مـيخائيـل نـعيمـه
مـيخائيـل نـعيمـه


أشباه الحكماء

الأخبار

الخميس، 22 أبريل 2021 - 05:30 م

أنتم من هذا العالم فى بقعة صغيرة جرَفت إليها الأيّام منذ القدم، وما تزال تجرف، كل ما اسودّ من رغبات القلب البشريّ وما ابيضّ، وكلّ ما دبّ على الأرض من أفكار الناس، وحلّق فى الجوّ من أشواقهم، فكم غازٍ غزاها فتملّكته وما تملّكها، وكم فاتح جاءها فطوته من قبل أن يحظى بمفتاحها، هى بقعة قلّ ذهبها وكثرت مذاهبها ــ هذه البقعة التى تدعونها بلادكم، وهناك أشباه العقلاء وما هم بالعقلاء، الذين يتمنون لو تعكس الحال فتفيض هذه الأرض فضة وذهباً لا لبناً وعسلاً، وتغيض ينابيع إلهامها، فتذوى مذاهبها وتمسى هشيماً يعافه الحيوان والإنسان وتحتمى به الفئران والديدان، فهم يقولون إن المال سؤدد وسلطان، وقلّة المال شقاء وخذلان، وهم لا يعرفون من الغنى غير الغنى بالفلس والدينار، ولا من الفقر إلّا الفقر إلى الدار والعقار، أما أن تكون لهم ثروة لا تصدأ ولا تنتن ولا تذوب، وأما أن تكون لهم مذاهب تعلمهم أن الغنى بالشيء هو الاستغناء عنه، وأن مكمن القوّة فى الفكر والخيال لا فى الظهر والعضل، ولا فى السحت والمال، فكلّ ذلك عندهم هراء فى هراء.

وهناك أشباه الحكماء وما هم بالحكماء، الذين يرون فى كثرة المذاهب كارثة فيلومون السماء التى ما جعلت هذه الأرض منبتاً لشتى المذاهب حتى جعلْتها منبتاً للشفار والنصال ومعقلاً للخصام والنضال. فتفرّقت كلمتها، ولانت شكيمتها، وهانت قيمتُها. فكانت موطئاً لأقدام الفاتحين، وألعوبةً فى أيدى الطامعين. وهؤلاء واثقون كلّ الثقة، ومؤمنون كلّ الإيمان بأن جراثيم الشقاق والنزاع إنَّما هى فى المذاهب عينها لا فى جهل المتمذهبين بها وهم عن اكتناهها قاصرون، ومن ثمّ فأشباه الحكماء يقولون إنّ مذاهب هذه البلاد قد أدت بها إلى الخمول والتواكل، والاستسلام والتخاذل، فسبقتها الأمم التى تتكل على نشاط ساعدها وقوّة إرادتها، وتركتها خلفها أشواطًاً لا حول لها ولا طول، ولا رهبة ولا وقار، وكأنَّهم بذلك يقولون إن من يتكل على ساعده أقوى من الذى يتكل على ساعد ربّه، لقد كفروا بالحياة وما أحسنوا الكفر، وآمنوا بشعرة من شعورها فما أحسنوا الإيمان، ولو أنّهم أحسنوا الإيمان لعرفوا أن الاتكال على القوّة التى منها وفيها وإليها كلّ شيء لهو القوّة التى ما بعدها قوّة، ولو أنّهم أحسنوا الكفر لأدركوا وهنَ الاعتداد بالنفس وخذلان القائل : " بمشيئتى عملت وأعمل وسأعمل كيت وكيت "، أيّها الكافرون أحسنوا الكفر. ويا مؤمنون أحسنوا الإيمان، أمّا الذين لا كفرهم كفر ولا إيمانهم إيمان فأشدّ الناس وبالاً على أنفسهم وعلى الناس.

وهناك أشباه المصلحين وما هم بالمصلحين، الذين يرتأون توحيد المذاهب لاعتقادهم أن الناس إذا ما توحّدت مذاهبهم توحّدت قلوبهم وأفكارهم، فجلت عنهم جيوش التعصّب والضغينة وحلَّت محلَّها أجناد الوئام والسلام، إذن فليوحدوا أذواق الناس فى كلّ ما يأكلون ويشربون، ويحبون ويكرهون، إذن فليوحدوا أحلامهم فى الليل وأهواءهم فى النهار، إذن فليوحدوا ميولهم وأعمالهم، وليوحدوا قاماتهم وبيئاتهم، كى لا يحسّ واحدهم ما لا يحسّه الآخر، إذن فليصهروهم فى أتون واحد ويسكبوهم من جديد فى قالب واحد، لكننى أقول لكم إنَّهم ولو فعلوا كلّ ذلك ــ وهو مستحيل إلاَّ على الله، ولو شاء الله لفعله من زمان ــ لما خلقوا مذهباً واحداً تنصب فيه جميع قلوب الناس وأفكارهم، فما المذاهب بأنواعها سوى اتجاهات الفكر المولود إلى الفكر المولِّد، والخيال الأدنى إلى الخيال الأسمى، هى مناقب كثيرة فى جبل الوجود لكنها كلها تؤدى إلى القمة، هى شعاعات عديدة فى دائرة الوجود لكنها تجتمع فى محور واحد هو الله، فما دامت غايتك من مذهبك الوصول إلى الله وغايتى من مذهبى الوصول إلى الله، فما شأنك معى أيّ طريق أسلك إلى الهدف. وما شأنى معك إذا سلكت إليه طريقاً غير طريقى ؟

لعلّك نسر تبلغ القمّة بخفقة واحــدة من جناحيك، ولعلنى سلحفاة أدبّ فى منعرجات الأرض، أو لعلَّنى أصبحت خيالاً هائماً كيفما اتَّجه واجه الخيال الأكبر، وأنا، من قبل ومن بعد، ما اخترت سبيلى إلى الله، بل اختاره الله لى، هل تكون أعدل من الله وأعرف بمشيئته منه ؟

وأخيراً هناك أشباه المرشدين وما هم بالمرشدين، القائلون بنبذ التعصب وهم من المتعصبين، والكارزون بالتساهل وليسوا من المتساهلين. وهم يعنون بالتعصب تعلُّق الانسان بمذهبه تعلُّقاً يحمله على كره كلّ ذى مذهب سواه، وهم يقصدون بالتساهل أن يغضّ الواحد الطرف عن الاختلافات التى بين مذهبه ومذهب جاره فلا يقاتله من أجلها ولا يضطهده، ولا سيما إذا كان كلاهما من أبناء وطن واحد، ولهم فى ذلك شعار يكثرون من ترديده وهو " الدين لله والوطن للجميع " وكانوا أصدق نطقاً وأبعد تأثيراً لو أنَّهم قالوا : " الوطن لله والله للجميع " فمن أين لنا، وكلنا عيال على الله، أن ندّعى الملك فى الأرض، حذارِ يا صاحبى أن تجعل نفسك أكرم من الله، وأعلم منه بذاته، وأعدل منه فى خلقه.
من كتاب « البيادر »

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة