أسامة فاروق
محمد جمال: «طيران» ليست عن الثورة
الرواية الثانية للفائز بجائزة أخبار الأدب
الثلاثاء، 27 أبريل 2021 - 11:13 ص
حوار:أسامة فاروق
بعد سنوات من الالتصاق بالأرض صار للسكندريين فجأة قدرة على الطيران! وككل جديد كان لابد من بحث الأمر لتقنينه، فالطيران حرية بلا حد، وهو أمر لا يمكن السكوت عليه أو تمريره بسهولة. بين محاولات فرض الأمر الواقع ومحاولات السيطرة تمضى أحداث رواية «طيران» الرواية الثانية لمحمد جمال أو محمد أ. جمال كما أصبح يميز نفسه.
ولد جمال فى الإسكندرية قبل 29 عاما، درس الهندسة الكهربية ولم يعمل بها، وبدأ الكتابة بروايته الأولى «كتاب خيبة الأمل» التى تزامنت مع نهاية دراسته الجامعية وفاز بها بجائزة أخبار الأدب عام 2017. واجه صعوبات كثيرة لنشر روايته الأولى، أصابته «خيبة أمل» كبيرة إلى حد أنه قرر إتاحتها مجانا على الإنترنت، ربما لذلك كان ظهور روايته الثانية رغم عدم نشر الأولى حتى الآن مفاجأة إلى حد ما.
عندما طلبت منه إجراء حوار أصر على أن أقرأ روايته الأولى وكنت قد حمّلتها بالفعل، وكلما توغلت فيها أصبحت أكثر فهما لرغبته، فربما أراد إعطاء فرصة لهذا النص لتقديم صاحبه، ليس بحثا عن اعتراف أو تعاطف أو ثناء مستحق لكن لمعرفة ما بذل فيه من جهد، والحقيقة أنه تمكن من توظيف قدراته بشكل جعل النص يخرج بشكل متقن يتنافى أحيانا مع كونه العمل الأول، وبالتأكيد يتيح معرفة كاتبه بشكل أفضل، كما أنه حصل على الأقل على قارئ جديد، مع أن النص لا يفتقر للقراء رغم عدم الإتاحة!
لحسن الحظ لم ينتظر جمال تحديد مصير العمل الأول ليبدأ فى الثانى، فربما كان يوقفه إحباط تأخر النشر، إذ يقول إنه بدأ كتابة «طيران» بعد أن أنهى روايته الأولى مباشرة، بالتحديد فى 2016، اعتبرها تمرينا آخر على الكتابة «كنت قد أنهيت لتوى قراءة انقطاعات الموت لساراماجو وهزت كياني، قررت محاولة محاكاتها مع لعبة ماذا لو شبيهة، ماذا لو صار للسكندريين القدرة على الطيران مثلًا؟ بالطبع فشلت فى محاكاة ساراماجو، لا يوجد شخص قادر على محاكاة ساراماجو، فتوقفت عن ذلك بسرعة، لكن الفكرة كانت شغلتني» إلا أن الرواية لا تتوقف عند تلك الفرضية فقط، هناك شخصيات عديدة ترسم على مهل وتتشكل بعناية، ونوارس تعيد تشكيل العالم أو تخلقه من الأساس، وقصص متعددة ربما كانت نواة لشىء مختلف، هو نفسه يؤكد إنه لم يكن يملك أدنى فكرة عن الشكل الذى ستؤول له الأحداث طوال كتابة المسودة الأولى «لم تكن إلا محاولة تخيل أشخاص عاديين من مجتمع المدينة، وتخيل كيف سيكون رد فعلهم أمام معجزة كتلك. المسودة الأولى كانت بالكامل مشاهد منفصلة بلا أى علاقة ببعضها، وكنت شبه متيقن أنها لن تصلح لشيء. لكن مع المسودة الثانية استطعت رؤية خيوط تربط بعض الأشياء ببعضها، وفى الثالثة أهملت مشاهد وأشخاص مقابل مشاهد وأشخاص أخرى، وهكذا على مدار خمسة أعوام من اليأس والمحاولة والفشل والتكرار، صارت إلى شكلها الحالي. ولم يكن النوارس نواة لأى شيء فى الواقع، مشهد محاولة انتحار شيرى الفاشلة وما ترتب عليه من أحداث هو ما قادنى للنوارس لا العكس».
الخيوط المتقاطعة تلتقى لتكون سردية متماسكة عن الرفض والإذعان والثورات الفاشلة، ورغم ذلك يرفض جمال التأويل السياسى للرواية، أو لعله يرفض أن يكون التأويل الوحيد، خصوصا وأن وجهة نظره فى الكتابة عن الثورة فى الوقت الراهن كانت واضحة على لسان بطله فى روايته الأولى، الذى كان ضد هذه المسألة بشكل قاطع، لكنها وجدت طريقها فى «طيران» على أى حال رغم محاولات التمويه، فتبدأ الأحداث مثلا عام 2005 بدلا من2011 وتستخدم المدونات بدلا من الفيس بوك وهكذا. أسأله إن كانت وجهة نظره قد تغيرت، أم أنه فقط وجد المدخل والحيلة الفنية التى تتيح له ذلك، أو ربما مرت الفترة الزمنية الكافية التى تتيح رؤية الموقف كاملا وتكوين وجهة نظر تصلح للتسجيل؟
ويجيب: فى المطلق، أعتقد أن الوقت حان للكتابة عن الثورة، يفترض أن من عاشها، ونجا منها ومن توابعها، نضج إلى حد ما وصار عند كل منا نظرة فيها شيء يصلح كنواة لعمل فني، «جوائز للأبطال» لأحمد عونى فى رأيى كانت أول رواية تقنعنى بذلك.
لكن فيما يخص «طيران»، فهذه ليست رواية عن الثورة، هذه رواية عن ناس تطير فى الشارع، لا رمز هنا ولا مجاز، أو على الأقل لم أضع أيهما بشكل واع. يقول كبار صنعتنا أن هواجس الكاتب ستنعكس على كتابته مهما حاول أن يتجنبها، ربما حدث ذلك هنا، لكن على أى حال لم أقصد ذلك ولا أستطيع تأكيد حدوثه. أنا كتبت (ذات يوم، صار لدى السكندريين القدرة على الطيران....). كل ما تلا ذلك جاء نتيجة لبحثى عن بقية تلك الحكاية، لا عن حكايتى ولا حكايتنا.
-بالحديث عن أحمد عونى، كلمة الشكر فى نهاية العمل له ولآخرين تقول إنك تتقبل التعديلات ووجهات النظر فى مسودات أعمالك. لكن إلى أى حد تقبل التدخل فى العمل؟
التحرير عملية مهمة جدًا فى الكتابة، روائية أو غير ذلك. لكن شرطه الأهم بالنسبة لى هو الرغبة المشتركة من أطراف العمل، الكاتب والمحرر والناشر، للوصول إلى أفضل شكل ممكن للناتج. لا أقبل بتحرير يطلب منى قص 100 صفحة حتى يلائم العمل النشر، لكن أقبل بتحرير يطلب منى قص 200 صفحة إن أقنعنى المحرر أن ذلك يجعل الحكاية أفضل، وأنا شخص قابل للإقناع طالما حجتك سليمة. لا أدرى فى الحقيقة ما هى حدود قبول تدخل المحرر فى عملي، تجربتى التحريرية الوحيدة مع أحمد عونى كانت غنية لكنها لم تمس قلب الحكاية، بل أسفرت المناقشات عن تشذيب مسارها ليصبح أقل تشتتًا ويصل إلى هدفه، هدف الرواية الأصلي، مباشرة. لا أعرف إن كنت سأقبل بمحرر يحاول إقناعى بتغيير مسارى برمته.
لكن مثلما قلت، حجة سليمة مبنية على نية واضحة لتحسين العمل، لن أستطيع مجادلتها طويلًا.
-هذا يدفعنى لسؤالك كيف تكتب؟ هل تكتب نصوصك كدفقة واحدة أم يتطلب الأمر تحضيرا ما.
كلمة فكلمة، صفحة فصفحة، مسودة فمسودة.
المسودة الأولى دومًا هزيلة كهيكل عظمي، شديدة السوء وتفتقر إلى المنطق والمعنى والمتعة. أكره نفسى وصنعتى وحياتى خلالها وبعدها وأفكر كل لحظة فى التخلى عن كل شيء والبكاء حتى الموت. بعد انتهائها، ومرور فترة طويلة عليها أضعها فى الدرج حتى أنساها. ثم أبحث فيها عن خيط الحكاية، عن الشخصيات التى تصلح للتطوير والمشاهد التى لم تتضرر عينى من رؤيتها. حينها أبدأ فى المسودة الثانية، أبحث عن الصوت المناسب لحكاية تلك الحكاية، وأسمح لنفسى بكل أنواع المبالغات والاستعراضات مهما بدت مبتذلة ساذجة، فلو كانت المسودة الأولى 40 ألف كلمة فالثانية 80 ألفًا. يبلغ منى الغرور مبلغه مع المسودة الثانية حتى أكاد أتصل بلجنة نوبل وأبلغهم بعنوانى بالتفصيل حتى لا يتوه عامل توصيل الجائزة. الهدوء والتروى يكون عادة فى الثالثة، عندما أقرأ الثانية بقلم أحمر، لا غرور ولا إحباط هنا. أعتقد أن هذه القراءة هى التى تحدد إذا ما كان بين يدى كتاب فعلًا أم لا. تتراوح المسودة الثالثة بين إعادة الكتابة من جديد وبين تحرير النص السابق وترميمه. قد أحتاج لمسودات أخرى بعد الثالثة لكن العمل يكون شبه منته حينها.
-تعتمد كثيرا على كتابة المشهد السينمائي، إلى أى حد يفيد ذلك فى إيصال أفكارك؟
لا أعتمد على كتابة المشهد السينمائي، أعتمد على كتابة المشهد كما أراه، وكما أرتاح لقراءته بعد إعادة كتابته مرارًا.
-أغلب التعليقات السلبية عن أعمالك تدور حول الطول والألفاظ. لن أسألك إن كنت تفكر فى القارئ أم لا بل سأقفز للاستنتاج بأنك تفكر فيه فعلا لأنك ببساطة تكلمه وتوجهه فى بدايات الأعمال وفى نهايتها، لكن أريد أن أعرف -إن كان استنتاجى صحيحا طبعا
- كيف يؤثر تفكيرك فى القارئ على ما تكتبه وعلى ما سوف تكتبه بعد ذلك؟ بشكل مباشر هل ستفكر مثلا فى أن تكون أعمالك القادمة أقصر أو خالية من الألفاظ، «نظيفة» كما يحب هؤلاء القراء؟
استنتاج سليم، بالطبع أفكر فى القارئ، لا أحب الأدب المتعالى الذى يترفع عن القراء.
لكن فى النهاية لا سبيل لى بمعرفة ماذا يريد هذا القارئ، فلكل قارئ رؤيته الخاصة. لذا قارئى هو أنا، لا عن إعجاب خاص بالذات ولكن لأنى الوحيد الذى أستطيع الدخول فى رأسه وتحليل أفكاره. أسأل نفسى باستمرار: هل كنت سأحب أن أقرأ هذا لو لم أكن كاتبه؟ وهو ما يقودنى كل مرة لنفس النقطة: القصة عايزة إيه؟ الحافز النهائى هو الإخلاص للحكاية حتى أحب أن أقرأها، وأراهن أن بعض القراء سيفعلون. تحدثت مطولًا من قبل عن فكرتى فى استخدام «الألفاظ» فى الكتابة بشكل يطول عن المجال هنا، ولا أحب أصلًا الإشارة لفكرة أن العمل طويل. كتابة خيبة الأمل حوالى 450 صفحة، وطيران 350. هذه الأعمال طويلة فعلًا لمن لم يقرأ فى حياته سوى كتابين.
أعمالى القادمة، إن وجدت، ستكون محاولة أخرى للبحث عن حكاية جيدة، سواء طويلة أو قصيرة، نظيفة أو غير ذلك، على الأقل هذا ما أنويه.
- ما رأيك إذا ككاتب وكقارئ فى «جروبات القراء» التى انتشرت على مواقع التواصل مؤخرا؟ هل للقارئ سلطة حقيقة فعلا؟
للقارئ سلطة، بالطبع، لا أرى كتابا ناجحا نقديًا ولم يحبه عموم القراء ناجحًا. لكنى أرى نفس الشيء فى كتاب نجح جماهيريًا ولم ينجح نقديًا. كلاهما نجح «نسبيًا». لا أرى عيبًا فى أن يسعى كاتب لأحدهما مقابل الآخر. فى النهاية نحن نكتب لنرضى الرغبة الداخلية فى شكل نجاح بعينه هو الأمثل لكل منا. لو سنضع نموذجا مطلقا للنجاح، فهو حصول الكتاب على استحسان الجانبين بلا شك. هل يوجد قارئ ذو حد أدنى من الحصافة لا يحب الحرافيش؟ وهل يوجد ناقد يراها سيئة؟ لكن لا تسع إلى هذا النموذج إلا لو أردت قضاء ما تبقى من حياتك فى إحباط دائم.
-فكرة «الكاتب الناجح» تقودنا إلى روايتك الأولى حيث كان هناك بعض المبالغة فى مسألة الكاتب النجم الذى تتهافت عليه المحطات وتطبع كتبه الاف الطبعات. هل كان فى ذهنك نموذج بعينه؟ وهل روايات «البست سيللر» هى ما تطمح إليه رغم ما يقال عن حجبها للأدب الجيد؟
البست سيللر ليس بالضرورة أدب جيد لكنه ليس بالضرورة العكس كذلك. ونموذج البست سيللر فى روايتى الأولى، لا يقصد نموذج بعينه، لم يكن إلا النقيض المباشر للبطل الرئيسي.
- ما رويته فى عملك الأول وما تقوله الآن يؤكد إنك متابع بشكل جيد للوسط الثقافى وعالم النشر، من أين لك هذه الخبرة؟ وما الذى أضافته لك تجربة الاشتباك المبكر مع مشاكل النشر. وهى صحيح حالة تتكرر يوميا تقريبا، لكن العمل الذى فشلت فى نشره يحكى عن الفشل فى النشر وهى مفارقة كبيرة..
كنت واعيا حينها أنى لست ضحية ولم أتعرض لمشكلة استثنائية، هكذا كانت تجرى الأمور دومًا وستظل. لذا حاولت أن أوضح حينها أنى لست إلا شخصا سئم قواعد اللعبة وأراد أن يلعبها بطريقته، إليكم كتابى مجانًا وبلا وجع قلب.
لست متابعا جيدا أو خبيرا بالوسط الثقافي، لكنى كنت منذ بداية مراهقتى عضوًا فى منتدى (شبكة روايات التفاعلية) على الإنترنت، تجمع افتراضى للشباب المحبين لروايات مصرية للجيب. خرج من هذا التجمع لاحقًا الكثير ممن حاولوا أن يكونوا كتابا، منهم من نجح ومنهم من فشل. منحنى هذا نظرة على الطريقة التى تعمل بها الأشياء على أرض الواقع قبل حتى أن أفكر أن أدلو بدلوى فى اللعبة. وأعتقد أن رواية «كتاب خيبة الأمل» ذاتها توضح رأيى تجاه الأمر برمته.
-ما الموقف بالنسبة لهذا العمل الآن؟ هل ستنشره أم لا وإن نشرته هل سيكون بشكله الحالى أم ستجرى عليه تعديلات، لو أتيح لك اختصاره مثلا فى مقابل النشر فهل ستقبل؟
حينها وردنى عروض من عدة ناشرين، منهم محترمون صادقين، ومنهم كالعادة غير كذلك. ولأنى كنت لازلت غرا محدود الخبرة، قبلت بالعرض الأكثر بريقًا. ليتضح أن صاحبه غير قادر على الوفاء بوعده وكان يبحث فقط عن بعض الدعاية كناصر الغلابة... فى النهاية حظرنى على فيسبوك لأنى أتفاعل بـ haha على منشوراته الجادة.
تلقيت مؤخرًا عرضا من دار نشر صديقة لنشر «كتاب خيبة الأمل» من جديد، ويجرى التعاون على تجهيزه. لا أعتقد أن ثمة مجالا لتعديله أو اختصاره الآن، فهو لم يعد كتابي، بل كتاب محمد جمال ابن الرابعة والعشرين، قبل أن يتحول لمحمد أ. جمال الذى شارف على الثلاثين. أعتقد أن الكاتب الأصلى لن يحب ذلك وأنا مخلص لرغبته. التعديل الوحيد سيكون محاولة تخفيف حدة بعض ألفاظ السباب على لسان البطل، لأن الأعزاء فى الدار مهذبون بعض الشيء. عادةٍ لا أقبل هذا، لكن بما أن النسخة غير المنقحة ستظل موجودة على الإنترنت، فلا بأس.
-تسير فى أعمالك على درب زلق، بالتحديد فى المواقف الساخرة التى تتوقع فيها الضحك حتى لو كانت كوميديا سوداء فى بعض الأحيان، فإن لم تنتبه انزلقت إلى الخفة ومن الظرف إلى «الاستظراف».. هل تقلقك هذه المسألة وكيف تتحكم فيها؟
أنا دمى تقيل.
هذه حقيقة، كلما حاولت المزاح بشكل واع، أفشل بنجاح. فلا أحاول أبدًا إثارة الكوميديا. لكن ما يعتبره القراء كوميديا فى كتابتى هو فى الواقع الطريقة التى أفكر بها، وأتحدث بها، وأغازل الفتيات بها. لا أرى هذا مضحكًا وأتعجب عندما يضحك الناس. لا أهدف إلى الإضحاك لكن لا يضايقنى أبدًا حدوثه.
-تدور أحداث العملين فى الإسكندرية هل تتبع فى ذلك المنطق القائل اكتب عما تعرف أم أن هناك أسبابا أخرى؟
الرواية الأولى كان يجب أن تكون فى الإسكندرية، بالذات فى شوارع نشأتى ذاتها، من أين لى بجرأة أن أحكى عن غيرها وأنا لم أكتب من قبل؟ الرواية الثانية حاولت فى البداية أن تكون فى مدينة مجهلة، لكن العلاقة الملتبسة بين سكان الإسكندرية «العنطزة الإسكندرانية الفارغة بمعنى أصح» خدمت الرواية خير خدمة. وجود المدينة أو عدمه فى أعمالى المستقبلية يعتمد على قصص تلك الأعمال وما ستقودنى إليه. لا حيلة لى فى الأمر.
-فشل حمدى فى تحقيق حلمه بعد سلسلة إخفاقات عظيمة تليق بعنوان خيبة الأمل، وكبل المواطنون الشرفاء أرجل سكان الإسكندرية بالأرض وأرغموهم على نسيان التحليق فى خيبة أمل متكررة.. السوداوية تسيطر على الروايتين لماذا؟
لا أحاول تعمد السوداوية، لكن مثلما قلت من قبل، هواجس المرء الداخلية تجد سبيلها إلى بين السطور مهما حاولنا العكس. يومًا ما سأكتب حكاية عن بطل رائع حارب التنين وهزمه وأنقذ الأميرة، وعاش بمعجزة ما فى تبات ونبات، جديًا أتمنى أن أفعل، فقط لندعو الله ألا ترغمنى شياطينى الداخلية على العكس.
-هل تغيرت وجهة نظرك فى الجوائز بعد تجربة «خيبة الأمل»؟ كيف ترى جوائز الأدب على أى حال؟
الجوائز من المقاييس الهامة لجودة الأعمال الأدبية، لكنها ليست كل شيء. سأظل أسعى تجاه الجوائز بالطبع، فى النهاية أحب أن أقف على مسرح وأهز رأسى بتواضع مفتعل وأقول «أوووه... مكنتش متخيل أبدًا أنى حكسب» فى حين أنى كنت أحلم بذلك منذ عشر سنوات. لكن أعتقد أن عندى شيئا من الواقعية فى الحكم يجعلنى لا أرى فى الجوائز المعنى الأسمى.
- كاتب أم مترجم؟ فى أى منهما تجد نفسك أكثر؟ وهل كان الاتجاه للترجمة بديلا لصدمة الفشل فى النشر؟
كلاهما واحد بشكل أو بأخر.
التأليف ترجمة من لغة أفكار داخلية إلى لغة حروف وكلمات، والترجمة تأليف لنص جديد لم يكن يتخيل صاحب النص الأصلى شكله، ويختلف عن الأصل مهما ادعينا العكس. دخولى فى الترجمة كان صدفة لم أسع لها، لكنى تشبثت بها بعد أن جربتها، لن أتخلى عن كونى مترجما على المدى القريب.
أولًا لأن شعور المرء تجاه التأليف سيظل دائمًا وأبدًا ملتبسا، حتى لو أعطونى نوبل سأظل مقتنعا أنى لا أستحق شيئًا، وحتى لو لم يقرأ لى قارئ حرفًا سيظل جزء آخر يرى فى نفسه موهبة عظيمة مظلومة. التأليف لن يمنحنى الرضا والاستقرار النفسى أبدًا. الترجمة، يمكن إلى حد ما تقييمها بموضوعية وإصدار حكم منطقى أن هذا مترجم جيد أو غير ذلك. أنا بحاجة لليقين الجزئى الذى تمنحه لى الترجمة تجاه نفسي.
ثانيًا لأن ترجمة النص الجيد يمنح شيئا من نشوة تأليفه من العدم، فهى بالتالى ترياق لا بأس به أمام عدم اليقين العام الذى يصاحب التأليف.
وثالثًا، لأن الترجمة ممكن تأكل عيش، التأليف لأ، وأنا فى الأخر عايز أدفع الإيجار.
-هل تترجم فقط ما يتوافق مع ذائقتك ككاتب؟ وكيف ترى تأثير الترجمة على كتاباتك الشخصية؟
أحاول الآن أن أزيد من اختيار الأعمال فى الترجمة بحسب ذائقتى مقابل تلك التى أقبلها لعدم وجود غيرها، لكنى لازلت فى النهاية صغيرًا محدود الخبرة والقدرة والنفوذ، ليس كل ما أترجم من اختياري. ربما أصير يومًا صالح علمانى آخر وأختار ما أحب، لكن ليس الآن. ربما لا أشعر ببهجة كبيرة وأنا أترجم نصوصا لا أفضلها، لكن فى الواقع وجدت فى ذلك تدريبا مهم جدًا على تطويع لغتى وصوتى بحسب النص.
ترجمت «البطل بألف وجه» بين المسودة الثالثة والرابعة من طيران، ولو قرأت المسودتين بينهما ستجد اختلافات جذرية فى شكل اللغة والنص والمفردات «لا الحكاية والأفكار». أنا ممتن للترجمة لأنها جعلتنى روائيا أفضل.
-هناك حضور كبير للترجمات الآن ربما يفوق الروايات المكتوبة بالعربية فى كثير من الأحيان، هل يؤثر ذلك على رواج الروايات العربية ومستوى كتابتها.. كيف ترى المسألة؟
شيء عظيم طبعًا، ليس لأنى مترجم، بل لأن العالم مليء بكل أشكال الإبداع، خسارة أن نعيش ونموت دون أن نتعرض لها. إن كنا نقلق من تأثيرها على رواج الروايات العربية، فلنكتب روايات أفضل إذن. أم ترى أن علينا منع عرض الدورى الإنجليزى الممتاز كى نسمح للدورى المصرى بمزيد من الرواج؟
-ما الجديد لديك على مستوى الكتابة والترجمة؟
يقترب صدور كتابين مترجمين، أحدهما كتاب واقعى عن تأثير الذكاء الاصطناعى على الحياة مع دار نشر عربية صديقة. والآخر رواية لكورت فونيجت مع مركز المحروسة. أتحمس لرواية كورت فونيجت لأنى أحبه بشكل خاص من قبل أن أشرع فى الكتابة أو الترجمة، وأعتقد أنه من المؤثرين الأساسيين فى تشكيل صوتى فى الكتابة، وأرى أنه ظُلم فى المحاولات العربية الأولى لترجمته. أتمنى أن أوفق فى تقديمه للقارئ العربى بشكل ملائم. وأعمل على ترجمة عناوين أخرى لم يحن وقت الإعلان عنها بعد.
أما الكتابة الأصلية فلازلت فى أول مسودة لعمل جديد لازلت أنا نفسى لا أعلم عنه الكثير، بدأته فى منحة الإقامة الفنية بباريس، لكن أعتقد أنه لا يزال بحاجة لسنوات ليختمر.