للفنان: خضير البورسعيدى
للفنان: خضير البورسعيدى


البستان

رحلة الخط العـربى فى مصر

أخبار الأدب

الثلاثاء، 20 أبريل 2021 - 11:51 ص

 

كتب: محمد بغدادى

بظهور فن الخط العربى ربحت الإنسانية والتراث العالمى نوعا جديدا وفريدا من الفنون العالمية، وفى تصورنا إن الفنان العربى فى إبداعاته المتنوعة واستخداماته المتعددة للخط العربى يسبق حركة الفن التشكيلى المعاصرة فى نزوعه إلى التجريد، ونستطيع أن نقول أن الفنان العربى أنجز أجمل إبداعاته الفنية عبر لوحاته الخطية منذ وقت مبكر، باستخداماته أبجدية الحرف العربى، مستغلا فى ذلك قدرة الخط العربى الهائلة على التشكيل، وقابلية حروفه للمد والبسط، والصعود والهبوط، واللين والحدة، وابتكر حلوله الخاصة للتعبير عن مضمون الكلمات التى يكتبها، وفنان الخط العربى يبدع لوحاته وهو فى حالة من الوجد والتصوف، وتتجلى الملامح العامة لفلسفة فن الخط العربى فى عدة نقاط لعل أهمها: الابتعاد عن محاكاة الطبيعة، واللجوء إلى أبسط الحلول لكتابة الخطوط البسيطة ذات البعد الواحد، وسيادة الروح الصوفية التى تتجلى فى لوحات الخط العربى.

للفنان: حامدالآمادى


 ومنذ فترة ليست بالقليلة يسعى مبدعو فن الخط العربى للحفاظ على هذا الفن العربى الأصيل، وحمايته وصونه وإبراز وظائفه الاجتماعية، ودلالته الثقافية، وأهميته فى نقل المعارف ليصبح عالما ثقافيا قائما بذاته، وقد بذل العديد من المبدعين من كبار الخطاطين جهودا كبيرة، وقاموا بمحاولات متعددة للحفاظ على هذا الفن العريق.

وقد اكتسب الخط العربى مكانة لارتباطه بالقرآن الكريم، فأبدع الخطاطون وتفننوا فى كتابة المصاحف وزخرفتها، وكتابة الآيات القرآنية الكريمة، وعنوا عناية خاصة بكتابة «البسملة»، (بسم الله الرحمن الرحيم) فى صور رائعة متعددة، وكان حافزهم الأول فى هذا الإبداع هو إيمانهم، فهى آية من آيات القرآن الكريم تستفتح بها كل سورة من سوره، ثم إن لها تأثيراً مباشراً فى سلوك المسلم اليومى، فهو يرددها فى كل مناسبة، وعندما يباشر أعماله أو يتناول طعامه وشرابه، ويكتبها فى مطلع كتبه، ورسائله، وعقود بيعه وشرائه، فهو يستبشر بها ويتفاءل، وقد جاء فى الحديث النبوى الشريف: «كل عمل لا يبدأ بسم الله فهو أبتر»، أى مقطوع الخير والبركة.

وتعود أهمية صورة الحرف العربى إلى ارتباطها بكتابة القرآن الكريم الذى انتشر بانتشار الدين الإسلامى، ويؤكد ذلك «أرنست كونل» فى كتابه «فن الخط العربى» فيقول: «لقد منح العرب الدين الإسلامى اللغة والخط، وانتشر الخط العربى فى الدين الإسلامى فأصبح رابطاً لجميع الشعوب العربية، رغم الحدود الحاجزة».

احتفى العرب بالخط الجميل، واعتنوا به عناية خاصة عند كتابة القرآن الكريم، منطلقين من مقولة الإمام على بن أبى طالب الشهيرة:»الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً»،أما عبد الله بن عباس فقد قال: «الخط لسان اليد»حتى تحول الخط الجميل موازياً فى أهميته للتجويد فى القرآن الكريم.

ولأن الكلمة العربية عبارة عن صورة تتضمن صوتاً، ومعنى وشكلاً مرئياً، يساوى كل منها الآخر ويناظره، وعلى هذا فإن الكلمة العربية حينما استخدمت كأحد العناصر الفنية فى الزخرفة الإسلامية، لم يكن القصد منها هو الاستفادة من شكل الكلمة الفنى وحسب، وإنما قصد الفنان بذلك ابداع لوحة فنية متكاملة الأركان من حيث: اللون والخط، والكتلة والفراغ، والشكل والتكوين.

وكثيراً ما نرى فى الزخرفة العربية حروفاً منفصلة أو مبهمة كانت هى فى ذاتها أساساً أو موضوعاً للوحة فنية، وترجع الناقدة الألمانية «آن مارى شميل» ذلك  إلى أن العرب قد أعطوا لكل حرف مدلولات خاصة، فالميم مثلاً كانت تعبيراً عن الضيق، والصاد هى مقلة الإنسانية، والدال صورة العاشق الذى صار دالاً من شدة الحزن، والسين هى الأسنان الجميلة، والراء صورة الهلال، وذلك يوضح لنا أن اللسان العربى نشأ عن حدوس صادقة لطبيعة الأشياء، وليس هو مجموعة من الرموز الشكلية المنفصلة عن مفاهيمها.

                                   محاسن الخط العربى
 الخط العربى أينما ظهر بهر. فقد كان المتفننون فيه على درجة عالية من الإبداع تنطق بذلك مصاحفهم وكتاباتهم الثلثية الثقيلة فى مساجدهم وقبابهم، وفى مؤلفاتهم عن الخط.
 ذكر النويرى فى كتابه نهاية الأرب فى فنون الأدب أنه: «سئل بعض الكتاب عن الخط، متى يستحق أن يوصف بالجودة، قال: إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه، وتساوت أطنابه، واستدارت أهدابه، وصغرت نواجذه، وانفتحت محاجره، وقام لكاتبه مقام النسبة والحلية، وخيل إليه أنه يتحرك وهو ساكن».
استطاع الخط العربى فى رحلته الطويلة أن ينتشر فى كثير من بقاع المعمورة، فقد تلألأ فى الجزيرة العربية، وتألقت زهوره فى الشام، وملأت عطوره العراق، وفارس والسند وخراسان، واستطاع أن يتغلغل إلى بلاد أرمينية، والقوقاز، وآسيا الصغرى، وأفريقيا والمغرب العربى والسودان، والأندلس وجنوب فرنسا وصقلية، منتشراً كأنه جيش من العلماء الداعين لانتشار الحضارة، واضعاً آثاره الواضحة على كل مظاهر الحياة والناس.

للفنان: سيد إبراهيم


 لقد استطاع الخط العربى فى رحلته الطويلة أن يحل مكان خطوط كثيرة، كانت موجودة فى عدد من الأمصار، وأن يسيطر عليها، إما بالتغيير، أو بإلغائها تماماً، كما سادت لغة العرب على لغات محلية سابقة لها. فمن إقليم لآخر، كان الشكل الواحد من الخط العربى يأخذ أشكالاً مختلفة، دون أن تنفصل هذه الأشكال الجديدة على الشكل الأساسى الأصل. فمثلاً، نجد الخط الكوفى الأندلسى يختلف قليلاً عن الخط الكوفى القيروانى، كما أن هذين الخطين يختلفان عن الخط الكوفى نفسه الذى انتشر فى دمشق وبغداد والقاهرة.
أما رئاسة تعليم الخط فقد انتقلت إلى مصر بعد خراب بغداد، وصارت إلى عفيف الدين وطبقته كما جاء فى صبح الأعشى. ثم اشتهر شمس الدين بن أبى رقبة. وعنه أخذ الزفتاوى  وعنه نور الدين الوسيمى، وعنه ابن الصايغ شيخ كتاب مصر فى عصره (845هـ)، وله رسالة فى تعليم الخط، ثم انتهت إلى تلامذتهم حتى يومنا هذا. كما ذكرهم صاحب حكمة الإشراق.
 قال ابن خلدون: «وطما بحر العمران والحضارة فى الدول الإسلامية فى كل قطر، وعظم الملك، ونفقت أسواق العلوم، وانتسخت الكتب، وأجيد كتبها وتجليدها، وملئت بها القصور والخزائن الملوكية بما لا كفاء له، وتنافس أهل الأقطار فى ذلك وتناغوا فيه، ثم لما انحل نظام الدولة الإسلامية وتناقصت، تناقص ذلك أجمع، ودرست معالم بغداد بدروس الخلافة بغزو المغول، فانتقل شأنها من الخط والكتابة بل والعلم إلى مصر والقاهرة، أما الشرق فبحوره زاخرة، وإن كانت قد خربت بغداد والبصرة والكوفة، إلا أن الله تعالى قد أحل محلها أمصاراً أعظم، وانتقل كل ذلك منها إلى عراق العجم والهند وما وراء النهر من المشرق».
وإذا تحدثنا عن رحلة الخط العربى فى مصر.. فإننا نستطيع أن نقول إن رحلة الخط العربى الحقيقية فى مصر لم تبدأ إلا بعد سقوط الخلافة العباسية فى بغداد، واجتياح جحافل التتار لمراكز الإبداع فى المشرق العربى، سواء فى بغداد أو دمشق، وبعدها انتقلت الخلافة ومعها الريادة فى معظم الفنون للقاهرة، وقبل ذلك التاريخ كانت هناك اجتهادات مصرية متعددة، قد بدأت هنا وهناك فى مجالات إبداع وإجادة الخط العربى، فى محاولة لمواكبة ما تم إنجازه من إبداعات وجهود تأسيسية لابتكار ووضع قواعد راسخة للخطوط العربية الأصيلة، والتى كان قد بدأها المبدعون العراقيون الأوائل، والذين كان قد تقدمهم فى وقت باكر أبو على محمد بن على بن الحسين بن مقلة، ومن بعده جاء أبوالحسن على بن هلال بن عبدالعزيز، المعروف بـابن البواب، ثم جاء ياقُوت المُسْتَعْصِمىأوجمال لدين أبوالمجد ياقوت بن عبدالله الرومى المستعصمى، ليضيف جماليات جديدة للحرف العربى سواء على مستوى التكوين، أو الابتكار. 
وعندما التحق الخط العربى بمدرسة الفنون المصرية العريقة، التى أسسها قدماء المصريين قبل ظهور الإسلام بما يقرب من خمسة آلاف عام، فأدخلت عليه العديد من الإضافات والابتكارات والاستخدامات، وظلت المدرسة المصرية متربعة عدة قرون على قمة الإبداع والتجديد، فجودت القديم الوافد إليها من المشرق العربى، وابتكرت الجديد، فأضافت لفنون الخط العربى، الكوفى الفاطمى على اختلاف أشكاله وتصميماته، وفى العصر المملوكى عاد الخطا الكوفى إلى الظهور مجددًا بعد أن اتخذه المماليك عنصرا زخرفيا للأبنية والمساجد والخانقاوات، وفى العصر المملوكى ظهر خط الثلث فى سياقات فنية جديدة، وظهرت الخطوط المشتقة من خط الطومار الكبير، وهما: خط الثلث وخط الثلثين (خط السجلات)، الذى دونت به سجلات الحكومة فى العصر المملوكى، وفى العصرالأيوبى ازدهر خط الثلث مرة أخرى، والذى أطلق عليه البعض بالخط الأيوبى.
 وظلت مصر متربعة على عرش الفنون الإسلامية فى العمارة والخط العربى، والصناعات التقليدية المتعددة، إلى أن جاء الغزو العثمانى عام 1517 ميلادية، وبدخول الأتراك إلى مصر، انتقلت الخلافة إلى استانبول، وتم استقدام كل أرباب الحرف والخطاطين المبدعين إلي عاصمة الدولة العثمانية، ليس من القاهرة فحسب، بل من عدة عواصم إسلامية أخرى، لعل أبرزها مدينة تبريز، وفى عاصمة الدولة الجديدة بدأت تتشكل ملامح جديدة للخط العربى، وتتسع الآفاق نحو إبداع أنواع جديدة من الخطوط العربية، وظلت المدرسة العثمانية تقود حركة تطوير وتجويد الخط العربى حتى أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، حيث استعادت مصر فى دورة من دورات التاريخ المعاكسة ريادة الخط العربى من جديد، بعد ثورة مصطفى كمال أتاتورك ضد كل ما يمت للعرب بصلة، وكان أولها الحرف العربى الذى تحول إلى الأحرف اللاتينية، محاولا اللحاق بالدول الأوروبية فى مسار تأسيسه لتركيا الحديثة، فبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، عادت المدرسة المصرية لتزدهر مرة اخرى، على أيدى كوكبة من الرواد الأوائل، الذين تتلمذ بعضهم على يد مشايخ المهنة الأتراك، الذين فروا من قسوة العيش، حيث بارت تجارتهم، وضاقت أرزاقهم، بعد أن أحيل الحرف العربى إلى التقاعد وعدم الصلاحية فى بلادهم، بعد استبداله بالحرف اللاتينى، فجاءوا إلى مصر يلتمسون فى أحضانها الدافئة إعادة إحياء فنهم الجميل، أملا فى الحفاظ عليه، وحمايته من الاندثار، وكان الملك فؤاد الأول ملك مصر آنذاك هو أول من أولاهم رعايته، وفتح لهم ذراعيه، وأجزل لهم العطاء، وضمهم إلى الخاصة الملكية، وانطلق الخط العربى فى مصر من جديد نحو التألق والتجديد والتجويد، فأضفت عليه المدرسة المصرية من سماحتها، وعراقتها سمات جديدة ومتفردة، فعلى سبيل المثال سنجد الحرف العربى فى الخط الديوانى والديوانى الجلى قد لانت حروفه، وتوافقت حركاته مع صعوده ونزوله، ورقت انحناءاته، وتحررت ثناياه من الحدة والجفاف، وتمت هذه الابتكارات على يد مصطفى بك غزلان، ومن بعده تلميذه المبدع الحاج محمد عبدالقادر، وكذلك تجديدات وإرساء قواعد الخط الكوفى على يد الفنان المجدد أحمد يوسف، وجاء الدور المؤسس لعميد الخط العربى الفنان سيد إبراهيم، ثم الفنان محمد عبد القادر، ولعل الفنان الكبير خضير البورسعيدى قد حمل راية الرواد عبر عدة عقود حتى يومنا هذا، وظلت المدرسة المصرية تبهر العالم بأساتذتها وروادها الذين تتلمذت على يديهم عدة أجيال من الخطاطين المصريين والعرب على مر السنين.
 

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة