‭ ‬عن‭ ‬المعانى‭ ‬التى‭ ‬تتجاوز‭ ‬المعانى‭ ‬السطحية،‭ ‬وتكمُنُ‭ ‬تحتها‮»‬،‭ ‬فكيليطو‭ ‬–‭ ‬دومًا‭ - ‬يتوقف‭ ‬عند‭ ‬أشياء‭ ‬صغيرة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬لها‭ ‬دلالاتٍ‭ ‬كبيرةً‭ ‬فى‭ ‬سياقها،‭ ‬أو‭ ‬بتوازيها‭ ‬مع‭ ‬سياقات‭ ‬أخرى‭ (‬لاحظ‭ ‬دلالة‭ ‬الحمّال‭ ‬فى‭ ‬الليالى‭ ‬وحمل‭ ‬الحقيبة‭ ‬عند‭ ‬إداورد‭ ‬سعيد،‭ ‬وبالمثل‭: ‬الكرسى‭ ‬والطست،‭ ‬العكاز،‭ ‬إلخ‭...)‬،‭ ‬ساعيًّا‭ ‬لاكتشاف‭ (‬أو‭ ‬قل‭ ‬امتلاك‭) ‬الأسرار،‭ ‬والخفايا‭ ‬فى‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبيّة‭. ‬هكذا‭ ‬يكون‭ ‬كيليطو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬خالد‭ ‬بلقاسم‭ - ‬فى‭ ‬القراءة‭ ‬والتأويل‭ ‬–‭ ‬‮«‬اختار‭ ‬أن‭ ‬يبنى‭ ‬تصوّرًا‭ ‬للقراءة‭ ‬إنجازًا‭ ‬لا‭ ‬تنظيرًا‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬تصوّر‭ ‬‮«‬راهن‭ ‬أن‭ ‬ينبثق‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬الفعل‭ ‬القرائى‭ ‬فى‭ ‬تماسه‭ ‬مع‭ ‬المقروء،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬برُود‭ ‬المفهومات،‭ ‬وطابعها‭ ‬التجريدى‮»‬‭.‬

من‭ ‬هذه‭ ‬القراءات،‭ ‬وما‭ ‬ينتج‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬اكتشافات،‭ ‬يتحقّق‭ ‬العنصر‭ ‬الثانى،‭ ‬الكتابة،‭ ‬وهى‭ - ‬الأخرى‭ - ‬تتصل‭ ‬بميراث‭ ‬القدماء‭ (‬ألّف‭ ‬كتابًا‭ ‬يبحث‭ ‬مفهوم‭ ‬المؤلف‭ ‬فى‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬الكتابة‭ ‬والتناسخ،‭ ‬مفهوم‭ ‬المؤلف‭ ‬فى‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬1985‭) ‬أو‭ ‬الكتابة‭ ‬المختلطة،‭ ‬فهى‭ ‬تأخذ‭ ‬شكلاً‭ ‬غير‭ ‬مألوف‭ ‬لا‭ ‬يشبهه‭ ‬فيه‭ ‬أحد،‭ ‬بل‭ ‬هى‭ ‬فى‭ ‬خيوطها‭ ‬العامة‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬الجاحظ‭ ‬وأسلوبه‭ (‬فن‭ ‬الاستطراد‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬إنها‭ ‬كتابة‭ ‬دائرية‭ ‬فدائمًا‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬سابقًا،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬التكرار‭ ‬وإنما‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المراجعة‭ ‬والإضافة‭ ‬والاستطراد‭.‬

كما‭ ‬تقترب‭ ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬أشكالها،‭ ‬مما‭ ‬وصفه‭ ‬جاك‭ ‬دريدا‭ (‬1930‭ - ‬2004‭) ‬بـ«تقنيات‭ ‬التفكيك‭ ‬الكتابية‮»‬،‭ ‬فبكتابته‭ ‬يتجاوز‭ ‬زمنيتها‭ ‬وسياقها‭ ‬إلى‭ ‬أزمنة‭ ‬مختلفة‭ ‬وسياقات‭ ‬مُتعدّدة،‭ ‬فتنتج‭ ‬عنها‭ ‬نصوص‭ ‬جديدة‭ ‬تماست‭ ‬أو‭ ‬تشابكت‭ ‬بصلة‭ ‬قريبة‭ (‬أو‭ ‬بصلة‭ ‬بعيدة‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يجدها‭) ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬القطوف،‭ ‬وهنا‭ ‬يظهر‭ ‬دور‭ ‬القراءة‭ ‬الواعية‭ ‬التى‭ ‬قامت‭ ‬بعمليتين‭ ‬متلازمتين،‭ ‬الأولى‭ ‬الكشف‭ ‬والثانية‭ ‬الربط‭ ‬واستخراج‭ ‬الدلالات‭ ‬الجديدة،‭ ‬وهى‭ ‬صفة‭ ‬تقترب‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬صنعة‭ ‬الجوهرجى‭ ‬الذى‭ ‬يقوم‭ ‬بإعادة‭ ‬سبك‭ ‬وتشكيل‭ ‬مادته‭ ‬القديمة،‭ ‬ثمّ‭ ‬عرضها‭ ‬فى‭ ‬حلة‭ ‬جديدة‭ ‬زادتها‭ ‬رونقًا‭ ‬وقيمة‭.‬

فى‭ ‬أحد‭ ‬نصوص‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬حبر‭ ‬خفى‮»‬‭ (‬2018‭) ‬وصف‭ ‬ابن‭ ‬العميد‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬الجاحظ‭ ‬الأخير‮»‬،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬عاب‭ ‬نقاد‭ ‬ابن‭ ‬العميد‭  ‬تماهيه‭ ‬مع‭ ‬الجاحظ؛‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬صار‭ ‬الجاحظ،‭ ‬ولا‭ ‬احتفظ‭ ‬بصوته،‭ ‬فالحقيقة‭ ‬أن‭ ‬كيليطو‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ينطبق‭ ‬عليه‭ ‬هذا‭ ‬الوصف،‭ ‬فالجاحط‭ ‬هو‭ ‬أستاذه‭ ‬بامتياز؛‭ ‬أستاذه‭ ‬فى‭ ‬المنهج‭ ‬فقد‭ ‬تعلّم‭ ‬منه‭ ‬الاستطراد‭ ‬فى‭ ‬الكتابة،‭ ‬أى‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الانتقال‭ ‬المفاجئ‭ ‬من‭ ‬موضوع‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬إلى‭ ‬نثر‭ ‬،‭ ‬ومن‭ ‬موعظة‭ ‬إلى‭ ‬نادرة،‭ ‬ومن‭ ‬مَثَل‭ ‬إلى‭ ‬خطبةٍ،‭ ‬من‭ ‬جِدّ‭ ‬إلى‭ ‬هزلٍ‮»‬‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسميها‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الكتابة‭ ‬بالقفز‭ ‬والوثب‮»‬‭ ‬كما‭ ‬هى‭ ‬عند‭ ‬الفرنسى‭ ‬مُونتينى،‭ ‬الفارق‭ ‬أن‭ ‬كيليطو‭ ‬لم‭ ‬يفعل‭ ‬ما‭ ‬فعل‭ ‬ابن‭ ‬العميد‭ ‬بأن‭ ‬تماهى‭ ‬فى‭ ‬جلباب‭ ‬الجاحظ،‭ ‬بل‭ ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬صوته‭ ‬الخاص‭. ‬فكيليطو‭ ‬كما‭ ‬يعترف‭ ‬بأن‭ ‬تجربته‭ ‬كناقد‭ ‬وككاتب‭ - ‬على‭ ‬غير‭ ‬الشائع‭ ‬–‭ ‬‮«‬احتفظ‭ [‬فيها‭] ‬بنفس‭ ‬الصوت‭ ‬والإيقاع‭ ‬وبالنغمة‭ ‬ذاتها‮»‬،‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬على‭ ‬‮«‬الناقد‭ ‬أو‭ ‬الباحث‭ [‬أن‭] ‬يتحدث‭ ‬باسمه‭ ‬الشخصى،‭ ‬ويتحمل‭ ‬عبء‭ ‬ما‭ ‬يقول‭ ‬مباشرة‭ ‬وبالكامل‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬صاحب‭ ‬الكتابة‭ ‬الأدبية،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يخاطب‭ ‬القارئ‭ ‬بصفة‭ ‬مباشرة،‭ ‬وإنما‭ ‬يتوارى‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬رواة‭ ‬وشخوص‭ ‬لهم‭ ‬أسماء‭ ‬وسير،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬شبية‭ ‬بما‭ ‬يحدث‭ ‬فى‭ ‬الأحلام‮»‬‭.‬

الحاصل‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬قراءات‭ ‬كيليطو‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المنهج‭. ‬إلا‭ ‬أنّ‭ ‬ثمة‭ ‬فارقًا‭ ‬مهمًّا،‭ ‬يتمثّل‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬عودة‭ ‬كيليطو‭ ‬لكتاباته‭ ‬السابقة‭ ‬هى‭ ‬عودة‭ ‬متأمّل‭ ‬بعين‭ ‬جديدة؛‭ ‬عين‭ ‬ناقدة‭ ‬فاحصة،‭ ‬وأيضًا‭ ‬مُستنبِطة‭ ‬للموازنات‭ ‬والمواقف،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ففيها‭ ‬جديد،‭ ‬حيث‭ ‬يتبعها‭ ‬زيادات‭ ‬واستطرادات،‭ ‬وتنقيح‭ ‬وأيضًا‭ ‬مراجعات‭ ‬وإيضاحات‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬يفعل‭ ‬فى‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬دلالة‭ ‬عنوان‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬أنبئونى‭ ‬بالرؤيا‮»‬‭ (‬2001‭) ‬فى‭ ‬الفصل‭ ‬المعنوّن‭ ‬بـ«على‭ ‬هامش‭ ‬الرؤيا‮»‬‭ ‬فالكاتب‭ ‬يكشف‭ ‬لقرائه‭ ‬–‭ ‬وهو‭ ‬فى‭ ‬الأصل‭ ‬هذا‭ ‬الفصل‭ ‬ملاحظات‭ ‬قدمها‭ ‬لطلبة‭ ‬شهادة‭ ‬التبريز‭ ‬حول‭ ‬روايته‭ ‬–ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يسبب‭ ‬إبهامًا‭ ‬فى‭ ‬النص‭.‬

ازدواجية‭ ‬اللّغة

واحدة‭ ‬من‭ ‬الإشكاليات‭ ‬التى‭ ‬أرّقت‭ ‬كيليطو‭ (‬فى‭ ‬معظم‭ ‬كتاباته‭) ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يهتدى‭ ‬إلى‭ ‬جواب‭ ‬يروى‭ ‬ظمأه؛‭ ‬مسألة‭ ‬ازدواجية‭ ‬اللغة،‭ ‬فتساءل‭ ‬صراحة‭: ‬‮«‬هل‭ ‬يستطيع‭ ‬المرء‭ ‬امتلاك‭ ‬لغتين؟‭ ‬وهل‭ ‬بإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يبرع‭ ‬فيهما‭ ‬معًا؟‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬سؤال‭: ‬‮«‬بأى‭ ‬لغة‭ ‬سنموت؟‮»‬‭ ‬الغريب‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الإشكالية‭ ‬التى‭ ‬خصّص‭ ‬لها‭ - ‬من‭ ‬قبل‭ - ‬كتابًا‭ ‬بعنوان‭ ‬أشبه‭ ‬بجواب‭ ‬جازم،‭ ‬يخفف‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬القلق‭ ‬التى‭ ‬تساور‭ ‬صاحب‭ ‬اللغة،‭ ‬ومخاوفه‭ ‬عند‭ ‬انتقاله‭ ‬للغة‭ ‬الآخر،‭ ‬هكذا‭: ‬‮«‬لن‭ ‬تتكلم‭ ‬لغتى‮»‬‭ (‬2002‭). ‬وأحيانًا‭ ‬تكون‭ ‬هاجسًا‭ ‬لصاحب‭ ‬اللُّغة‭ ‬الأحادية،‭ ‬فجاك‭ ‬دريدا،‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬أحادى‭ ‬اللغة،‭ ‬نعم‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أمتلك‭ ‬إلا‭ ‬لغة‭ ‬واحدة،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فهى‭ ‬ليست‭ ‬لغتى‮»‬‭ (‬أحادية‭ ‬الآخر‭ ‬اللغوية،‭ ‬ص‭ ‬11‭)‬،‭ ‬ازدواجيته‭ ‬ناتجة‭ ‬لأن‭ ‬لديه‭ ‬لُغة‭ ‬يُمارسها،‭ ‬ويعتقد‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬لغته،‭ ‬فى‭ ‬المقابل‭ ‬ثمة‭ ‬لغة‭ ‬يُحبّها‭ ‬ولا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يُمارسها‭.‬

المعروف‭ ‬أنّ‭ ‬علاقة‭ ‬اللغة‭ ‬بالهُوية‭ ‬متأصّلة‭ ‬ومتوطدة‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬المستويات،‭ ‬فكما‭ ‬يقول‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألمانى‭ ‬مارتن‭ ‬هايدجر‭(‬1889‭ - ‬1976‭) ‬‮«‬إن‭ ‬لغتى‭ ‬هى‭ ‬مسكنى،‭ ‬هى‭ ‬موطنى‭ ‬ومستقرى،‭ ‬هى‭ ‬حدود‭ ‬عالمى‭ ‬الحميم‭ ‬ومعالمه‭ ‬وتضاريسه،‭ ‬ومن‭ ‬نوافذها‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬عيونها‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬بقية‭ ‬أرجاء‭ ‬الكون‭ ‬الواسع‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬يربط‭ ‬كيليطو‭ ‬بين‭ ‬اللّغة‭ ‬والهُوية‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة،‭ ‬بما‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الترجمة‭ ‬التى‭ ‬تبرز‭ ‬فيها‭ ‬العلاقة‭ ‬الصّراعية‭ / ‬المراوحة‭ ‬بين‭ ‬لغة‭ ‬المنشأ‭ (‬لغة‭ ‬الأم‭) ‬ولغة‭ ‬النص‭ ‬المترجم‭ (‬لغة‭ ‬العمل‭)‬،‭ ‬فالمترجم‭ ‬وهو‭ ‬يترجم‭ ‬لغة‭ ‬الآخر،‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتماهى‭ ‬فى‭ ‬الآخر‭ ‬الذى‭ ‬ينقل‭ ‬عنه،‭ ‬بالتجرّد‭ ‬من‭ ‬هويته،‭ ‬ويضرب‭ ‬مثالاً‭ ‬بمصطفى‭ ‬لطفى‭ ‬المنفلوطى‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يَعرِف‭ ‬الفرنسيّة،‭ ‬وينقل‭ ‬عنها‭ ‬بواسطة‭ ‬وسطاء،‭ ‬فكل‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬صفحاته‭ (‬أى‭ ‬ترجماته‭) ‬تهمس‭ ‬بسؤال‭ ‬واحد‭: ‬كيف‭ ‬أكون‭ ‬أوروبيًّا؟‭ ‬فى‭ ‬المقابل‭ ‬أنّ‭ ‬الصّورة‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬يحرص‭ ‬الناشرون‭ ‬على‭ ‬وضعها‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬غلاف‭ ‬كتبه،بلباسه‭ ‬الأزهرى‭ ‬التقليدى‭ (‬عمامة‭ ‬وعباءة‭)‬،‭ ‬كانت‭ ‬نقيضة‭ ‬لرغبته‭ ‬الداخليّة‭ / ‬الباطنيّة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عزّزها‭ ‬ولعه‭ ‬بارتداء‭ ‬الملابس‭ ‬الداخلية‭ ‬الأوروبية،‭ ‬فهيئته‭ ‬تعكس‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ضدّ‭ ‬رغبته‭.‬

وبالمثل‭ ‬فعل‭ ‬بورخيس‭ (‬1899-‭ ‬1986‭) ‬وهو‭ ‬يطعّم‭ ‬كتاباته‭ ‬بعبارات‭ ‬عربيّة‭ ‬وأسماء‭ ‬عربيّة‭ ‬فى‭ ‬رسالة‭ ‬واضحة‭ ‬أنه‭ ‬اندمج‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬التى‭ ‬سعى‭ ‬لتعلّمها‭ ‬فى‭ ‬آواخر‭ ‬حياته،‭ ‬وقبلها‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تساءل‭ ‬–‭ ‬فى‭ ‬قصيدة‭ ‬له‭ ‬–‭ ‬وهو‭ ‬الذى‭ ‬يجيد‭ ‬أربع‭ ‬لغات‭: ‬‮«‬بأية‭ ‬لغة‭ ‬سيكون‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أموت‮»‬‭ (‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬كان‭ ‬موضوع‭ ‬مقالة‭ ‬عن‭ ‬بورخيس‭ ‬الذى‭ ‬فتن‭ ‬بالعربية،‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬من‭ ‬نبحث‭ ‬عنه‭ ‬بعيدًا،‭ ‬يقطن‭ ‬قُربنا‮»‬‭ (‬2019‭))‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬معناه‭ ‬بأى‭ ‬لغة‭ ‬سيفاجئنى‭ ‬الموت،‭ ‬لم‭ ‬يتعجّل‭ ‬النهاية،‭ ‬وإنما‭ ‬تساءل‭ ‬مُخمِّنًا‭: ‬‮«‬هل‭ ‬ستحضرنى‭ ‬إذ‭ ‬ذاك‭ ‬الإسبانية‭ ‬أم‭ ‬الإنجليزية؟»ـ‭ ‬المفاجأة‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬تعلّم‭ ‬العربية‭ ‬فى‭ ‬آخر‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬وتوفى‭. ‬ها‭ ‬هو‭ ‬الموت‭ ‬عاجله‭ ‬وهو‭ ‬يعرف‭ ‬العربية‭. ‬أى‭ ‬قدر‭ ‬هذا؟

حالة‭ ‬التشبُّث‭ ‬بالآخر‭ ‬يحيلها‭ ‬كيليطو‭ ‬إلى‭ ‬نفسه،‭ ‬فطوال‭ ‬40‭ ‬سنة‭ ‬درّسَ‭ ‬فيها‭ ‬الأدب‭ ‬الفرنسيّ،‭ ‬لم‭ ‬ينطق‭ ‬خلالها‭ ‬بكلمة‭ ‬عربيّة‭ ‬أو‭ ‬اسم‭ ‬مؤلِّف‭ ‬عربيّ‭ ‬أمام‭ ‬الطلاب‭ ‬خارج‭ ‬الدرس،‭ ‬أليس‭ ‬هذا‭ ‬عجيبًا‭ ‬وهو‭ ‬القائل‭: ‬‮«‬لا‭ ‬نتحرّر‭ ‬من‭ ‬لغتنا‭ ‬التى‭ ‬تربينا‭ ‬عليها‭ ‬فى‭ ‬أسرتنا،‭ ‬والتى‭ ‬اعتدناها‭ ‬وألِفناها‭. ‬فهى‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬كمون،‭ ‬فإنها‭ ‬تظل‭ ‬متربصة‭ ‬فى‭ ‬المناسبات‭ ‬جمعيها‮»‬‭ (‬أتكلم‭ ‬جميع‭ ‬اللغات‭: ‬ص29‭)‬،‭ ‬واللافت‭ ‬أنه‭ ‬واصل‭ ‬الحوارات‭ ‬مع‭ ‬طلابه‭ ‬بالفرنسيّة‭ ‬خارج‭ ‬الدرس،‭ ‬وفى‭ ‬المقابل‭ ‬لم‭ ‬يتحدث‭ ‬الطلاب‭ ‬أمامه‭ ‬بالدّارِجة‭ ‬المغربيّة،‭ ‬وهو‭ ‬أشبه‭ ‬بتواطؤ‭ ‬أو‭ ‬اتفاق‭ ‬ضمنى‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ (‬دون‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬أسباب‭ ‬هذا‭ ‬التواطؤ‭). ‬

وقد‭ ‬ظلّ‭ ‬كيليطو‭ ‬على‭ ‬حالة‭ ‬اللّسان‭ ‬الواحد‭ ‬وهو‭ ‬يُدرّس‭ ‬للطلاب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬اعتبره‭ ‬اختيارًا‭ ‬تربويًّا،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬يرى‭ ‬مزدوج‭ ‬اللغة‭ ‬‮«‬دائم‭ ‬الحركة،‭ ‬دائم‭ ‬الالتفات‮»‬‭ (‬لن‭ ‬تتكلم‭ ‬لغتي‭: ‬ص28‭)‬،‭ ‬وبما‭ ‬أنه‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬جهتين،‭ ‬‮«‬فإن‭ ‬له‭ ‬وجهين‮»‬‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أكّده‭ ‬بما‭ ‬نقله‭ ‬عن‭ ‬الجاحظ‭ ‬فى‭ ‬‮«‬البيان‭ ‬والتبين‮»‬‭ ‬عن‭ ‬موسى‭ ‬بين‭ ‬سيار‭ ‬الأسوارى‭ ‬‮«‬الذى‭ ‬كانت‭ ‬فصاحته‭ ‬بالفارسية‭ ‬فى‭ ‬وزن‭ ‬فصاحته‭ ‬بالعربية،‭ ‬وكان‭ ‬يجلس‭ ‬فى‭ ‬مجلسه‭ ‬المشهور‭ ‬به،‭ ‬فتقعد‭ ‬العرب‭ ‬عن‭ ‬يمينه‭ ‬والفرس‭ ‬عن‭ ‬يساره،‭ ‬فيقرأ‭ ‬الآية‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬الله،‭ ‬ويفسّرها‭ ‬للعرب‭ ‬بالعربية،‭ ‬ثمّ‭ ‬يحوّل‭ ‬وجهه‭ ‬إلى‭ ‬الفرس‭ ‬فيفسّرها‭ ‬لهم‭ ‬بالفارسيّة،‭ ‬فلا‭ ‬يدرى‭ ‬بأى‭ ‬لسان‭ ‬هو‭ ‬أبين‮»‬‭ (‬البيان‭ ‬والتبين،‭ ‬ج1،‭ ‬ص‭ ‬367‭). ‬يا‭ ‬تُرى‭ ‬ما‭ ‬الذى‭ ‬جعل‭ ‬كيليطو‭ ‬لا‭ ‬يُغيّر‭ ‬وجهه‭ ‬للطلاب‭ (‬وظل‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬واحد‭ / ‬ثابت‭) ‬وكأنه‭ ‬أحادى‭ ‬اللغة،‭ ‬وهم‭ ‬يتحدثون‭ ‬إليه؟‭ ‬ربما‭ ‬كما‭ ‬ذكر‭ ‬–‭ ‬فى‭ ‬أتكلّم‭ ‬جميع‭ ‬اللغات‭  ‬ولكن‭ ‬بالعربية‭ (‬2013‭) ‬–‭ ‬لأن‭ ‬اختيار‭ ‬الكاتب‭ ‬أَخْذ‭ ‬مسافة‭ ‬عن‭ ‬اللغة‭ ‬الأم،‭ ‬لو‭ ‬توفرت‭ ‬له‭ ‬اللغة‭ ‬البعيدة‭ / ‬الغريبة‭ (‬الأجنبية‭) ‬كى‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬ذاته‭. ‬فكما‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬الكتابة‭ ‬تجاوز‭ ‬للذات‮»‬‭ ‬وبالمثل‭  ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬–‭ ‬فى‭ ‬حالته‭ - ‬‮«‬التحدُّث‭ ‬تجاوز‭ ‬للذات‮»‬‭.‬

اللسان‭ ‬المشقوق

صراعيّة‭ ‬الُّلغة‭ ‬وأيُّهما‭ ‬أكثر‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬الهُوية‭ ‬ومرادفاتها‭ (‬الانتماء‭ ‬والأصالة،‭ ‬الوطن،‭ ‬المواطنة‭) ‬هى‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬معضلات‭ ‬كثيرة‭ ‬ناقشها‭ ‬كيليطو‭ ‬فى‭ ‬كتاباته‭ ‬المتعدِّدة‭ (‬لسان‭ ‬آدم،‭ ‬لن‭ ‬تتكلم‭ ‬لغتى،‭ ‬أتكلم‭ ‬جميع‭ ‬اللغات،‭ ‬لكن‭ ‬بالعربية،‭ ‬وفى‭ ‬مقالات‭ ‬داخل‭ ‬كتب‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬بورخيس،‭ ‬وعن‭ ‬محاضراته‭ ‬التى‭ ‬يطلب‭ ‬فيها‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬العربى،‭ ‬فيشعر‭ ‬باللسان‭ ‬المشقوق،‭ ‬وغيرها‭)‬،‭ ‬فمن‭ ‬يتكلّم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬فى‭ ‬صراع‭ ‬مع‭ ‬أطراف‭ ‬عديدة؛‭ ‬الآخر‭ (‬الذى‭ ‬اكتسب‭ ‬لغته‭)‬،‭ ‬والمنتمى‭ (‬ابن‭ ‬اللغة‭)‬،‭ ‬والمنسلخ‭ (‬ابن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬إلا‭ ‬إنّه‭ ‬انسلخ‭ ‬عنها‭ ‬لصالح‭ ‬لغة‭ ‬العمل‭)‬،‭ ‬والمنتسب‭ ‬لها‭ ‬بالعمل‭ (‬الذى‭ ‬يعرف‭ ‬العربية‭ ‬كلغة‭ ‬عمل‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬منتمى‭ ‬للغته‭ ‬الأجنبية‭).‬

فيفاجأ‭ ‬أن‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ (‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬هويته‭) ‬لا‭ ‬يتقبّل‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬بلغته‭ ‬الأصل‭ (‬الأم‭)‬،‭ ‬وكأنه‭ ‬يصرخ‭ ‬فيه‭ ‬بالمقابل‭: ‬‮«‬لن‭ ‬تتكلم‭ ‬لغتي‭!‬‮»‬‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬بلغته،‭ ‬أو‭ ‬يتحدث‭ ‬بها،‭ ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬الرفض‭ ‬المبطّن‭ ‬لانصهاره‭ ‬فى‭ ‬هويته،‭ ‬فاللغة‭ ‬هوية،‭ ‬ووطن،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسره‭ - ‬بصورة‭ ‬رائعة‭ - ‬غضب‭ ‬السيد‭ ‬‮«‬صايطو‮»‬‭ ‬رئيس‭ (‬أميلي‭) ‬بطلة‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬ذهول‭ ‬ورعدة‭ ‬‮«‬‭ (‬2017‭) ‬لأميلى‭ ‬نوتومب،‭ ‬لأن‭ ‬ساعية‭ ‬الشاى‭ ‬الجليل،‭ ‬وهى‭ ‬تؤدى‭ ‬عملها‭ ‬كانت‭ ‬تتحدث‭ ‬بلغة‭ ‬يابانية‭ ‬لا‭ ‬تقلُّ‭ ‬فصاحة‭ ‬عن‭ ‬لغة‭ ‬أهل‭ ‬البلد،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أغضب‭ ‬كل‭ ‬رؤوسائها‭ ‬بالتناوب،‭ ‬وقد‭ ‬اعتبرها‭ ‬الرئيس‭ (‬صايطو‭) ‬جريرة‭ ‬كبيرة‭ ‬ارتكبتها،‭ ‬خدشت‭ ‬بها‭ ‬الهُوية‭ / ‬الوطن،‭ ‬فكيف‭ ‬لساعية‭ / ‬غريبة‭ (‬بلجيكية‭ ‬لسانها‭ ‬الأم‭ ‬ليس‭ ‬اليابانية‭) ‬أن‭ ‬تتساوى‭ ‬مع‭ ‬أهل‭ ‬البلد،‭ ‬بإلغاء‭ ‬الفوارق‭ ‬بالتحدُّث‭ ‬بذات‭ ‬لغة‭ ‬المتحدثين‭ ‬الأصليين،‭ ‬وكأنها‭ ‬لغتها‭ ‬الأم‭: ‬فكما‭ ‬ذكر‭ ‬لها‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬خلقتى‭ ‬جوًّا‭ ‬مقيتًا‭ ‬هذا‭ ‬الصباح‭ (‬وهى‭ ‬تحيى‭ ‬الضيوف‭ ‬أثناء‭ ‬تقديم‭ ‬القهوة‭ ‬لهم‭): ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬لشركائنا‭ ‬أن‭ ‬يشعروا‭ ‬بالثقة‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬بيضاء‭ ‬تفهم‭ ‬لغتهم؟‭ ‬من‭ ‬الآن‭ ‬فصاعدًا‭ ‬لن‭ ‬تتكلمى‭ ‬اليابانية‮»‬‭ [‬رعدة‭ ‬وذهول‭: ‬ترجمة‭ ‬أبو‭ ‬بكر‭ ‬العيادى،‭ ‬مسكيليانى‭ ‬للنشر،‭ ‬ص‭ ‬16‭].‬

دلالة‭ ‬جملة‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تتكلم‭ ‬لغتى‮»‬‭ ‬تتساوى‭ ‬مع‭ ‬دلالة‭ ‬السؤال‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يلحُّ‭ ‬به‭ ‬القراء‭ ‬على‭ ‬الكاتب‭ ‬محمد‭ ‬ديب‭: ‬لماذا‭ ‬تكتب‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسية؟‭ (‬فى‭ ‬سياق‭ ‬كتاب‭ ‬أتكلم‭ ‬جميع‭ ‬اللغات‭ ‬ولكن‭ ‬بالعربية،‭ ‬قدم‭ ‬كيليطو‭ ‬إجابات‭ ‬متعددة،‭ ‬أشبه‭ ‬بتبريرات‭ ‬لهذا‭ ‬السؤال‭: ‬منها‭ ‬يمكن‭ ‬للمسؤول‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬للسائل‭: ‬بسبب‭ ‬فعل‭ ‬التاريخ‭ ‬أو‭ ‬التكوين،‭ ‬ومن‭ ‬الممكن‭ ‬لأنه‭ ‬يحس‭ ‬بأنه‭ ‬يتمتع‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬فى‭ ‬الفرنسية،‭ ‬أو‭ ‬اللذة‭ ‬التى‭ ‬تقدمها‭ ‬اللغة،‭ ‬أو‭ ‬لأنه‭ ‬عاجز‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬بغيرها،‭ ‬لكنه‭ ‬لن‭ ‬يقول‭ ‬أبدًا‭ ‬إنها‭ ‬تحقق‭ ‬له‭ ‬انتشارًا‭ ‬مضاعفًا‭ ‬بسبب‭ ‬اللسان‭ ‬المفلوق‭ ‬أو‭ ‬أصحاب‭ ‬اللغة‭ ‬المزدوجة‭) ‬سؤال‭ ‬يحمل‭ ‬رفضًا‭ ‬لهذا‭ ‬الانصهار‭ ‬والانسلاخ‭ ‬عن‭ ‬الأصل،‭ ‬مثلما‭ ‬يكون‭ ‬شعورنًا‭ ‬الداخلى‭ ‬غير‭ ‬مرضى‭ ‬لأن‭ ‬يكتب‭ ‬آخر‭ / ‬أجنبى‭ ‬بلغتنا‭. ‬

فالأسلوب‭ ‬فى‭ ‬الحالتين‭ ‬يصير‭ ‬مُستعارًا،‭ ‬لا‭ ‬يُعبّر‭ ‬عن‭ ‬هويته‭ ‬الحقيقية‭ (‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعيدنا‭ ‬لحالة‭ ‬المنفلوطى‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬سطر‭ ‬يُعلن‭ ‬أنه‭ ‬أوروبيًّا‭) ‬كما‭  ‬تفتقد‭ ‬الكتابة‭ ‬خصوصيتها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬لفت‭ ‬انتباهه‭ ‬صديق‭ ‬فرنسى‭ ‬عندما‭ ‬قرأ‭ ‬مخطوط‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬بحث‮»‬‭ ‬فالقصص‭ ‬الأربعة‭ ‬التى‭ ‬يتكوّن‭ ‬منها‭ ‬‮«‬تفتقد‭ ‬إلى‭ ‬طابع‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬وضعيت‭ [‬ه‭] ‬فى‭ ‬العالم،‭ ‬مغربى،‭ ‬مغاربى،‭ ‬عربى‮»‬‭ ‬بمعنى‭ ‬أشمل‭ ‬فيها‭ ‬انسلاخ‭ ‬عن‭ ‬الهوية،‭ ‬وابتعاد‭ ‬عن‭ ‬الجذور‭.‬

لكن‭ ‬فى‭ ‬المقابل‭ ‬ثمّة‭ ‬آخر‭ ‬يريد‭ ‬منه‭ ‬الانسلاخ‭ ‬وهذا‭ ‬واضح‭ ‬فى‭ ‬موقف‭ ‬طالبته‭ ‬التى‭ ‬التقاها‭ ‬بعد‭ ‬عشرين‭ ‬عامًا،‭ ‬فى‭ ‬البدء،‭ ‬هللت‭  ‬لأنه‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬إصدار‭ ‬أعماله‭ ‬الكاملة،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬عَرَفتْ‭ ‬أنها‭ ‬باللغة‭ ‬العربية،‭ ‬حتى‭ ‬فتر‭ ‬حماسُها،‭ ‬ولم‭ ‬يشغلها‭ ‬سؤاله‭: ‬متى‭ ‬ستصدر‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬أى‭ ‬دار‭ ‬نشر؟‭ ‬وكأن‭ ‬حاجز‭ ‬اللغة‭ ‬كان‭ ‬كفيلاً‭ ‬بقتل‭ ‬الإحساس‭ ‬بشعورها‭ ‬بالزهور‭ ‬بانفصاله‭ ‬عنه‭ ‬لغته‭ ‬ودخوله‭ ‬فى‭ ‬لغتها،‭ ‬لكن‭ ‬مجرد‭ ‬شعورها‭ ‬بتمسكه‭ ‬بلغته‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬يعيش‭ ‬ويتحدث‭ ‬ويدرس‭ ‬بلغتها‭ ‬الفرنسية،‭ ‬أصابها‭ ‬بالصدمة؛‭ ‬فاختفت‭ ‬الابتسامة‭ ‬وانتهى‭ ‬الحماس‭ ‬وتلاشى‭ ‬الاهتمام‭ ‬والتضامن‭ .‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬نزعة‭ ‬استلاب‭ ‬وهيمنة‭ ‬بفرض‭ ‬لغتها‭ ‬على‭ ‬لغته،‭ ‬وقد‭ ‬خاب‭ ‬رجاؤها‭ ‬عندما‭ ‬نطق‭ ‬بمفردة‭ ‬العربية‭ ‬كتتِمَّة‭ ‬لجملته‭.‬

الغريب‭ ‬حقًّا‭ ‬أن‭ ‬أبناء‭ ‬العربية‭ ‬يشعرون‭ ‬بالزهو‭ ‬وهم‭ ‬ينفصلون‭ ‬عن‭ ‬لغتهم‭ ‬الأم،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬جاءت‭ ‬نصيحة‭ ‬صديقه‭ ‬الجامعى‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬عربيّ‭ ‬يُدرِّس‭ ‬فى‭ ‬فرنسا‭ ‬هكذا‭: ‬‮«‬افعل‭ ‬ذلك‭ [‬الكتابة‭] ‬بالفرنسيّة‭ ‬لأن‭ ‬الخلاص‭ ‬بها،‭ ‬أمّا‭ ‬العربيّة‭ ‬فاُكتبْ‭ ‬عنها،‭ ‬لكن‭ ‬إيّاك‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬بها،‭ ‬وإلا‭ ‬ستظل‭ ‬حبيسها‭ ‬ولن‭ ‬يلتفت‭ ‬إليك‭ ‬أحد‭ ‬خارجها‭ (..) ‬اُكتبْ‭ ‬بالفرنسية‭ ‬ويمكن‭ ‬إذ‭ ‬ذاك‭ ‬أن‭ ‬أقرأك‮»‬

صراعيّة‭ ‬اللّغة‭ ‬تجعله‭ ‬يَعْدل‭ ‬عن‭ ‬قراره‭ ‬أثناء‭ ‬كتابة‭ ‬‮«‬الغائب‮»‬‭ (‬1987‭)‬،‭ ‬الذى‭ ‬جهّز‭ ‬مسوّدته‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسيّة،‭ ‬ثم‭ ‬عدّل‭ ‬فى‭ ‬الأخير‭ ‬وكتبه‭ ‬باللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وفاءً‭  ‬لأشياء‭ ‬كثيرة،‭ ‬ربما‭ ‬منها‭ ‬الانتصار‭ ‬للغة‭ ‬التى‭ ‬تغذّى‭ ‬على‭ ‬أعمال‭ ‬كبار‭ ‬كُتّابها‭ ‬ومفكريها‭. ‬وهذه‭ ‬الصراعيّة‭ ‬أكسبته‭ ‬تحديًّا‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر‭ ‬وغريب‭ ‬فى‭ ‬الآن‭ ‬نفسه،‭ ‬فقد‭ ‬تعلّم‭ ‬الفرنسية‭ ‬كى‭ ‬يكتب‭ ‬بالعربية‭. ‬ولم‭ ‬يكتب‭ ‬بالفرنسيّة‭ ‬لإحساسه‭ ‬بأنه‭ ‬لن‭ ‬يضيف‭ ‬شيئًا‭ ‬للأدب‭ ‬الفرنسى،‭ ‬فى‭ ‬المقابل‭ ‬انتزاع‭ ‬حقه‭ ‬بالكتابة‭ ‬بالعربية‭ ‬وفرض‭ ‬نفسه‭ ‬ككاتب‭ ‬عربى‭ ‬كان‭ ‬يواجه‭ ‬‮«‬رِهانًا‭ ‬صعبًا،‭ ‬مجنونًا،‭ ‬ألا‭ ‬يكتب‭ ‬كالأوروبيين،‭ ‬وأن‭ ‬يختلف‭ ‬فى‭ ‬الآن،‭ ‬عن‭ ‬المؤلفين‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬اضطلع‭ ‬على‭ ‬مصنفاتهم‮»‬‭.‬

بضاعتنا‭ ‬المجهولة

واحدة‭ ‬من‭ ‬أهدافه‭ ‬غير‭ ‬المعلنة،‭ ‬برجوعه‭ ‬للتراث‭ ‬المتكرّر،‭ ‬هو‭ ‬دفاعه‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ - ‬المهمل‭ ‬من‭ ‬جانبنا‭ - ‬ومكانته،‭ ‬فدائمًا‭ ‬هو‭ ‬مشغول‭ ‬بكيف‭ ‬نعيد‭ ‬اكتشاف‭ ‬أدبنا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سياق‭ ‬أدب‭ ‬آخر،‭ ‬فهو‭ ‬يأسف‭ ‬‮«‬لكوننا‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬شيئًا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الجار‭ ‬المبحوث‭ ‬عنه‮»‬‭ ‬كأننا‭ ‬–‭ ‬بتحوير‭ ‬عبارة‭ ‬كافكا‭: ‬‮«‬نكتشف‭ ‬بهم‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬فى‭ ‬قبضتنا‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬جوهر‭ ‬حالات‭ ‬الاستطراد‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬يملّ‭ ‬منها‭ ‬ولا‭ ‬يكلّ،‭ ‬فمقامات‭ ‬الحريرى‭ ‬التى‭ ‬درسها‭ ‬وظن‭ ‬أنها‭ ‬كُتِبَتْ‭ ‬من‭ ‬أجله‭ ‬أو‭ ‬أنّه‭ ‬القارئ‭ ‬الوحيد‭ ‬لها،‭ ‬اكتشف‭ ‬أن‭ ‬صاحبها‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬ينتمى‭ ‬إلى‭ ‬العصر‭ ‬المواتى‭ ‬لفن‭ ‬الرواية،‭ ‬وذلك‭ ‬لأن‭ ‬باحثًا‭ ‬غربيًّا‭ ‬ذكر‭ ‬أن‭ ‬مقامات‭ ‬الحريرى‭ ‬الخمسين‭ ‬كادت‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬لو‭ ‬رَاعى‭ ‬مؤلفها‭ ‬ترتيبًا‭ ‬زمنيًّا‭ ‬محكمًا‭ ‬بحيث‭ ‬تكون‭ ‬مرتبطة‭ ‬ومصولة‭ ‬عضويًّا‭ ‬ببعض‮»‬‭.‬

يشير‭ ‬إلى‭ ‬سِمة‭ ‬مهمّة‭ ‬فى‭ ‬المقامات،‭ ‬وهى‭ ‬أن‭ ‬أبطالها‭ ‬أدباء،‭ ‬وهذه‭ ‬الخصيصة‭ ‬تجعله‭ ‬يربط‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬رسالة‭ ‬الغفران‭ ‬للمعرى،‭ ‬فشخصها‭ ‬الرئيس‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬شخصًا‭ ‬‮«‬من‭ ‬ورق‮»‬‭ ‬بتعبير‭ ‬رولان‭ ‬بارت،‭ ‬وإنما‭ ‬من‭ ‬معاصرى‭ ‬أبى‭ ‬العلاء،‭ ‬وهو‭ ‬ابن‭ ‬القارح‭ ‬الذى‭ ‬يسير‭ ‬فى‭ ‬الآخرة‭ ‬على‭ ‬خُطى‭ ‬الشعراء،‭ ‬وقد‭ ‬عانى‭ ‬الأمريْن‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينال‭ ‬المغفرة،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭  ‬‮«‬يعيش‭ ‬ما‭ ‬وصفوه‭ ‬وما‭ ‬عانوه‭ ‬وعاينوه‭ ‬أثناء‭ ‬مسارهم،‭ ‬ستة‭ ‬قرون‭ ‬بعده‮»‬‭. ‬وهذه‭ ‬الملاحظة‭ - ‬وما‭ ‬تبعها‭ ‬من‭ ‬ربط‭ - ‬تجعله‭ ‬يخرج‭ ‬بظاهرة‭ ‬لافتة‭ ‬لا‭ ‬تقصر‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أفرزه‭ ‬تراثنا‭ ‬العربى،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضًا‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬تردادتها‭ ‬فى‭ ‬تراث‭ ‬الغرب‭ (‬بالموازنات‭ ‬التى‭ ‬يجيد‭ ‬اكتشاف‭ ‬روابطها‭)‬،‭ ‬فالأديب‭ ‬بطل‭ ‬لعمل‭ ‬سردى،‭ ‬تمثّل‭ ‬ظاهرة‭ ‬مُطرِّدة‭ ‬فى‭ ‬كتابات‭ ‬الغرب،‭ ‬ويضرب‭ ‬الأمثلة‭ ‬بـ«أوهام‭ ‬ضائعة‮»‬‭ ‬لبلزاك،‭ ‬وكذلك‭ ‬ما‭ ‬سُمى‭ ‬برواية‭ ‬‮«‬الكامبوس‮»‬،‭ ‬ويعدّدُ‭ ‬أسماء‭ ‬مَن‭ ‬ساهم‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬كفلاديمير‭ ‬نابوكوف،‭ ‬وفيليب‭ ‬روط،‭ ‬وديفيد‭ ‬لوج،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬كيليطو‭ ‬نفسه‭ ‬ركب‭ ‬الموجة‭ ‬–‭ ‬بتعبيره‭ ‬–‭ ‬وكتب‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬‮«‬أنبئونى‭ ‬بالرؤيا‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬وربما‭ ‬فى‭ ‬سائر‭ ‬محاولاته‭ ‬السردية‭.‬

يُبدى‭ ‬كيليطو‭ ‬ولهًا‭ ‬واهتمامًا‭ ‬كبيريْن‭ ‬بالعناوين،‭ ‬فالعناوين‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬تعدُّ‭ ‬منهجًا‭ ‬قرائيًّا‭ ‬بامتياز،‭ ‬فوظيفة‭ ‬العنوان‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬شارل‭ ‬غريفل‮»‬‭ ‬إنها‭ ‬‮«‬وسيلة‭ ‬لتعريف‭ ‬الكِتاب،‭ ‬ويشير‭ ‬إلى‭ ‬محتواه،‭ ‬ويبرز‭ ‬قيمته‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬يتعامل‭ ‬كيليطو‭ ‬مع‭ ‬العنوان‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنظور،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬يعمد‭ ‬إلى‭ ‬جعل‭ ‬العنوان‭ ‬مبهمًا،‭ ‬وبذلك‭ ‬يكسر‭ ‬أفق‭ ‬انتظار‭ ‬القارئ،‭ ‬ويضعه‭ ‬لا‭ ‬فى‭ ‬تساؤل‭ ‬عن‭ ‬موضوعات‭ ‬الكتاب،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬نوعه،‭ ‬وإنما‭ ‬فى‭ ‬خضم‭ ‬سؤال‭ ‬يفارق‭ ‬عتبة‭ ‬العنوان‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬المتن‭ ‬وإنما‭ ‬إلى‭ ‬خارجه؛‭ ‬هكذا‭: ‬إلى‭ ‬أى‭ ‬شيء‭ ‬يشير‭ ‬العنوان؟‭ ‬ومن‭ ‬أى‭ ‬مصدر‭ ‬استقاه‭ ‬هذه‭ ‬المرة؟‭ ‬ومن‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى‭  ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬العناوين‭ ‬عنده‭ ‬مفاتيح‭ ‬تكشف‭ ‬قراءات‭ ‬كيليطو‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مباشر،‭ ‬فالعنوان‭ ‬دومًا‭ ‬هو‭ ‬جملة‭ ‬صادفها‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬قرأه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كـعناوين‭ ‬كتب‭ ‬‮«‬العين‭ ‬والإبرة‭ (‬1995‭)‬،‭ ‬ومتاهات‭ ‬القول‭ (‬2000‭)‬،‭ ‬من‭ ‬شرفة‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ (‬2009‭)‬،‭ ‬أنبئونى‭ ‬بالرؤيا‭ (‬2011‭)‬،‭ ‬أتكلّم‭ ‬جميع‭ ‬اللغات‭ ‬لكن‭ ‬بالعربية‭ (‬2013‭)‬،‭ ‬وحصان‭ ‬نيتشه‭ (‬2014‭)‬،‭ ‬بحبر‭ ‬خفى‭ (‬2018‭)‬،من‭ ‬نبحث‭ ‬عنه‭ ‬بعيدًا،‭ ‬يقطن‭ ‬قربنا‭ (‬2019‭)‬،‭ ‬فى‭ ‬جو‭ ‬من‭ ‬الندم‭ ‬الفكرى‭ (‬2020‭) ‬‮»‬‭.‬

لذا‭ ‬يأتى‭ ‬اختيار‭ ‬عناوينه‭ ‬–‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ - ‬كدليل‭ ‬أو‭ ‬مصباح‭ ‬كاشف‭ ‬لثقافة‭ ‬كيليطو‭ (‬المتنوّعة‭ ‬والباذخة‭)‬،‭ ‬وأهم‭ ‬قراءاته‭ (‬القديمة‭ ‬والحديثة‭)‬،‭ ‬فهو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬دومًا‭ ‬إن‭ ‬الجواب‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭: ‬ماذا‭ ‬قرأت؟‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬أول‭ ‬كتاب‭ ‬قرأته؟‭ ‬يتغيّرُ‭ ‬بتغيُّرِ‭ ‬السّائل‭ ‬ولغته‭ ‬والأدب‭ ‬الذى‭ ‬ينتمى‭ ‬إليه،‭ ‬والسياق،‭ ‬وكذلك‭ ‬حسب‭ ‬مناخ‭ ‬اللحظة،‭ ‬ومنعرجات‭ ‬الذاكرة،‭ ‬لكن‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬عناوين‭ ‬الكتب‭ ‬فأظن‭ ‬أن‭ ‬المصدر‭ ‬ثابت،‭ ‬فمرة‭ ‬التراث‭ ‬العربى‭ ‬ومصادره‭ ‬الدينيّة‭ (‬القرآن‭ ‬والإنجيل‭: ‬أنبئونى‭ ‬بالرؤيا‭)‬،‭ ‬والأدبيّة‭ ‬والفكريّة‭ (‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬ولية،‭ ‬والجاحظ،‭ ‬وابن‭ ‬رشد‭ ‬والمعرى،‭ ‬والحريرى،‭ ‬وابن‭ ‬العميد‭)‬،‭ ‬وتارة‭ ‬التراث‭ ‬الغربى‭ [‬أو‭ ‬المعتمد‭ ‬الأدبي‭] ‬قديمه‭ ‬وحديثه‭: (‬مونتينى،‭ ‬كافكا،‭ ‬نيتشة،‭ ‬باشلار‭). ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فلا‭ ‬حاجة‭ ‬لسؤال‭: ‬ماذا‭ ‬قرأت؟‭ ‬فقراءاته‭ ‬واضحة‭ ‬للعيان‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عناوين‭ ‬كتبه،‭ ‬وإحالاته‭ ‬الكثيرة‭ ‬عبر‭ ‬الموازنات‭ ‬بين‭ ‬الأدبين‭ ‬العربى‭ ‬والغربى‭.‬

مراجعة‭ ‬الذات

الكتاب‭ ‬الجديد‭ ‬هو‭ ‬أشبه‭ ‬بمراجعات‭ ‬لمسيرته‭ ‬وكتابته،‭ ‬فى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التواضع‭ ‬اكتنفها‭ ‬‮«‬جو‭ ‬من‭ ‬الندم‭ ‬الفكرى‮»‬،‭ ‬العنوان‭ ‬يحمل‭ ‬فى‭ ‬طياته‭ ‬اعترافات‭ ‬محفوفة‭ ‬بندم‭ ‬فكرى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتناثر‭ ‬داخل‭ ‬الكتاب،‭ ‬فتطرد‭ ‬اعترافاته‭ ‬بين‭ ‬كونه‭ ‬أديبًا‭ ‬ناقصًا،‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يتمثّل‭ ‬لشرائط‭ ‬تحقُّق‭ ‬الأديب‭ ‬كما‭ ‬ارتأها‭ ‬ابن‭ ‬خلدون،‭ ‬فلم‭ ‬يقرأ‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬الأربعة‭ ‬التى‭ ‬تُعدُ‭ ‬بمفهوم‭ ‬الغرب‭ ‬معتمدًا‭ ‬أدبيًّا،‭ ‬سوى‭ ‬‮«‬البيان‭ ‬والتبين‮»‬‭ ‬للجاحظ،‭ ‬وأيضًا‭ ‬لم‭ ‬يقرأ‭ ‬الإلياذة‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬محتواها،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬كتبرير‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬كتابته‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬لأنه‭ ‬لن‭ ‬يضيف‭ ‬‮«‬شيئًا‭ ‬يذكر‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬الفرنسيون‭. ‬وفضلاً‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬فإنهم،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬المهم،‭ ‬لا‭ ‬ينتظرون‭ ‬منى‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬أدبهم‭. ‬أدبهم‭ ‬لا‭ ‬يحتاجنى‮»‬‭. ‬وبالمثل‭ ‬إذا‭ ‬أعاد‭ ‬النظر‭ ‬فى‭ ‬كتاباته‭ ‬فسيكتشف‭ ‬‮«‬هفوات‭ ‬جديدة‮»‬‭ ‬فى‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬حدوث‭ ‬الخطأ‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يعتبره‭ ‬‮«‬شيئًا‭ ‬عرضيًّا‮»‬‭ ‬وإنما‭ ‬‮«‬المكوّن‭ ‬الأساسى‭ ‬للكتابة،‭ ‬معدنها‭ ‬وطبعها‮»‬،‭ ‬فأن‭ ‬تكتب‭ ‬معناه‭ ‬أن‭ ‬تُخطئ‭. ‬وهذا‭ ‬التعويل‭ ‬على‭ ‬الخطأ‭ ‬بما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬معنى‭ ‬التصحيح‭ ‬والنظر‭ ‬فى‭ ‬النص‭ ‬مرة‭ ‬تلو‭ ‬المرة،‭ ‬يجعله‭ ‬يُعرِّفُ‭ ‬النص‭ ‬الأدبى،‭ ‬بتعريف‭ ‬يتسق‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬المتوالية‭ ‬من‭ ‬النظر‭ ‬والمراجعة،‭ ‬فهو‭ ‬عنده‭ ‬‮«‬ما‭ ‬لا‭ ‬يفتأ‭ ‬يُعالج‮»‬‭ ‬بكل‭ ‬معانى‭ ‬الكلمة،‭ ‬فقد‭ ‬يقضى‭ ‬المرء‭ ‬عمره‭ ‬يصحح‭ ‬قصيدة،‭ ‬وقد‭ ‬يموت‭ ‬وفى‭ ‬نفسه‭ ‬شيء‭ ‬منها‭. ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬موته،‭ ‬فقد‭ ‬يموت‭ ‬وهو‭ ‬يعتقد‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬تامة‭ ‬كاملة‭.‬

وقد‭ ‬تطل‭ ‬اعترافاته‭ ‬مشبوبة‭ ‬بالندم،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ندمه‭ ‬على‭ ‬دعوة‭ ‬للمشاركة‭ ‬للكتابة‭ ‬فى‭ ‬مؤلف‭ ‬جماعى‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬التربية‭ ‬العاطفية‮»‬‭ ‬لغوستاف‭ ‬فولبير،‭ ‬فيرفض‭ ‬معتبرًا‭ ‬نفسه‭ ‬غير‭ ‬جدير‭ ‬بالقيام‭ ‬بهذا‭ ‬الأمر،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬المشرف‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬الجماعى‭ ‬يأمل‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬مقاربة‭ ‬خاصة‭ ‬للعرب‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬ثقافة‭ ‬مختلفة‭ ‬غير‭ ‬أوروبيّة‭. ‬

ويعترف‭ ‬أيضًا‭ - ‬بكل‭ ‬تواضع‭ - ‬بأنه‭ ‬اكتشف‭ ‬فى‭ ‬غمرة‭ ‬انكباب‭ ‬النقاد‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬الستينيات‭ ‬وبداية‭ ‬السبعينات‭ ‬على‭ - ‬هوجة‭ - ‬مناهج‭ ‬اللسانيات،‭ ‬أنه‭ ‬غير‭ ‬مؤهّل‭ ‬للخوض‭ ‬فى‭ ‬التنظير‭ ‬اللسانى‭ ‬والأدبى‭ ‬‮«‬بل‭ ‬إنه‭ ‬عاجز‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬دراسة‭ ‬علمية‭. ‬وهذا‭ ‬الاعتراف‭ - ‬الأخير‭ - ‬دَرْسٌ‭ ‬فى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الصوت‭ ‬الخاص،‭ ‬والانصات‭ ‬إلى‭ ‬الملكات‭ ‬والقدرات‭ ‬والاستعدادات،‭ ‬والأهم‭ ‬أنه‭ ‬دعوة‭ ‬لنبذ‭ ‬التقليد؛‭ ‬لأن‭ ‬فى‭ ‬التقليد‭ ‬ابتسار‭ ‬وتلفيق،‭ ‬فليس‭ ‬معنى‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يركب‭ ‬الموجة‭ ‬أو‭ ‬ينخرط‭ ‬فى‭ ‬تيار‭ ‬اللسانيين‭ ‬أو‭ ‬الحداثيين‭ ‬أنه‭ ‬فاشل،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬تمامًا‭ ‬فقد‭ ‬قدم‭ -‬بقراءاته‭ ‬النقدية‭ ‬غير‭ ‬المتكئة‭ ‬على‭ ‬اللسانيات‭ ‬–‭ ‬نتائج‭ ‬فى‭ ‬دراسته‭ ‬عن‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭ ‬والمقامات،‭ ‬فشلت‭ ‬فى‭ ‬استنطاقها‭ ‬هذه‭ ‬المناهج‭ ‬عند‭ ‬تطبيقها‭ ‬من‭ ‬آخرين‭. ‬أليس‭ ‬هذا‭ ‬الاعتراف‭ ‬الصريح‭ ‬يكشف‭ ‬بجلاء،‭ ‬صدق‭ ‬الصرخة‭ ‬التى‭ ‬أعلنها‭ ‬تزفيتان‭ ‬تودوروف‭ - ‬فى‭ ‬الربع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الحادى‭ ‬والعشرين‭ - ‬بأن‭ ‬‮«‬الأدب‭ ‬فى‭ ‬خطر‮»‬‭ ‬إذ‭ ‬تحوّلت‭ ‬النصوص‭ ‬إلى‭ ‬ألعاب‭ ‬شكلانية؟‭ ‬وكأنه‭ ‬نجا‭ ‬بهذا‭ ‬البُعد‭ ‬–‭ ‬غير‭ ‬المتعمد‭ ‬–‭ ‬من‭ ‬الانزلاق‭ ‬فى‭ ‬ألعاب‭ ‬تغرب‭ ‬النصوص،‭ ‬وكأننا‭ ‬–‭ ‬باستعارة‭ ‬عنوانه‭ ‬–‭ ‬‮«‬من‭ ‬نبحث‭ ‬عنه‭ ‬بعيدًا،‭ ‬يقطن‭ ‬قُربنا‮»‬‭ ‬وفقًا‭ ‬للمقولة‭ ‬المستعارة‭ ‬من‭ ‬كافكا‭. ‬كما‭ ‬يعترف‭ ‬بأن‭ ‬كتاباته‭ ‬–‭ ‬نتيجة‭ ‬تأثره‭ ‬بفكر‭ ‬الجاحظ‭ ‬–‭ ‬ما‭ ‬هى‭ ‬إلا‭ ‬استطرادات،‭ ‬مجالس‭ ‬أو‭ ‬بمعنى‭ ‬أدق‭ ‬مقامات‭ ‬بكل‭ ‬معانى‭ ‬الكلمة‭.‬

فن‭ ‬الخطأ

كيف‭ ‬يكون‭ ‬الجهل‭ ‬بلغة‭ ‬الآخر‭ ‬مدعاة‭ ‬لإغفال‭ ‬وتجاهل‭ ‬أشياء‭ ‬مهمة،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سببًا‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬لخطأ‭ ‬فادح،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬وهو‭ ‬يشرح‭ ‬فن‭ ‬الشعر‭ ‬لأرسطو‭. ‬كما‭ ‬يناقش‭ ‬كيليطو‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬ما‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬المترجم‭ ‬من‭ ‬غمط‭ ‬لحقه،‭ ‬وإهدار‭ ‬لدوره‭ ‬المهم‭ ‬بغياب‭ ‬اسمه‭ ‬على‭ ‬غلاف‭ ‬النص‭ ‬المترجم،‭ ‬بحكايته‭ ‬عن‭ ‬شارل‭ ‬بيلا‭ ‬الذى‭ ‬ترجم‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬البخلاء‮»‬‭ ‬للجاحظ،‭ ‬فحدث‭ ‬سهو‭ ‬بأن»محى‭ ‬اسم‭ ‬باحث‭ ‬قضى‭ ‬عمره‭ ‬فى‭ ‬العناية‭ ‬بأدب‭ ‬الجاحظ‮»‬،‭ ‬فبهذا‭ ‬التجاهل‭ ‬أو‭ ‬النسيان‭ ‬–‭ ‬دون‭ ‬عمد‭ ‬–‭ ‬غدا‭ ‬الجاحظ‭ ‬من‭ ‬غمرة‭ ‬الكتاب‭ ‬الفرانكفونيين،‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬معاصرًا،‭ ‬مغربيًّا‭ ‬أو‭ ‬مغاربيًّا‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬بلا‭ ‬شك‮«‬يحمل‭ ‬نظارة‭ ‬طبية‭ ‬أو‭ ‬شمسيّة‭ ‬يخفى‭ ‬بها‭ ‬جحوظ‭ ‬عينية‮»‬‭ ‬وفى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬‮«‬يرتدى‭ ‬لباسًا‭ ‬أوروبيّا‭ ‬أنيقًا‭ ‬من‭ ‬بذلة‭ ‬ورباط‭ ‬عنق‭ ‬وحذاء‭ ‬لامع‮»‬‭. ‬

قد‭ ‬تدخل‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة‭ ‬بحكى‭ ‬كيليطو‭ ‬لها‭ ‬فى‭ ‬سياق‭ ‬الطرفة‭ ‬أو‭ ‬الحدث‭ ‬المضحك،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬دلالات‭ ‬يكشفها‭ ‬هذا‭ ‬السهو‭- ‬غير‭ ‬المتعمد‭ - ‬مِن‭ ‬بَخسٍ‭ ‬لحقِّ‭ ‬المترجم،‭ ‬وهى‭ ‬المعضلة‭ ‬التى‭ ‬تواجه‭ ‬المترجمين‭ ‬فى‭ ‬شتى‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬فهم‭ ‬أشبه‭ ‬بالجنود‭ ‬المجهولين،‭ ‬قد‭ ‬تتوارى‭ ‬أسماؤهم‭ ‬إلى‭ ‬الظل‭ ‬أحيانًا‭ (‬باستثناء‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬المنفلوطى‭ ‬الذى‭ ‬غيّب‭ ‬أسماء‭: ‬إدمون‭ ‬روستان،‭ ‬وبرنردان‭ ‬دى‭ ‬سان‭ ‬بيير،‭ ‬وإلكسندر‭ ‬دوما‭ ‬الابن،‭ ‬وفرنسوا‭ ‬كوبى،‭ ‬وألفونس‭ ‬كار،‭ ‬وشاتوبريان‭.. ‬على‭ ‬حساب‭ ‬اسمه‭ ‬هو،‭ ‬فحل‭ ‬اسمه‭ ‬بديلا‭ ‬عنهم‭ ‬جميعًا‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬تمحى‭ ‬–‭ ‬فى‭ ‬حالات‭ ‬نادر‭ ‬–‭ ‬كما‭ ‬حكى‭ ‬كيليطو‭ ‬عن‭ ‬إغفال‭ ‬اسم‭ ‬شارل‭ ‬بيلا،‭ ‬وفى‭ ‬كلتا‭ ‬الحالتين‭ ‬هم‭ ‬ضحايا،‭ ‬للناشرين‭ ‬واقتصاديات‭ ‬السوق‭ ‬والتوزيع‭.‬

دروسه‭ ‬فى‭ ‬فن‭ ‬الترجمة‭ (‬تناول‭ ‬موضوع‭ ‬المترجم‭ ‬فى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كتاب،‭ ‬فى‭ ‬حبر‭ ‬خفى،‭ ‬وأتكلم‭ ‬بجميع‭ ‬اللغات،‭ ‬وغيرهما‭) ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عند‭ ‬ما‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬المترجم،‭ ‬وإنما‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬آليات‭ ‬وفنيات‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تُراعى،‭ ‬فمثلا‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬العنوان‭ ‬المزدوج‭ ‬تستحيل‭ ‬ترجمته،‭  ‬فيصير‭ ‬الكتاب‭ ‬كتابين،‭ ‬وهناك‭ ‬عناوين‭ ‬تحدث‭ ‬إبهامًا‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬تعديلها‭ ‬أو‭ ‬تغييرها‭ ‬عند‭ ‬نقلها‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬أخرى،‭ ‬ويقصد‭ ‬العناوين‭ ‬المبنية‭ ‬على‭ ‬السجع‭ ‬والمحيلة‭ ‬على‭ ‬معادن‭ ‬نفيسة‭ ‬وعطور‭ ‬رفيعة‭ ‬وبرود‭ ‬يمنيّة‭ ‬مزركّشة،‭ ‬مثل‭ ‬قلائد‭ ‬العِقيان‭ ‬ومحاسن‭ ‬الأعيان‭ (‬لابن‭ ‬خاقان‭)‬،‭ ‬وتفح‭ ‬الطيب‭ ‬من‭ ‬غصن‭ ‬الأندلس‭ ‬الرطيب‭ (‬للمقري‭). ‬وفى‭ ‬المقابل‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يحتفظ‭ ‬برونقة‭ ‬فى‭ ‬الترجمةكـ«مروج‭ ‬الذهب‮»‬‭ ‬للمسعودى،‭ ‬و«درة‭ ‬الغواص‮»‬‭ ‬للحريرى‭. ‬وعلى‭ ‬الجملة‭ ‬فالترجمة‭ ‬عنده‭ ‬عملية‭ ‬تصحيح‭ ‬للنص‭ ‬الأصلى‭.‬

القارئ‭ ‬العدو

علاقة‭ ‬كيليطو‭ ‬بالقارئ‭ ‬هى‭ ‬شبيهة‭ ‬بعلاقة‭ ‬أستاذه‭ ‬الجاحظ‭ ‬به،‭ ‬فالقارئ‭ - ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬الحيوان‭ - ‬يتربص‭ ‬بالكاتب،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬يعتبره‭ ‬عدوًا‭ ‬له،‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬عدوًا‭ ‬صريحًا،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّه‭ ‬فى‭ ‬الخفاء‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الثغرات‭ ‬وعن‭ ‬نقاط‭ ‬الضعف،‭ ‬بهدف‭ ‬التهجُّم‭ ‬على‭ ‬الكاتب‭ ‬والنيل‭ ‬من‭ ‬مؤلفه،‭ ‬ومن‭ ‬شدة‭ ‬الارتياب‭ ‬منه‭ ‬يتودد‭ ‬الجاحظ‭ - ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬البخلاء‭ - ‬للقرّاء‭ ‬بل‭ ‬‮«‬يفاوضهم‭ ‬سعيًّا‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬استمالتهم‭ ‬وإضعاف‭ ‬شوكتهم‭ ‬وإبطال‭ ‬كراهيتهم‮»‬‭. ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬أنبئونى‭ ‬بالرؤيا‮»‬‭ ‬يظهر‭ ‬هذا‭ ‬القارئ‭ ‬فى‭ ‬صورة‭ ‬الطالب‭ ‬إسماعيل‭ ‬كملو،‭ ‬الذى‭ ‬يعد‭ ‬رسالة‭ ‬دكتوراه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭ ‬ويقوم‭ ‬الطالب‭ / ‬القارئ‭ ‬بالبحث‭ ‬والتنقيب‭ ‬عن‭ ‬مصادر‭ ‬جديدة،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تخطئة‭ ‬بحوث‭ ‬أستاذه‭ ‬التى‭ ‬تتحدث‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬الموضوع‭. ‬

وفى‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬فى‭ ‬جو‭ ‬من‭ ‬الندم‭ ‬الفكرى‮»‬‭ ‬يطل‭ ‬القارئ‭ - ‬العدو‭ ‬متربصًا‭ ‬بكيليطو‭ ‬عبر‭ ‬خطأ‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬الترجمة،‭ ‬وهذا‭ ‬الخطأ‭ ‬يتصيده‭ ‬قارئ‭ ‬فى‭ ‬صورة‭ ‬أستاذة‭ ‬تُدرِّسُ‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬أنبئونى‭ ‬بالرؤيا‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬الخطأ‭ ‬سيكون‭ ‬سببًا‭ ‬فى‭ ‬مراجعة‭ ‬فكرية‭ ‬لدراسته‭ ‬عن‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬ونتائج‭ ‬موازنته‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬المقامة،‭ ‬فكيليطو‭ ‬المولع‭ ‬بالربط‭ ‬بين‭ ‬التيمات،‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬انشغال‭ ‬جَمْع‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬عن‭ ‬النوم‭ ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬بحديث‭ ‬ممتع‭ ‬مع‭ ‬عابر‭ ‬سبيل‭ ‬مٌمْلِق‭ ‬حلّ‭ ‬فجأة‭ ‬بينهم؛‭ ‬وبين‭ ‬حال‭ ‬شهرزاد‭ ‬وشهريار‭ ‬ودنيا‭ ‬زاد‭ ‬فى‭ ‬القصة‭ ‬الإطار‭ ‬فى‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬فالتوازى‭ ‬قائم‭ ‬بين‭ ‬النصين‭ (‬المقامة‭ ‬والليالي‭)‬‭ ‬فالأشخاص‭ ‬لا‭ ‬ينامون‭ ‬طيلة‭ ‬الليل،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الاستنتاج‭.‬

هكذا‭ ‬تراءى‭ ‬له،‭ ‬حتى‭ ‬جاءته‭ ‬رسالة‭ ‬من‭ ‬الأستاذة‭ ‬التى‭ ‬تُدَرِّسُ‭ ‬كتابه،‭ ‬تخبرُهُ‭ ‬فيها‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬قلقة‭ ‬لأن‭ ‬الترجمة‭ ‬الفرنسية‭ ‬لألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬وتقصد‭ ‬تحديدًا‭ ‬ترجمة‭ ‬أنطوان‭ ‬غالان‮»‬‭  ‬جاء‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬أن‭ ‬الشخوص‭ ‬الثلاثة‭ ‬ينامون‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الليل‮»‬‭. ‬بكل‭ ‬بساطة‭ ‬تشكك‭ ‬الرسالة‭ ‬فى‭ ‬مسلماته‭ ‬التى‭ ‬استخلصها‭ ‬فى‭ ‬دراساته‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬هكذا‭ ‬يبرز‭ ‬القارئ‭ ‬العدو،‭ ‬المتربص‭ ‬بالخطأ‭ ‬الذى‭ ‬حذّر‭ ‬منه‭ ‬الجاحظ‭ ‬ويرتاب‭ ‬منه‭ ‬كيليطو‭ ‬أيضًا‭.‬

هنا‭ ‬الحكاية‭ ‬لم‭ ‬تنتهِ‭ ‬وإنما‭ ‬هى‭ ‬بداية‭ ‬لمراجعة‭ ‬ذاتية‭ ‬–‭ ‬فكرية‭ / ‬أو‭ ‬ندم‭ ‬فكرى،‭ ‬وتصحيح‭ ‬لفكره،‭ ‬وكتبه‭ ‬كفعل‭ ‬لاحق‭. ‬أول‭ ‬تأثير‭ ‬للرسالة‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬تملّكهُ‭ ‬غيظ‭ ‬شديد‭ ‬من‭ ‬نفسه‭ ‬ولامها‭ ‬‮«‬على‭ ‬التسرُّع‭ ‬وإلقاء‭ ‬الكلام‭ ‬على‭ ‬عواهنه،‭ ‬والولع‭ ‬بالغرابة‮»‬‭ ‬بنسبه‭ ‬للنص‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يقُلْهُ‭. ‬هذا‭ ‬اللُّوم‭ ‬أو‭ ‬التأنيب‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬صفة‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬الباحث‭ ‬المحقّق‭ ‬الذى‭ ‬يشعر‭ ‬بالتقصير‭ ‬فى‭ ‬نقطة‭ ‬ما،‭ ‬وهذه‭ ‬الصِّفة‭ ‬دَرْسٌ‭ ‬آخر،‭ ‬يُمرِّرُهُ‭ ‬بلا‭ ‬ضجيج‭ ‬أو‭ ‬مباشرة‭ ‬أو‭ ‬استعلاء‭ ‬بإملاءات‭ ‬ونصائح‭ ‬مباشرة‭ (‬لاحظ‭ ‬موقف‭ ‬الأستاذ‭ ‬من‭ ‬الطالب‭ ‬باحث‭ ‬الدكتوراه‭ ‬فى‭ ‬أنبئونى‭ ‬بالرؤيا‭) ‬فكما‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬فعدم‭ ‬الدقة‭ ‬شيء‭ ‬لا‭ ‬يُغتفر‭. ‬الشيء‭ ‬الثانى‭ ‬الذى‭ ‬مررته‭ ‬الرسالة‭ ‬–‭ ‬بقسوة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تستخدم‭ ‬عبارات‭ ‬قاسية‭ ‬–‭ ‬هو‭ ‬حدوث‭ ‬صدع‭ ‬فى‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬النسق‭ ‬المتكامل‭ ‬الذى‭ ‬أنشأ‭[‬ه‭] ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬برز‭ ‬فى‭ ‬بنيانه‭ ‬شق‭ ‬لا‭ ‬تخطئه‭ ‬العين‭ ‬ويُسبِّبُ‭ ‬الجرح‮»‬‭.‬

بعد‭ ‬هذه‭ ‬الصدمة‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬مصادره،‭ ‬أولاً،‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬اللّبس،‭ ‬ترجمة‭ ‬غالان،‭ ‬حيث‭ ‬عبارة‭ ‬شهزراد‭ ‬التى‭ ‬أوعزت‭ ‬بها‭ ‬لأختها‭ ‬التى‭ ‬طلبت‭ ‬أن‭ ‬تقولها‭ ‬لها‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الثلاثة‭ ‬ناموا‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‮»‬‭ ‬أى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تسرد‭ ‬حكايتها‭ ‬فى‭ ‬الهزيع‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬الليل‭. ‬وهذا‭ ‬الطلب‭ ‬يتكرّر‭ ‬فى‭ ‬الليلة‭ ‬الثانية‭. ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬الاكتشاف‭ ‬أُسقط‭ ‬كيليطو‭ ‬فى‭ ‬الفخ‭. ‬حيث‭ ‬انهارت‭ ‬الموازنة‭ ‬بين‭ ‬مقامة‭ ‬الحريرى‭ ‬والليالى،‭ ‬ففى‭ ‬الأخير‭ ‬توقظ‭ ‬دنيا‭ ‬زاد‭ ‬شهرزاد‭ ‬ساعة‭ ‬قبل‭ ‬الصباح‭ ‬لتسأنف‭ ‬الحكاية‭ ‬بهذه‭ ‬اللازمة‭: ‬‮«‬يا‭ ‬أختى،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكونى‭ ‬نائمة،‭ ‬أرجو‭ ‬منك‭...‬‮»‬‭.‬

ولأنه‭ ‬كان‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬مصادره‭ ‬وكتبه،‭ ‬فما‭ ‬إن‭ ‬رجع‭ ‬حتى‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬النص‭ ‬العربى،‭ ‬ولم‭ ‬يكتفِ‭ ‬بنص‭ ‬واحد،‭ ‬وإنما‭ ‬قارن‭ ‬بين‭ ‬عدة‭ ‬نصوص‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬النص‭ ‬الأصلى‭ (‬الأوّل‭) / ‬أقدم‭ ‬مخطوطة‭ (‬تتوازى‭ ‬فكرة‭ ‬النص‭ ‬الأول،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬طرحه‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬لسان‭ ‬أدم‮»‬‭ (‬1995‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬تحدّث‭ ‬عن‭ ‬اللسان‭ ‬الأول،‭ ‬واللغة‭ ‬الأولى،‭ ‬والقاتل‭ ‬الأول،‭ ‬وغيرها‭. ‬تراوده‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬هنا‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يفرد‭ ‬لها‭ ‬بحثًا‭ ‬مُستقلاً‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬فعل‭ ‬فى‭ ‬لسان‭ ‬آدم،‭ ‬فالأوائل‭ ‬كُثُر‭ ‬هنا‭: ‬فالجاحظ‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬دشّن‭ ‬شعرية‭ ‬الاستطراد،‭ ‬والخليفة‭ ‬معاوية،‭ ‬أول‭ ‬خليفة‭ ‬أموى‭. ‬ومقامات‭ ‬الحريرى‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬أول‭ ‬رواية‭) ‬الذى‭ ‬حقّقه‭ ‬محسن‭ ‬مهدى،‭ ‬ويكتشف‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬اختلافات‭ ‬فى‭ ‬سياق‭ ‬النصوص،‭ ‬فتارة‭ ‬يذكر‭ ‬‮«‬‭ ‬وأدرك‭ ‬شهرزاد‭ ‬الصباح،‭ ‬فسكتت‭ ‬عن‭ ‬الكلام‭ ‬المباح‮»‬،‭ ‬وهنا‭ ‬لا‭ ‬ذكر‭ ‬للنوم،‭ ‬وتارة‭ ‬ثانية‭   ... ‬واستيقظوا‭ ‬الجميع‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يعنى‭ ‬أنهم‭ ‬ناموا‭. ‬إزاء‭ ‬حالة‭ ‬التناقض‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬الترجمات،‭ ‬وهى‭ ‬ترجمات‭ ‬متعدّدة‭ ‬لغوستاف‭ ‬فايل‭ (‬الألمانية‭) ‬وريتشارد‭ ‬برتون‭ (‬الإنجليزية‭)‬،‭ ‬وشارل‭ ‬ماردروس‭ ‬وجمال‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬الشيخ‭ (‬الفرنسية‭). ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الترجمات‭ ‬يخرج‭ ‬بنتيجة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬‮«‬شهريار‮»‬‭ ‬كان‭ ‬يُعانى‭ ‬من‭ ‬الأرق،‭ ‬وهذه‭ ‬الصفة‭ ‬تكاد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬المخرج‭ ‬الآمن‭ ‬له‭. ‬فهو‭ ‬مصاب‭ ‬بالأرق،‭ ‬ولا‭ ‬يغمض‭ ‬له‭ ‬جفن‭.‬

لكن‭ ‬النبّاش‭ ‬كيليطو‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬عند‭ ‬مصدر‭ ‬الخطأ،‭ ‬بل‭ ‬يذهب‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬هذا،‭ ‬ويتساءل‭: ‬من‭ ‬أين‭ ‬استقى‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬شخوصَ‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬لا‭ ‬ينامون؟‭ ‬ويرجع‭ ‬هذا‭ - ‬بعد‭ ‬بحث‭ ‬ومراجعة‭ ‬لأفكاره‭ - ‬إلى‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬مائة‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬العزلة‮»‬‭ ‬لغابرييل‭ ‬غارثيا‭ ‬ماركيز،‭ ‬فالرواية‭ ‬‮«‬تحكى‭ ‬إصابة‭ ‬سكان‭ ‬قرية‭ ‬بكاملها‭ ‬بالأرق،‭ ‬فلم‭ ‬يناموا‭ ‬لمدة‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬الخطأ‭ ‬الذى‭ ‬لفتتْ‭ ‬انتباهه‭ ‬إليه‭ ‬الأستاذة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬يجعله‭ ‬يعترف‭ ‬بأنه‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬أنبئونى‭ ‬بالرؤيا‮»‬‭ ‬لأحد‭ ‬الأشخاص‭ ‬مقال‭ ‬موضوعه‭ ‬النوم‭ ‬فى‭ ‬ألف‭ ‬ليلة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬بعض‭ ‬القراء‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنه‭ ‬صاحب‭ ‬المقال،‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬كان‭ ‬خيالاً،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬–‭ ‬يكتب‭ ‬مقالاً‭ ‬حول‭ ‬النوم،‭ ‬عِوضًا‭ ‬عن‭ ‬المقال‭ ‬الذى‭ ‬سبق‭ ‬وأن‭ ‬أنجزه‭ ‬أحد‭ ‬شخوص‭ ‬الرواية،‭ ‬فى‭ ‬كسر‭ ‬لما‭ ‬تعارف‭ ‬عليه‭ ‬البعض‭ ‬بأن‭ ‬أحد‭ ‬شخوص‭ ‬الرواية‭ ‬هو‭ ‬انعكاس‭ ‬للمؤلف‭. ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الإشارة‭ ‬الصغيرة‭ ‬لفتة‭ ‬نقدية‭ ‬مهمّة،‭ ‬إذ‭ ‬يربط‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القراء‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬السرد‭ ‬بالضمير‭ ‬الشخصى،‭ ‬بين‭ ‬البطل‭ ‬ومؤلف‭ ‬الرواية،‭ ‬أى‭ ‬تطابق‭ ‬الهويات‭ ‬الثلاث‭ (‬المؤلف‭/ ‬الراوى‭ / ‬الشخصية‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحيل‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬ذاتيّة‭.‬

قراءة‭ ‬الكلاسيكيات

يُقدِّم‭ ‬كيليطو‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬فصلاً‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬لهذا‭ ‬نقرأ‭ ‬الأدب‭ ‬الكلاسيكى‮»‬،‭ ‬وكأنه‭ ‬يأتى‭ ‬جوابًا‭ ‬لتساؤل‭ ‬إيتالو‭ ‬كالفينو‭(‬1923-1985‭): ‬‮«‬لماذا‭ ‬نقرأ‭ ‬الأدب‭ ‬الكلاسيكي؟‮»‬‭ ‬فى‭ ‬الحقيقة‭ ‬عنوان‭ ‬كيليطو‭ ‬خادع‭ ‬مثل‭ ‬عنوان‭ ‬كلفينو،‭ ‬الذى‭ ‬قدّم‭ ‬أربعة‭ ‬عشر‭ ‬تعريفًا‭ ‬للكلاسيكيات،‭ ‬يبدأها‭ ‬بأنها‭ ‬هى‭ ‬‮«‬الكتب‭ ‬التى‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬نسمع‭ ‬الناس‭ ‬يقولون‭ ‬إننا‭ ‬نعيد‭ ‬قراءتها‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬نسمعهم‭ ‬مطلقًا‭ ‬يقولون‭ ‬‮«‬إننا‭ ‬نقرؤها‮»‬‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يضع‭ ‬استثناء‭ ‬واحترازًا‭ ‬يتعلّقُ‭ ‬بهؤلاء‭ ‬‮«‬واسعى‭ ‬الإطلاع‮»‬‭ ‬‮«‬فمهما‭ ‬اتسعت‭ ‬قراءات‭ ‬امرئ،‭ ‬سيبقى‭ ‬هنالك‭ ‬عدد‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الأساسيّة‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬يقرأها‮»‬‭ (‬أحمد‭ ‬شافعي‭: ‬جريدة‭ ‬شرفات‭: ‬2أكتوبر‭ ‬2012‭). ‬

كلفينو‭ ‬يُقدّم‭ ‬تعريفات‭ ‬لهذه‭ ‬الأنواع،‭ ‬إلا‭ ‬أنّه‭ ‬يُراعى‭ ‬الاختلافات‭ ‬والفروق،‭ ‬فعنده‭ ‬قراءة‭ ‬الشباب‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬قراءة‭ ‬النضج،‭ ‬والكتب‭ ‬التى‭ ‬تُفرض‭ ‬ككلاسيكيات‭ ‬فى‭ ‬مراحل‭ ‬التعليم‭ ‬الأولى‭ ‬قد‭ ‬تأتى‭ ‬فى‭ ‬مؤخرة‭ ‬الاختيارات‭ ‬لو‭ ‬حدث‭ ‬استطلاع‭ ‬رأى‭ ‬جديد‭. ‬مع‭ ‬نهاية‭ ‬عرضه‭ ‬للتعريفات‭ ‬يُخْبِرُنا‭ ‬أن‭ ‬الهدف‭ ‬الحقيقى‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬قراءة‭ ‬الكلاسيكيات؛لكونها‭ ‬‮«‬تعيننا‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬مَن‭ ‬نحن‭ ‬وأين‭ ‬هو‭ ‬موقفنا‮»‬‭ ‬ثمّ‭ ‬يَعْدِلُ‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬بقوله‭ ‬‮«‬قد‭ ‬يتصوُّر‭ ‬أحد‭ ‬أنّه‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬الكلاسيكيات‭ ‬‮«‬تحقيقًا‭ ‬لأى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الأغراض‮»‬‭ ‬أما‭ ‬السبب‭ ‬الوحيد‭ ‬لقراءتها‭ - ‬حسب‭ ‬رأيه‭ ‬–‭ ‬هو‭ ‬‮«‬أن‭ ‬قراءتها‭ ‬خيرٌ‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬قراءتها‮»‬‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬لعنوان‭ ‬كيليطو،‭ ‬فهو‭ ‬الآخر‭ ‬مراوغ‭ ‬لم‭ ‬يُقدّم‭ ‬إجابات‭ ‬صريحة‭ ‬لدوافع‭ ‬حاجتنا‭ ‬إلى‭ ‬الكلاسيكيات،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬يضع‭ ‬كلاسيكيات‭ ‬الأدب‭ ‬العربى‭ ‬مقارنة‭ ‬بكلاسيكيات‭ ‬الأدب‭ ‬الغربى،‭ ‬ويعترف‭ ‬بالفارق‭ ‬بينهما،‭ ‬فمثلاً‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬كُتبًا‭ ‬يُطلق‭ ‬عليها‭ ‬كلاسيكيات‭ - ‬بتعريف‭ ‬إرنست‭ ‬رونو‭ - ‬‮«‬‭[‬و‭] ‬هى‭ ‬تلك‭ ‬التى‭ ‬تُعرف‭ ‬أسماء‭ ‬مترجميها‮»‬‭ ‬لكن‭ ‬كيليطو‭ ‬يضيف‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬كتبًا‭ ‬لم‭ ‬تترجم‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬كلاسيكية‭ ‬محليّا،‭ ‬وفى‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬تكون‭ ‬الكتب‭ ‬غير‭ ‬مترجمة،‭ ‬تلك‭ ‬التى‭ ‬يُعرف‭ ‬شرّاحها،‭ ‬بل‭ ‬يوسّع‭ ‬دائرة‭ ‬التعريف‭ ‬هكذا،‭ ‬الكتب‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬هى‭ ‬التى‭ ‬‮«‬يُعرف‭ ‬مترجميها‭ ‬وشرّاحها‭ ‬وربما‭ ‬أسماء‭ ‬ناشريها‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذى‭ ‬يسمح‭ ‬بتسلُّل‭ ‬كتاب‭ ‬حداثيين‭ (‬وأحياء‭) ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الدور‭ ‬التى‭ ‬تُعنى‭ ‬بالكلاسيكيات‭ ‬ككونديرا‭ ‬الذى‭ ‬تسلّل‭ ‬إلى‭ ‬غاليمار‭ ‬وطُبع‭ ‬له‭ ‬فى‭ ‬حياته‭.‬

ويدخل‭ ‬فى‭ ‬الكلاسيكيات‭ ‬عند‭ ‬كيليطو،‭ ‬الكتاب‭ ‬الذى‭ ‬يدرّس‭ ‬فى‭ ‬الصف‭ ‬المدرسى‭ ‬فى‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليميّة‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتماس‭ ‬مع‭ ‬كلفينو‭ ‬فى‭ ‬اعتبار‭ ‬الكلاسيكات‭ ‬هى‭ ‬‮«‬كتبٌ‭ ‬تتركُ‭ ‬تأثيرًا‭ ‬فريدًا،‭ ‬سواء‭ ‬استعصت‭ ‬على‭ ‬الامحاء‭ ‬من‭ ‬العقل‭ ‬أو‭ ‬أخفت‭ ‬نفسها‭ ‬فى‭ ‬تلافيف‭ ‬الذاكرة،‭ ‬متنكرة‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬لاوعى‭ ‬فردى‭ ‬أو‭ ‬جمعى‮»‬‭. ‬فالاختيارت‭ ‬القرائية‭ ( ‬وهى‭ ‬نقيض‭ ‬لما‭ ‬يقصده‭ ‬كلفينو،‭  ‬بأنها‭ ‬التى‭ ‬تقع‭ ‬خارج‭ ‬المدرسة‭ ‬وبعدها‭) ‬التى‭ ‬تُقدّمُ‭ ‬للطلاب‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬تكون‭ ‬ذات‭ ‬مغزى‭ ‬–‭ ‬غير‭ ‬مُعلن‭ ‬–‭ ‬يتمثّل‭ ‬فى‭ ‬غرس‭ ‬الثقة‭ ‬والاعتداد‭ ‬والشموخ‭ ‬فى‭ ‬نفوس‭ ‬هؤلاء‭ ‬الصبيّة‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة،‭ ‬ويضرب‭ ‬مثلاً‭ ‬بما‭ ‬كان‭ ‬يدرسُهُ‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬‮«‬سقط‭ ‬الزند‮»‬‭ ‬للمعرى،‭ ‬خاصة‭ ‬تلك‭ ‬التى‭ ‬يظهر‭ ‬فيها‭ ‬اعتداده‭ ‬بنفسه،‭ ‬وإرادته‭ ‬بأن‭ ‬يأتى‭ ‬بالجديد‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬يهتدِ‭ ‬إليه‭ ‬قبله‭ ‬أحد،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التى‭ ‬تغرس‭ ‬التواضع‭ ‬فى‭ ‬النفوس‭: ‬‮«‬خفّف‭ ‬الوطء‭ ‬ما‭ ‬أظنّ‭ ‬أديم‭ ‬الـ‭ / ‬أرض‭ ‬إلاّ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأجساد‭ / ‬وقبيح‭ ‬بنا‭ ‬وإن‭ ‬قدم‭ ‬العهـ‭/ ‬دُ‭ ‬هوان‭ ‬الآباء‭ ‬والأجداد‮»‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬التى‭ ‬يكون‭ ‬هدفها‭ ‬أن‭ ‬تربطنا‭ ‬بالسابقين‭ ‬وأن‭ ‬نعتنى‭ ‬بهم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نتجرأ‭ ‬عليهم،‭ ‬وأنّ‭ ‬‮«‬أكبر‭ ‬تقدير‭ ‬واحترام‭ ‬لهم‭ ‬هو‭ ‬ألّا‭ ‬ننساهم‭ ‬وأنْ‭ ‬نستمر‭ ‬فى‭ ‬الحديث‭ ‬إليهم‭ ‬‮«‬

بصفة‭ ‬عامة‭ ‬كتابة‭ ‬كيليطو‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تستكشف‭ - ‬دومًا‭ ‬–‭ ‬جديدًا،‭ ‬فإنها‭ ‬تخلِقُ‭ ‬–فى‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬–‭ ‬متعة‭ ‬ولذة،‭ ‬فهى‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تصنع‭ ‬مسافة‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬تجهُّم‭ ‬النظريات،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمنع‭ ‬–‭ ‬بالضرورة‭ ‬–‭ ‬أن‭ ‬تتردد‭ ‬فى‭ ‬ثناياها‭ ‬أصداء‭ ‬مصطلحاتها‭ ‬فى‭ ‬خِفة‭ ‬ورشاقة،‭ ‬وكأنها‭ ‬كتابة‭ ‬تنزع‭ ‬إلى‭ ‬المرح‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يغفل‭ ‬المعرفة‭ ‬والعمق،‭ ‬وبالأحرى‭ ‬المعرفة‭ ‬المرحة،‭ ‬فهى‭ ‬كتابة‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬خالد‭ ‬بلقاسم‭: ‬‮«‬ضدّ‭ ‬الأجيلاست‭ [‬الشخص‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يضحك،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬قصد‭ ‬بها‭ ‬رابليه‭]‬،‭ ‬وتعارض‭ ‬التجهّم،‭ ‬بل‭ ‬تقوّضه‮»‬‭ ‬تعيد‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬جماليات‭ ‬التراث‭ ‬باكتشاف‭ ‬أسراره،‭ ‬فتكون‭ ‬مغريًّا‭ ‬بقراءته‭ ‬أو‭ ‬سببًا‭- ‬غير‭ ‬مباشر‭ - ‬لأن‭ ‬نقرأ‭ ‬الأدب‭ ‬الكلاسيكى‭.‬

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة