القراءات النقدية
القراءات النقدية


القراءات النقدية ومحنة تأويل النص

أخبار الأدب

الثلاثاء، 27 أبريل 2021 - 11:26 ص

حسن‭ ‬محمد‭ ‬العمرانى

عندما‭ ‬يتردد‭ ‬هاجس‭ ‬المَلكة‭ ‬الإبداعية‭ ‬فى‭ ‬مخيلة‭ ‬الأديب‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬المنتج‭ ‬الأدبى‭ ‬فقط؛‭ ‬بل‭ ‬والتجويد‭ ‬فيه‭ ‬أيضاً‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يبدأ‭ ‬الصراع‭ ‬لخلق‭ ‬نصٍ‭ ‬يتجاوز‭ ‬المألوف‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬والأساليب‭ ‬المكرورة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار‭ ‬بما‭ ‬يروق‭ ‬لمخيلة‭ ‬المتلقى‭ ‬بوجه‭ ‬عام،‭ ‬ويليق‭ ‬بذائقة‭ ‬القارئ‭ ‬المثقف‭ ‬الأريب‭ ‬بوجه‭ ‬خاص‭. ‬ولأن‭ ‬الأديب‭ ‬المُطَّلِع‭ ‬يختزن‭ ‬فى‭ ‬ذاكرته‭ ‬الثقافية‭ ‬معطيات‭ ‬ورموزا‭ ‬تراثية‭ ‬ذات‭ ‬أبعاد‭ ‬دلالية‭ ‬عميقة‭ ‬فهو‭ ‬يحاول،‭ ‬من‭ ‬وجهه‭ ‬نظره‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬نقل‭ ‬أفكاره‭ ‬عبْرَ‭ ‬منظومةٍ‭ ‬مغايرةٍ‭ ‬من‭ ‬التشكيلات‭ ‬الفنية‭ ‬وأدوات‭ ‬التعبير‭. ‬ومن‭ ‬ثَمَّ‭ ‬نجده‭ ‬يحيد‭ ‬عن‭ ‬المعتاد‭ ‬من‭ ‬الألفاظ‭ ‬والصور،‭ ‬أو‭ ‬يعيد‭ ‬صياغتها‭ ‬وطرحها‭ ‬بفلسفة‭ ‬ربما‭ ‬تنغلق‭ ‬على‭ ‬المتلقى‭ ‬من‭ ‬عوام‭ ‬القراء؛‭ ‬بينما‭ ‬تنفتح‭ ‬على‭ ‬تأويلاتٍ‭ ‬عديدة‭ ‬لدى‭ ‬النخبة‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬والكتاب‭ ‬والنقاد‭. ‬

ولأن‭ ‬بعض‭ ‬النصوص‭ ‬تلقى‭ ‬أحياناً‭ ‬حراكاً‭ ‬نقدياً‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬به،‭ ‬يشعر‭ ‬بعض‭ ‬أولئك‭ ‬الكتاب‭ ‬والشعراء‭ ‬أنهم‭ ‬قد‭ ‬حققوا‭ ‬ما‭ ‬يرنون‭ ‬إليه،‭ ‬بل‭ ‬ينظر‭ ‬بعضهم‭ ‬بعين‭ ‬الرضا‭ ‬لما‭ ‬حَظِيَ‭ ‬به‭ ‬نصه‭ ‬الشعرى‭ ‬أو‭ ‬القصصى‭ ‬أو‭ ‬الروائى‭ ‬من‭ ‬القبول‭ ‬أو‭ ‬الذيوع‭ ‬النقدي،‭ ‬إن‭ ‬جاز‭ ‬لنا‭ ‬التعبير،‭ ‬وكأنه‭ ‬ألقى‭ ‬حجراً‭ ‬ليحرك‭ ‬البقع‭ ‬الراكدة‭ ‬فى‭ ‬محيط‭ ‬النقد‭.‬

ولهذا‭ ‬الصنف‭ ‬من‭ ‬الإنتاج‭ ‬الأدبى‭ ‬مغبَّته‭ ‬الكتابية‭ ‬اللا‭ ‬محمودة؛‭ ‬إذ‭ ‬ربما‭ ‬ينقطع‭ ‬حبل‭ ‬التأويل‭ ‬بين‭ ‬المبدع‭ ‬والمتلقى‭ ‬وقد‭ ‬تعترى‭ ‬النص‭ ‬ضبابيةٌ‭ ‬تحول‭ ‬دون‭ ‬تحقق‭ ‬اللذة‭ ‬الجمالية‭ ‬للقراءة‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وإدراك‭ ‬ماهية‭ ‬الفكرة‭ ‬أو‭ ‬الأفكار‭ ‬الرئيسية‭ ‬التى‭ ‬يرمى‭ ‬إليها‭ ‬الكاتب‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭. ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتحقق‭ ‬إحداهما؛‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬العنصر‭ ‬الآخر‭.‬

ولكن‭ ‬تظل‭ ‬بعض‭ ‬النصوص‭ ‬لها‭ ‬خصوصيتها‭ ‬ومداخلها‭ ‬التأويلية‭ ‬لدى‭ ‬النقاد‭ ‬الأكاديميين‭. ‬وتلك‭ ‬وظيفتهم‭ ‬التى‭ ‬بموجبها‭ ‬يفككون‭ ‬النص‭ ‬إلى‭ ‬شرائح‭ ‬بسيطة‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬فك‭ ‬الشفرات‭ ‬الدلالية‭ ‬والرموز‭ ‬الاستقرائية‭ ‬والدَوال‭ ‬البلاغية‭ ‬والمعادلات‭ ‬البنائية،‭ ‬وتقديمها‭ ‬للقارئ‭ ‬بشكل‭ ‬يخدم‭ ‬النص‭ ‬ولا‭ ‬يبخسه‭ ‬حقه‭ ‬فى‭ ‬المعالجة‭ ‬النقدية‭ ‬أو‭ ‬يزيده‭ ‬التباساً‭. ‬وتلك‭ ‬هى‭ ‬الوظيفة‭ ‬التى‭ ‬أراها‭ ‬فى‭ ‬نظرى‭ ‬تليق‭ ‬بالناقد‭ ‬البصير‭ ‬ذى‭ ‬الرؤية‭ ‬الثاقبة‭. ‬

وهناك‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬ليس‭ ‬بالنزر‭ ‬القليل‭ ‬ممن‭ ‬يضيفون،‭ ‬بقصد‭ ‬أو‭ ‬بدون‭ ‬قصد،‭ ‬للنصوص‭ ‬أبعاداً‭ ‬ونصوصاً‭ ‬نقدية‭ ‬موازيةً‭ ‬تتطلب‭ ‬جهداً‭ ‬ليس‭ ‬باليسير‭ ‬كى‭ ‬يؤلها‭ ‬القارئ‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬توفير‭ ‬الجهد‭ ‬لقراءة‭ ‬النص‭ ‬ذاته‭. ‬وغالباً‭ ‬ما‭ ‬يجد‭ ‬بعض‭ ‬القراء‭ ‬أنفسهم‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬مع‭ ‬نظريات‭ ‬ومصطلحات‭ ‬نقدية‭ ‬يسوقها‭ ‬الناقد‭ ‬أحياناً‭ ‬بالاسم‭ ‬مثل‭ ‬التناص‭ ‬والتعالى‭ ‬النصى‭ ‬وجامع‭ ‬النص‭ ‬والنص‭ ‬الموازى‭ ‬والميتانصية‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬المصطلحات‭ ‬التى‭ ‬لها‭ ‬وزنها‭ ‬فى‭ ‬سياقاتٍ‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬التى‭ ‬تقيم‭ ‬علاقات‭ ‬لا‭ ‬مشروعة‭ ‬ولا‭ ‬منطقية‭ ‬بين‭ ‬نص‭ ‬وآخر‭ ‬أو‭ ‬نمط‭ ‬وآخر‭ ‬دون‭ ‬مبرر‭. ‬

فالمعروف‭ ‬بالضرورة‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬بعض‭ ‬النصوص‭ ‬تفضى‭ ‬لمكنون‭ ‬بعضها‭ ‬للبعض‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬المناحى‭ ‬النقدية،‭ ‬شريطة‭ ‬توظيفها‭ ‬بشكلٍ‭ ‬تنجلى‭ ‬معه‭ ‬الملامح‭ ‬المشتركة‭ ‬بين‭ ‬نصين‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬كى‭ ‬يمنح‭ ‬أحدهما‭ ‬الآخر‭ ‬شعاعاً‭ ‬جمالياً‭ ‬كاشفاً‭. ‬أما‭ ‬الإسقاطات‭ ‬لا‭ ‬مبرر‭ ‬لها،‭ ‬فهى‭ ‬لا‭ ‬تسبر‭ ‬غور‭ ‬النصوص‭ ‬التى‭ ‬ربما‭ ‬لو‭ ‬ظلت‭ ‬على‭ ‬عواهنها‭ ‬لانسربت‭ ‬إلى‭ ‬عقل‭ ‬القارئ‭ ‬ومخيلته‭ ‬طيِّعةً،‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬لوسيط‭ ‬نقدى‭ ‬يفسد‭ ‬عليه‭ ‬تلك‭ ‬المتعة‭. ‬

وتبسيطاً‭ ‬للأمر‭ ‬يمكننا‭ ‬تصنيف‭ ‬هذه‭ ‬النوعية‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬ومن‭ ‬يجاريهم‭ ‬أو‭ ‬يشاكلهم‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬إلى‭ ‬صنفين‭: ‬صنف‭ ‬كالنَّحات‭ ‬وصنف‭ ‬كالمثَّال‭. ‬فالأول‭ ‬يمنحنا‭ ‬نصاً‭ ‬مكثفاً‭ ‬ومثقلاً‭ ‬بالمجاز‭ ‬والرمزية‭ ‬ومغالياً‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬فى‭ ‬العمق‭ ‬الدلالى‭ ‬بما‭ ‬يتطلب‭ ‬قريحةً‭ ‬نقديةً‭ ‬استثنائية،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تبدأ‭ ‬محنة‭ ‬الناقد‭ ‬فى‭ ‬تذليل‭ ‬عتبات‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬للمتلقي،‭ ‬فنجده‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬سياج‭ ‬النص،‭ ‬وتتعدد‭ ‬تفسيراته‭ ‬له‭ ‬دون‭ ‬النفاذ‭ ‬إلى‭ ‬مضمونه‭ ‬الأدبى‭ ‬وكشف‭ ‬أبعاده‭ ‬الجمالية‭ ‬الحقيقية‭. ‬وهناك‭ ‬المثَّال،‭ ‬وهو‭ ‬الصنف‭ ‬الآخر‭ ‬الذى‭ ‬يقدم‭ ‬نصوصاً‭ ‬مُسهِبةً‭ ‬فى‭ ‬الطول‭ ‬والدوران‭ ‬فى‭ ‬فلك‭ ‬الفكرة‭ ‬الواحدة،‭ ‬دون‭ ‬تنويعٍ‭ ‬يُذكر‭ ‬على‭ ‬مستويات‭ ‬الشكل‭ ‬والمضمون،‭ ‬فتنفك‭ ‬عرى‭ ‬النص‭ ‬وأواصره،‭ ‬وتتماهى‭ ‬مقوماته‭ ‬الفنية‭ ‬بما‭ ‬يفكك‭ ‬الوحدة‭ ‬العضوية‭ ‬ويجعل‭ ‬الأفكار‭ ‬تتواتر‭ ‬وتتنافر‭ ‬كجزر‭ ‬دلالية‭ ‬منعزلة‭ ‬عن‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭. ‬ويأتى‭ ‬بعض‭ ‬النقاد‭ ‬لوضع‭ ‬لمساتهم‭ ‬الأخيرة،‭ ‬فيجتزئون‭ ‬كل‭ ‬فكرة‭ ‬من‭ ‬سياقها‭ ‬الحقيقى‭ ‬ويعلقون‭ ‬عليها‭ ‬دون‭ ‬معالجة‭ ‬جادة‭ ‬للنص،‭ ‬ظناً‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬النصوص‭ ‬تسلم‭ ‬أفكارها‭ ‬للقارئ‭ ‬دون‭ ‬صعوبة‭ ‬أو‭ ‬إلغاز‭. ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬حَمْل‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬تدوير‭ ‬طاقته‭ ‬الإبداعية،‭ ‬نجدهم‭ ‬يضعون‭ ‬له‭ ‬أجنحتهم‭ ‬النقدية‭ ‬فيهيم‭ ‬فى‭ ‬فضاءاتٍ‭ ‬عبثيةٍ‭ ‬مُغرِقةٍ‭ ‬فى‭ ‬الذاتية‭ ‬الممجوجة‭. ‬وبين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬تتصارع‭ ‬الرؤى‭ ‬النقدية‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬البراح‭ ‬النقدى‭ ‬الإيجابى‭ ‬الفعال‭ ‬والإبداع‭ ‬الأدبى‭ ‬الماتع‭.‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة