عبدالرحيم كمال
رمضان المصرى
الثلاثاء، 27 أبريل 2021 - 10:37 ص
عبدالرحيم كمال
شهر رمضان هو الشهر الذى له طعم خاص فى مصر، لا يوجد دولة فى العالم لها تلك الطقوس الموجودة فى مصر، نسب البعض تلك المظاهر (من فانوس وأهازيج واحتفالات) للدولة الفاطمية، لكننى أظن أن الامر أقدم من ذلك، فإذا كانت الدولة الفاطمية هى التى أدخلت الفانوس والحلوى والاحتفالات فلماذا لا يوجد ذلك الطابع حتى الآن فى بلاد المغرب العربى؟، معقل ومولد الدولة الفاطمية، بينما ظلت فى مصر، إنهم المصريون فى ظنى ونظرتهم للطقس الدينى على أنه طقس فرح واحتفال، فإن كان الفانوس وافدا فإن (وحوى يا وحوي.... إيوحا) هى كلمات فرعونية تغنى بها الأطفال منذ آلاف السنين فلما قدم رمضان إلى مصر أحاطوه بأغانيهم ومفرداتهم وفرحتهم، المصريون ينقشون كل شيء . لديهم رغبة فى الخلود تفوق باقى بلاد الأرض، يريدون دائما أن يقولوا إنهم كانوا هنا وكانوا يحتفلون بتلك الطريقة وكانوا يرقصون هكذا، بكل طريقة ممكنة، يوثقون أيامهم المهمة واحتفالاتهم السنوية، سواء على جدران المعابد أو على جدران الحياة، بتزيين الشوارع وتعليق الفوانيس والزينة والغناء بمفردات تجمع بين كلمات من الهيروغليفى والعامية والعربية الفصحى إذا لزم الامر، يغنون للنهر حتى يفيض، ويغنون للهلال حتى يقبل ويشرق، ويغنون للحصاد، حتى القرآن الكريم كانت دائما أصوات المقرئين المصريين هى الأكثر عذوبة وخشوعا وتغنيا وقورا بآيات الذكر الحكيم، نوثق ايامانا بالحفر والنقش والغناء ونختلس البهجة عبر كل طريق ممكن، حتى الصبية والمراهقين تراهم بشكل تقائى يكتبون أسماءهم ولو بشكل ركيك على الجدران معلنين أن فلانا يحب فلانة ويجمع بينهما قلب قد اخترقه سهم، لا مانع ورغم ركاكة ذلك إلا أنه فى جانب آخر ومن زاوية أخرى هو ميراث مستمر لفكرة التسجيل والاحتفال الموثق المنقوش، المصرى يتحاور مع كل شيء يتحاور مع الجدران والشجر والقمر والليل والجيران، إنه ليس الفضول وحده والتجاوز فى حرية وخصوصية الآخرين كما يبدو لكنه أيضا الشغف بالحياة والرغبة فى المشاركة. المصرى الذى احتفل بكل شيء حتى الموت فجعله فرحا أيضا بشكل أو بأخر وجعل للموت طقوسا ومواعيد متتابعة للزيارة فكان اليوم الخامس عشر واليوم الأربعين وأقام السرادقات وحوّل الموت إلى طقس حى . لم يكن تابعا ولا منقادا فى طقوسه حتى لو اجبرته الأيام على ذلك، فكان ينتقى ويختار، ينتقى من شيعة الفاطميين شكل الاحتفال ويأكل حلواهم ويتذوق الأطعمة على سماطهم لكنه يحتفظ بعقيدته السنية، ليكون المسلم المصرى هو المسلم صاحب المزيج الفريد بالتزامة بالمذهب السنى وتعلق قلبه التام بآل البيت فى محبة وتوقير وإجلال عاقل، فيصير متفردا عن الآخرين، التراتيل الموسيقية فى الكنائس المصرية الأرثوذكسية أيضا تجعلها متفردة عن كل كنائس الدنيا، تراتيل حزينة واخرى مبتهجة بإيقاع وتنغيم بديع لن تجد له مثيلا، المصرى أيا كانت ديانته أو مذهبه أو أيدولوجيته ستراه مختلفا تماما عن نظرائه فى بلدان الدنيا، يتجلى ذلك فى شهر رمضان الذى صار فرصة سنوية لإظهار فنون المصريين ومتابعتها، تم اختراع موسم درامى بالكامل لشهر رمضان، يتابع فيه المشاهد عشرات المسسلات والبرامج الترفيهية فى محاولة ترفيهية هى الأكبر والأغلى على مدار السنة، تحول السمر الرمضانى القديم الذى كان فى البيوت والمقاهى والمناضر وبيوت الباشوات والأكابر فى شهر رمضان، إلى موسم مليء بالتسلية مازال يتكرر على مدار اكثر من خمسين عاما على شاشات التليفزيون وانتقل الأمر إلى دول عربية أخرى تقلد طريقة المصريين فى الاحتفال الفنى بشهر رمضان، احتفال متنوع على مدار سنوات يأتى مرة فى صورة فوازير الثلاثى سمير وجورج والضيف ثم نيللى ثم شريهان وبرامج تسلية أخرى تعتمد على المزاح مع الآخرين بدأت بالكاميرا الخفية باختلاف المقدمين وكان نجومها هم المواطنون العاديون لتصل بنا إلى رامز جلال واستضافته لنجوم زملاء له يوقعهم فى فخ المزاح والسخرية لتعلو نسب المشاهدة ويصير جزءا من سمر الليل الرمضانى المعتاد وتتشكل ذاكرة أجيال مع ذلك الشهر وطرق التعبير عن الاحتفال به، فيصير جمهور أطفال ليالى الحلمية أباء وجدودا يشاهدون المعروض الحالى بحنين جارف لما شاهدوه فى الماضى. ويواصل شهر رمضان تلونه بالألوان المصرية فى كل شيء، فى الموسيقى والدراما ويظهر مع كل شهر جيل جديد من الفنانين سيكونون جزءا من ذاكرة من يشاهدهم الآن من أطفال وصبية ومراهقين وكلما مضى بنا الزمن تعددت وسائل الفرجة وزاد عدد القنوات وزاد شغف وتشتت المشاهد بينها باحثا عن نقطة تعلو فيها المتعة حتى تصير فى مكان لائق من ذاكرته. رمضان المصرى هو شهر يختلف بالتأكيد عن رمضان فى أى دولة أخرى من دول العالم، قبل الكورونا كانت موائد الرحمن تملأ شوارع مصر، وكان الصبية يحملون أنواع العصائر ويقفون فى الإشارات المرورية لإفطار الصائم الذى فاجأه أذان المغرب قبل أن يصل إلى بيته، طقوس مصرية بحتة، لا يشعر بقيمتها وطعمها الخاص إلا كل مصرى اجبرته الظروف أن يقضى الشهر الكريم خارج مصر، ستصيبه وحشة لن يشعر بمثيلها فى شهر آخر وكأن رمضان ومصر قد اختلطا معه حتى صارا شيئا واحدا، تروى القصص انه فى عهد السلطان المملوكى (خشقدم ) تم تجريب أحد المدافع الجديدة وقت الغروب وما أن دوى صوت المدفع حتى ظن الناس ان السلطان يطلق المدفع لينبه الصائمين بموعد الإفطار وابتهجوا وخرجوا جماعات جماعات الى السلطان لشكره على ذلك التقليد الجديد، وصار من بعدها عند أذان المغرب كل يوم من شهر رمضان ينطلق صوت المدفع، لتظل مصر عبر اختلاف حكامها تتذوق رمضان بشكل مختلف عن الآخرين وتصبغ الشهر الكريم بهويتها وصبغتها الخاصة التى لا مثيل لها. مصر التى لونت كل شيء بألوانها فجعلت شم النسيم يوما لتلوين البيض بألوان شتى ولونت الأحزان والأفراح والموت والحياة بألوان مصرية خالصة ولونت التعب والارهاق والانتكاسات بألوان من الصبر والتحمل ولونت الاحتلال بتحين الفرصة للانقضاض عليه ولونت الحوائط برسوم بهيجة من جمال وكعبة لتخبر الناس ان فلان بن فلان قد حج هذا العام بيت الله الحرام، ولونت الفقر بصنع أرغفة قابلة للتخزين وجبن قديم فى جرار معتقة وأسماك مملحة قديمة ولونت الغربة بأغانى ومواويل عن الحنين للوطن ولونت شهر رمضان الكريم بالتسلية والبهجة والموسيقى والدراما .حتى صار رمضان فى مصر و كأنه رمضان المصري.